مجلة الرسالة/العدد 107/محمد حافظ إبراهيم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 107/محمد حافظ إبراهيم

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1935


بمناسبة ذكراه الثالثة

كان الجيل الماضي بمصر لا يزال يعيش على بقايا تخلفت من تقاليدنا الجميلة في الجماعات والأسر، فالناس يجرون على أثر من خلال الفتوة، يرتاحون للندى، ويتنافسون في العرف، ويهتزون للبطولة، ويطربون للبيان، ويجيزون على الشعر؛ و (مناظر) الدور وأبهاء القصور تأخذ في كل مساء زخرفها من أهل الأدب ورجال السياسة وأصحاب الجاه وأرباب الحكم؛ وكان مدار الحديث فيها على النكتة البارعة، والخبر الطريف، والمسألة الدقيقة، والبلاغة المأثورة، يتساقطها السامرون على محض المودة ووثوق الألفة، فتفتق الذهن، وتصقل الذوق، وتوجه الميل، وتنيل الحظوة؛ وكانت المواهب والملكات تتفتح في جوانب هذه الأندية فتدل على نفسها أهلَ النفوذ فيُشبلون عليها حتى تزهر وتثمر؛ وكانت النهضة الأدبية والحركة الفكرية يومئذ في طور الانتعاش، تتحركان للنمو والسمو على نفحات المرصفي والبارودي والأفغاني وعبده وسلمان وحمزة والشنقيطي واليازجي والمويلحي ونديم وسعد وفحتي ومصطفى وقاسم؛ فالمجالس تُشيع جر الكلام، والصحف تذيع بارع النقد، والخديويون يتخذون من الأدباء ندامى، ومن الشعراء بطانة، حتى قر في نفس حافظ وأنداده من ناشئ الشباب الطامحين أن الأدب كان سبيل الثراء (لليثي)، وسبب المجد (لسامي)، ووسيلة الزلفي (لشوقي)، فتجهز لهذه الغاية بجهاز هذه البيئة، فروى رقائق الشعر، وجمع مقطعات الحديث، وراض نفسه على معاناة القريض.

كان عمر حافظ سنتين حين توفى أبوه فقيراً في (ديروط)، فنشأ في مهد اليُتم والعُدم لا يجد حانياً غير أمه، ولا كافياً غير خاله، فجاز مرحلة التعليم الابتدائي في ضيق وشدة، ثم قضى بضع سنين في طنطا متبطلاً يُزَجِّى فراغه بالقراءة ويدفع ملاله بالقريض، ولم يستطع خاله لسبب ما أن يجلو عنه غمة البائس، وذلة اليتيم، فكان لا يفتأ متبرماً بالعيش، متأففاً من الناس، متجنياً على القدر، لا ينشئ الشعر إلا في ذاك؛ ثم دفعته الحاجة إلى مكاتب المحامين - وكانت يومئذ مفتحة الأبواب لكل داخل - فتبلغ من العمل بها حيناً، حتى أسعفته الفرص فدخل المدرسة الحربية، وهي مطمح بصره وحديث أمانيه؛ ثم خرج منها ضابطاً إلى السودان ليشهد صلف الإنجليز وضراعة المصريين، فيثور مع إخوانه الضباط على جور المحتل وفضول الدخيل، فينفى فيمن نفي من السودان والجيش.

عاد حافظ كما كان يضطرب في الحياة النابية المبهمة، لا يستريض لعمل، ولا يستقر على أمر، ولا يتشوف إلى غاية، لأن طفولته الشاردة المهملة طبعته على الكسل والملل والتشاؤم والوحشة؛ ولأن عقيدته التقليدية الخاطئة أن الشعر وحده يشغل الحياة، ويبسط الرزق، ويكسب الحقوق، أحيته على نمط مسلم ابن الوليد وأبي نواس وأضرابهما، ممن عاشوا صنائع للملوك، وحمائل على الجوائز، ووسائل للهو؛ فأبى الوظيفة وهي على حبل ذراعه، وآثر أن يعيش في ظلال الإمام محمد عبدة ينتفع بجاهه ويفئ إلى رفده، ويغشى مع ذلك أبهاء النعمة يسامر أهلها بعذل حديثه، وينادمهم برقيق شعره، ثم يتطلع الحين بعد الحين إلى صلات القصر فيحجبه عنها شاعر الأمير بحوله وقوله.

ومن أدب الشعراء الكاسبين بالشعر أن ينفقوا إلى حد السفه إذا عاشوا في الحاضر كصريع الغواني وابن هاني، وأن يمسكوا إلى حد الكزازة إذا عاشوا في المستقبل كأبي العتاهية والبحتري، ومن الأولين كان حافظ!

تمتلئ يداه بالمال اليوم فيعتريه حال من البرم والقلق لا تنفك عنه حتى كله قبل الغد على إخوانه الكثيرين من طرائد البؤس وصرعى الأدب، ثم يطارحهم بعد ذلك على مقاعد القهوة الشعر الباكي في لؤم الزمان، وظلم الإنسان، وشقاء الأديب.

قطع حافظ مراحل عمره على هذا المنهج البوهيمي لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس؛ وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس.

تقوضت أسرة حافظ وهو في المهد، فشب وحشي الطبع معري الغريزة لا يتضح في نفسه معنى البيت، ولا يجري في حسه شعور الأسرة؛ ثم وقفت به قناعته الشاعرة عند الخد القريب من معالجة الأدب، فقصر جهده على صوغ الشعر في المناسبات، وجمع النوادر للسمر، حتى بلغ من ذلك مكاناً لا يتعلق به درك. ولكنه حين أريد على ترجمة البؤساء، وكتاب الأخلاق، ووكالة دار الكتب، أدركته علة النشأة، فقعدت به عن التمام، وخذلته عن الاحادة، وشلته عن العمل. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات