مجلة الرسالة/العدد 105/دراسات في الأدب الإنجليزي
مجلة الرسالة/العدد 105/دراسات في الأدب الإنجليزي
المذهب الواقعي وفن الدرامة
بقلم محمد رشاد رشدي
في المسرح الأغريقي:
أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث في هذا الموضوع أن ينقب عن الواقعية في عناصر الدرامة الثلاثة: في الموضوع والأشخاص والأسلوب. غير أن نسبة الواقعية في كل من هذه الأجزاء قد تختلف نظرياً - أي فيما يكتبه نقاد العصر عن الفن المسرحي - عما يباشر عملياً فوق مسرح العصر. ولذلك رأينا من الأوفق في معالجة هذا الموضوع أن نلقي نظرة سريعة على النقد المسرحي نتبعها بمطابقة هذا النقد للمسرح نفسه. والناقد الوحيد الذي نستطيع الاعتماد عليه في حديثنا عن المسرح الإغريقي هو أرسطو. .
كتب (أرسطو) في رسالته عن الشعر يتحدث عن الواقعية في الموضوع قال: (يتضح مما سبق أن مهمة الشاعر هي أن يصف - لا الشيء الذي حدث - بل الشيء الذي من المحتمل وقوعه - أي مال قد يكون ممكناً أو ضرورياً). وعلى هذا فوحدة الموضوع إنما تنشأ من مبادئ الواقعية الأساسية؛ فحوادث القصة يجب أن يتصل بعضها ببعض اتصالاً ممكناً أو ضرورياً تحتمه ظروف القصة نفسها وجوها الخاص بها. وكتب هذا الناقد عن أسلوب القصة المسرحية، قال: (يمكننا الآن أن نرى أن على الكاتب أن يخفي نفسه حتى يستطيع أن يتحدث طبيعياً لا صناعياً). ومن الجدير بالذكر هنا أن الأثر الذي يحدثه أسلوب (شكسبير) على المسرح لا يختلف واقعياً عن الأثر الذي يحدثه أسلوب (أوسكار وايلد) - أو (كونجريف) أو (شريدان) أو (برنادشو). أما عن شخصيات الدرامة فقد قال أرسطو: (من البدهي أن أشخاص القصة إما أن يكونوا أشخاصاً صالحين أو طالحين - ويتبع هذا أن بطل القصة إما أن يكون فوق مستوانا الخلقي والاجتماعي، أو تحت هذا المستوى - أو في نفس المستوى ومثلنا تماماً - غير أن من يتأمل الدراسة الإغريقية لا يجد فيها متسعاً لهذا الصنف الثالث من الشخصيات التي هي في مستوانا ومثلنا تماماً - على أن ذلك لا يمنع أن يكون للدرامة الإغريقية الحظ الأوفر من الواقعية، وان تكون بعيدة بعداً شاسعاً عن كل ما هو رمزي أو مثالي. وقد يبدو هذا مخالفاً للمألوف - غريباً - غير أننا سنحاول بسطه وتفصيله
(فالتراجيدية) الإغريقية تعالج في مجموعها ماضي الإغريق واساطيرهم؛ وهي لذلك يمكن أن تعد في القصة التاريخية - ويتضح قولنا هذا أن استطعنا تصور جماعة المتفرجين في مسرح أثينا، عند ازدهار الدرامة وانتشارها. فقد كان هؤلاء القوم على قسط من البداوة يسمح لهم بان يعدوا كل ما نظمه الشعراء من قصص الآلهة وأنصاف الآلهة تاريخاً قومياً لبلدهم وشعبهم؛ وان ما نراه نحن اليوم غريباً خرافياً في شعر أولئك الشعراء مثل ظهور الآلهة على المسرح، أو انبعاث الأشباح من قبورها، لم يكن هكذا غريباً أو خرافياً عند الإغريق الأوائل، بل كانت حقيقة تروى وتاريخاً يقص - نسبة إلى دينهم وحياتهم وقوة خيالهم الطفل - أما أن الدرامة التاريخية هي اقرب أنواع هذا الفن إلى الواقع والحياة فهذا مما لا ريب فيه - وقد كتب الناقد الإنجليزي (كولريدج) يقول (لأجل أن تكون الدراسة حقيقة تاريخية يجب أن يعالج موضوعها تاريخ القوم الذين تمثل لهم وتقص عليهم، - ونحن إذا أنعمنا النظر قليلاً وجدنا أن من الصعب أو من المستحيل أن تنشأ لشعب عاطفة وطنية ما لم يكن هذا الشعب على علم - ولو خاطئاً - بتاريخه وتاريخ بله - ومن هذا ينتج أنه في الدرامة التاريخية تكون العلاقة بين حوادث القصة على المسرح وبين المتفرج على مقعده قوية متصلة أقوى منها في أي نوع آخر من الأدب المسرحي. ومن المشاهد أن الكاتب المسرحي يتوخى ذكر هزائم التاريخ وسقطات الأبطال وفشلهم، فان هو ذكرها فإنما يذكرها معكوسة فلا توحي إلى نفس المتفرج يائساً ولا خيبة، ولكن تشعلها حماسة ووطنية، وإنا لنذكر حظ الشاعر الأثيني البائس الذي بنى قصته على فشل (أثينا) البحري في حربها مع (إسبرطة)، فكانت النتيجة أن الزمه قومه بدفع قسط من المال كبير عقاباً له وتأديباً وظهاراً لاحتجاجهم وسخطهم. فخلال هذا الشعور الذي تتاجج به نفس المشاهد، وخلال إحساسه بوحدة بلده وقوميته واتصال ماضيه بحاضره تقوي حوادث القصة التاريخية على المسرح إحساسه هو بنفسه وكيانه كما يقوي وجوده هو حقيقة القصة وصحتها ولونها الواقعي. ومهما يكن في المسرحية التاريخية من شذوذ أو بعد عن الإمكانية فان لونها الواقعي يظل أقوى الألوان جميعاً مادام التاريخ يكسوها ويظللها بظله غير أن هناك مأخذاً واحداً، هو أن أبطال تلك المسرحية هم دائماً أبداً فوق المستوى الاجتماعي العادي
الدرامة الرومانية:
لم تتقدم (التراجيدية) عند الرومان عما كانت عليه عند أسلافهم الإغريق - إن لم تكن قد انحطت وضعفت؛ أما في (الكوميدية) فقد كتب الناقد اللاتيني (دوناتس) ما يدهش له أقطاب المذهب الواقعي الحديث، قال: (الكوميدى هي مرآة الحياة البشرية) - وهو يذكر في موضع آخر أن (الكوميدية) تصف أشخاصاً معينين تتكون حياتهم من حوادث بسيطة عادية، في حين أن (التراجيدية) تختار لمسرحها قاعات الملوك الذين تتكون حياتهم من حوادث جسام ذات أثر خطير. وقد أصبحت مطابقة (الكوميدية) الرومانية للحياة والواقع أمراً مشهوراً عند كل من قرأها، فأسلوب كاتبيها (ترنس) و (بلوتس) هو أقرب أساليب الآداب القديمة إلى اللغة اليومية، كما أن جل أبطالها هم من الطبقة الوسطى، وحوادثها بسيطة عادية قد تقع كثيراً للقارئ أو للمشاهد في حياته الخاصة
إلى هذا الحد كانت (الكوميدية) الرومانية تطابق الواقع، غير أنا نشاهد فيها اتجاهاً غريباً يتنافى مع صبغتها الواقعية - وأعني به (تصنيف الشخصيات) - وينحو هذا الاتجاه نحو اختيار مثل خاص لكل شخصية من الشخصيات. فللابن مثل خاص معروف به لدى كل كتاب المسرح ورواده - كذلك لكل من العبد والأب والعاهر وكل شخصية يتكون منها المسرح مثل خاص؛ فلكل منهم أحاديث خاصة، وملابس خاصة، وصفات خاصة يعترف بها الجميع، حتى أن لونهم الإنساني وصبغتهم الواقعية تكاد تكون معدومة على المسرح
الدرامة الإنجليزية في عصر شكسبير:
ازدهرت الدرامة في هذا العصر بأنواعها الثلاثة: التاريخية والبيتية والشعرية أو الغرامية. أما النوع الأول فقد سبق أن تحدثنا عنه وسنتحدث الآن عن اللون الواقعي في كل من النوعين الآخرين
يحسب الكثير من الناس أن الشعر يتعارض مع الحياة والواقع، وأن القصة الشعرية يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الحياة، وخالية كل الخلو من اللون الواقعي؛ غير أن هذا الظن - في رأيي - خاطئ كل الخطأ
وإن أوضح تعريف للشعر أن نقول أنه ترتيب تجارب الشاعر في الحياة ترتيباً خيالياً عكس كل ترتيب لآخر فكري أو فلسفي. والشعر على العموم يأخذ شكلاً من تعبيرين: فهو إما أن يأخذ شكل الأسطورة، أو شكل المجاز والصورة، أو شكل الأسطورة والمجاز معاً. فشعر (ملتون) مثلاً يأخذ شكل الأسطورة، وشعر (دن) يأخذ شكل المجاز والصورة. أما في مسرحيات (شكسبير) العظمى فالشعر في القصة نفسها - في الموضوع - قبل أن يكون في الكلام والصورة - ونحن إن قصرنا الشعر على الكلام والألفاظ وجردنا منه موضوع القصة فاخترناه موضوعاً نثرياً مما قد يقع كل ساعة وكل يوم كان الأثر الذي لابد أن تحدثه القصة أثراً ضعيفاً بعيداً عن الواقع والحقيقة؛ وليس معنى الواقعية أن تكون القصة خالية من الشعر، فوجود الشعر لا يمنع وجود هذا اللون، بل هو يقوه ويزيده نضرة ووضوحاً؛ ويكفي أن يفكر المشاهد في نفسه أنه لو حدث له مثل ما يرى في القصة أمامه، ولو كانت له من الصفات مثل ما للبطل نفسه فسيحدث الحادث بنفس الطريقة، ومثلما حدث للبطل تماماً. . .
وقد يعترض البعض بأن اللغة الشعرية تجرد الكلام من لونه الواقعي - ولكن من منا قد دهش لروميو يتحدث شعراً، أو (لهاملت) يناجي نفسه ويحدثها حديثاً؛ لو أن (شكسبير) صاغه صياغة غير الشعر لجاء باهتاً، وضعيفاً، لا يؤدي معنى، ولا يحمل صورة. وإن من يقرأ قصة شكسبير (أنطونيو وكيلوباتره) ثم يقرأ بعدها قصة شو (قيصر وكليوباترة)، والأولى شعر والثانية نثر - ليرى إلى أي حد استطاع شكسبير أن يكسو القصة بشعره لوناً واقعياُ قوياً، في حين أنه لا يتمالك نفسه من الضحك أو ذوقه من النفور عندما يسمع (كليوباتره) تودع قيصر قائلة: ,
فلأجل أن يكون الشاعر واقعياً يجب أن يكون الشعر في عناصر قصته الثلاثة: في موضوعها وأبطالها وأسلوبها؛ وإن من يتأمل (شكسبير) من كل نواحيه يتضح له أن الشاعر الكبير كان إمام الواقعيين وسيدهم، فهو يسمعك شعراً ولكنه شعر يصف الحياة أدق وصف - حياة الجسم وحياة الروح - وأنت تحس وأنت تقرأه أن (ياجو) ما كان ليستطيع أن يقول غير ما قاله، أو يفعل (هملت) غير ما فعله ولقد قرأت قصة (مكبث) مراراً، فكنت في كل مرة أقف مبهوتاً أمام هذه السطور يحادث بها (مكبث) نفسه بعد أن منته الساحرات أمانيهن الخلابة، فأصبح في حيرة من أمره وأضحى خياله ملتهباً، وعقله مشتتاً:
(المخاوف الحاضرة أقل عناء من التخيلات الواسعة البعيدة، وإن عقلي الذي لم يقتل بعد كل القتل - يعصف هكذا بكياني كله - حتى لقد قبر الفكر في الحلم والتخيل، ولم يبق كائناً أمامي غير كل ما هو ليس بكائن). أقول إن شاعراً غير (شكسبير) ما كان يستطيع أن يعطينا وصفاً أدق من هذا، وأكثر مطابقة للواقع والحقيقة، لو استطعنا تأمل حالة (مكبث) الذهنية وهو يلفظ تلك الكلمات - و (شكسبير) دائم الجهد في أن يصبغ قصصه باللون الواقعي، فتراه في أعظم قصصه (التراجيدية) يدخل فصولاً وأشخاصاً مضحكة خفيفة، تقرب ما بين جو القصة وبين جو الحياة العادية - والأثر الواقعي الذي ينشأ من هذا لا ينتج من أن المضحك والمبكي يسيران جنباً إلى جنب في حياتنا، بل لأن اللون الواقعي في الشخصية المضحكة أشد وأظهر منه في شخصيات (التراجيدية)
فالشخصية المضحكة هي في الغالب تحت مستوانا الاجتماعي، ولذلك نميل نحن إلى تصديق صحتها والاعتقاد بوجودها أكثر من ميلنا إلى الاعتقاد بوجود شخصية أو شخصيات فوق مستوانا؛ ومن هذا كان (شكسبير) يستخدم أهل الطبقة الدنيا ليصبغ الكثير من قصصه بلون واقعي؛ خذ مثلاً شخصيتي حافري القبور في (هملت)، والبستاني في (ريبشارد الثاني)، وجماعة الممثلين القرويين في (حلم منتصف ليلة صيف)، وظهور شخصية (فالستاف) الفكهة بعد كل من المعركتين في (هنري الرابع)، وظهور شخصية المهرج (النول) في منظر العاصفة في (الملك لير)؛ والأمثلة غير هذه كثيرة، كما أن (شكسبير) لا ينهي رواية بنهاية حوادث القصة الأساسية، بل يعرض عليك فصلاً، وربما عرض فصولاً لا قيمة لها في القصة، غير أنها تكسبها لوناً واقعياً يدلك على أن الحياة ما زالت كما هي بعد موت بطل الرواية أو بطلتها
محمد رشاد رشدي
بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي