مجلة الرسالة/العدد 105/الميت الذي لا يموت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 105/الميت الذي لا يموت

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935


الشيخ محمد عبده

بمناسبة ذكراه الثلاثين

(عجب عجيب!! شيخ يلبس حلة مقطوعة الكم، ضيقة الردن، مبنقة الجيب، ويعتم على طربوش كطرابيش الأفندية، وينتعل حذاء كأحذية الفرنجة، ثم يتكلم الفرنسية ويصاحب الخواجات، ويغشي بلاد الكفر، ويترجم كتب أوربا ويأخذ عن جمال الدين، ويدرس المنطق على رغم ابن الصلاح، ويريد أن يدخل في الأزهر علوم المدارس، ويشتغل بالأدب، وينشئ المقالات للصحف؛ ثم يحرم (الدوسة) وينكر الوسيلة ويحلل الموقوذة، ويسوغ لبس القبعة، ويجيز الربا في صناديق التوفير، ويحاول الاجتهاد، ويفسر القران على غير طريق السلف. . .!!

نعوذ بالله من شر هذه المحنة وعواقب هذه الفتنة، ونسأله أن يقبضها على منهج السنة وعقيدة الجماعة. . . .)

هكذا كان يقول جمهور (العلماء) في صحن الأزهر حين انبلج نور الإصلاح من جبين محمد عبده، كما كان يقول مشركو قريش في فناء الكعبة حين انبثق نور الهدى من غرة محمد رسول الله! لأن دعوة الدين فجأت الكعبة على دنيا مقلوبة الأوضاع، في الأخلاق والطباع، فقال الناس حين رأوا رجلاً رأسه في السماء ورءوسهم في الأرض: انظروا كيف يريد أن يبدل نظام الكون ويغير خلق الله؟! ولأن دعوة الإصلاح باغتت الأزهر على سكون كذهول البله، وخمود كغشية الموت، واستغراق كخدر الأفيون، من طول ما تنكرت له الأحداث، وطغت عليه البدع، وعثت فيه الجهالة، فارتد إلى مثل تكايا الصوفية، أو صوامع الرهبان، يقطع أهله عن الناس، ويجري بهم إلى الخلف، ويعيش معهم في الماضي، ويجعل المثل الأعلى لرجل الدين أن يتوفر على مسائل الفقه، ويتقيد بآراء السلف، ويتعبد بألفاظ الموتى؛ فلما نبههم الإمام إلى أن الدين للدنيا، والعلم للعمل، والعلماء إنما يخلفون الأنبياء ليظل أثر الدعوة شديداً، وحبل الدين جديداً، وخلافة الله قائمة، فتحوا أعينهم على رجل يخالف سمته سمت البيئة، وزيه زي القوم، ورأيه رأي الحلقة، فاستوحشوا من ناحيته وأنكروه، ثم قالوا معتزلي مبتدع! قال الأستاذ الإمام وهو ينفض باسماً ما حثوه على عطفيه من الظنون والتهم: لا صلاح للدين إلا بصلاح الأزهر، ولا قيامة للدنيا إلا بقيامة أهله! ثم استعان على خصومه بالإحسان والنصيحة والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع يمناه في أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنهم الغرب فانغضوا رءوسهم إلى مدينة الإسلام، وذووا وجوههم عن ثقافة العرب، يحاول أن يصل بين الثقافتين، ويوفق بين العقليتين، ويجعل من هؤلاء وهؤلاء وحدة متسقة الفكر، متفقة الهوى، متحدة الغرض، تؤلف بين الدين والعلم، وتقرب بين الشرق والغرب، وتصل بين الماضي والحاضر؛ فنجح على قدر ما ينجح الأنبياء والمصلحون في إبان الدعوة، يهيئون الأرض في رجف من الخصومة، ويبذرون البذر في عصف من المعارضة، ثم ينفثون في اتباعهم القليلين المخلصين أرواحهم الخالقة وقواهم الخارقة، ليكونوا من بعدهم أوصياء على الغراس، وشهوداً على الناس، وأدلاء على المحجة

لا ريب أن الإمام محمداً كان من أولئك الأعلام المصطفين الذين يوضح الله بهم طريق الإنسانية من قرن إلى قرن؛ وأخص ما تميزهم به الطبيعة متانة الخلق، وصلابة الرجولة، وشدة الأسر، وقوة الحيوية، وحدة الذهن، وصفاء الملكة. ورث عن أبيه وثاقة التركيب، وشجاعة القلب، فشب نابياً على الضعف، أبياً على السكون؛ يريد أبوه أن يكون تلميذاً كلداته في المكتب، فيأبى هو إلا أن يكون زارعاً كأخوته في الحقل! ويرسله أبوه إلى المعهد الأحمدي يطلب العلم، فيفر منه إلى مدارج السبل يطلب الفلاحة! لان حفظة القران وحملة الفقه كانوا موضع العطف من القلوب لقلة الكسب وضعف الحيلة؛ وحيويته تأنف الخمود، وحريته تأبى القيود، ورجولته تعاف الشفقة

ثم لجأ إلى الشيخ درويش خال أبيه، وهو صوفي عالم من أهل البحيرة، سار في الأرض حتى بلغ طرابلس الغرب، فأخذ الشريعة والطريقة على السيد محمد المدني؛ والتصوف في المغرب يقوم على ذكر الله بالاستحضار، وتلاوة القران بالاستذكار، ورياضة النفس بالتأمل؛ فأخذ يروض جموح طبعه بالصلاة، ويلطف حميا شبابه بالذكر، ويطفئ غليل قلبه بالدرس، حتى فتح السبيل بين نفسه وبين الوجود الأبدي والكمال المطلق

ثم اتصل بالسيد جمال الدين فتولى عقله يثقفه بالمنطق، ويكلمه بالحكمة ويقويه بالملاحظة؛ فكان لهؤلاء الثلاثة: أبيه مربي جسمه، وشيخه مربي روحه، وأستاذه مربي عقله، أبلغ الأثر في تكوين صفاته وتوجيه حياته وتبليغ رسالته. . .

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات