مجلة الرسالة/العدد 105/القصص
مجلة الرسالة/العدد 105/القصص
من أساطير الإغريق
نهاية هرقل
للأستاذ دريني خشبة
12 - رحلة هرقل إلى الدار الآخرة
لم تكن محفوفة بالمكاره هذه الرحلة إلى الدار الآخرة؛ فقد سلك هرقل سبلاً من قبل كان الموت يجثم له في كل خطوة فوقها، وكانت المنايا تتربص به، ثم تفر منه أخر الامر، كأنما كان هو موتاً للموت، ومنية للمنية، وفناء للفناء
اسقط في يد حيرا حين عاد هرقل بتفاحات هسبريا، واستولى عليها الجزع حين رأت إلى التنين لادون مضرجاً بدمه، فوسوست في صدر يوريذوس أن يأمر البطل فيحضر له سير بيروس من الدار الآخرة!!
وسير بيرسون هو ذلك الكلب الهائل ذو الرؤوس الثلاثة، الذي رأيناه يعدو في اثر بلوتو - إله الموتى - حينما زار هذه الدار الأولى ليخطف برسوفنيه، وهو أبدا يربض عند قدمي سيده الجالس فوق عرش هيدز، يقلب في غيهب السفل أعينه الستة، كأنها انجم تحترق في فحمه ليل بهيم، وهو أيضاً أداة تعذيب في دار الأبدية، ينشب أظفاره في أرواح المجرمين، ولا يفتأ يكرع من دمائهم حتى يروى!
وكانت الحرية تشيع بالآمال في قلب هرقل، وكان هو قد برم بهذا الرق الأسود الذي كتبته عليه السماء؛ فانطلق يعدو إلى دار الموتى، وبين يديه طائفة من الآلهة تهديه وترشده؛ حتى إذا كان قاب قوسين من السدة القاتمة الدجوجية، ووجد سير بيرسو مقعياً يغط في نوم عميق، وإله الموتى مستلقياً يقلب في حضنه القوي برسفونيه الجميلة، انقض على الكلب فخنقه حتى لا يعوي فتعاويه كلاب الجحيم كلها وتكون هنالك الطامة. . .! وانتفتل من دار الظلمات وفي نفسه من الرحمة لهذه الأرواح الهائمة ما أسال دموع الحنان من عينيه الحزينتين!
وانخلع قلب يوريذوس حين لمح الكلب الهائل! لقد كانت الظلماء تتدجى في أشداقه فتكسف الشمس الوضاءة، وترد نور النهار المتلألئ ديجورا يلج في ديجور!!
وكان الزبد ينتثر من أفواهه كأنه ندف يساقط من علٍ في ليل عاصف!
وكان ذيله الطويل الضخم يتلوى ويتثنى كأنه ذنب هيدرا أو ذيل لادون!
وكان يعوي وينبح فيقلقل الجبال المجاورة، ويزلزل قصور أرجوس!
وانظر إلى الملك الجبان!
لقد قفز من عرشه مما ألم به من الهلع، وانطلق إلى مخزن الغلال المجاور فاختبأ في خابية عظيمة أغلقها على نفسه حتى كاد يختنق، والى لا يخرج حتى يعود هرقل بسير بيروس إلى هيدز!
وهكذا أصبح هرقل حراً، وألقيت عن كاهله هذه الربقة التي أذلته طويلاً، وتلفت حوله فوجد الحياة تتبرج كأنها غانية، ووجد كل شيء بساماً ضاحكاً يدعوه إلى اللهو والمرح، والأخذ بنصيب مما تفيض به هذه العاجلة من مباهج ومغريات
وذهب في رهط من أصدقائه والمعجبين به من الإلهة إلى الأولمب ليلقى أباه وليقدم له طاعته، وليرى هل يتوب عليه من غضب لا يستحق منه كثيراً ولا قليلاً. . .
ولقيه أرباب الأولمب هاشين باشين، واخذوا يتندرون بمجازفاته العجيبة التي انتصر فيها على سبع نيميا والأفعوان هيدرا ومحاربات الأمازون. . . . .
واغرقوا في الضحك حين ذكر أطلس وما كان من أمر الحيوية!!. . . . واقترح هرمز على الإلهة أن يصارعوا هرقل ويلاكموه، ويباروه في العدو والسباحة والعاب القوى، لتتم بذلك بهجة لقائه، وليعبروا عما يكنونه له من حب، ويضمرون من إعجاب. فأقيم ملعب الأولمب الفخم، وشيدت على جوانبه المدرجات العجيبة التي تتسع لألف ألف من الإلهة وأنصاف الإلهة وكبار المدعوين من عباد برومثيوس
وتم مهرجان الألعاب، وحاز هرقل قصب السبق في اكثر المباريات؛ وكان هذا هو الأولمبياد الأول الذي اخذ اليونان يحتفلون بمثله كل خمس سنوات
وتتابعت السنون. . .
ومر هرقل بقوم يبكون؛ وقيل له أن أدميتوس ملك تساليا مرض، فتمنى على الإلهة أن تمنحه الخلود في هذه الدار الدنيا، فأجيب إلى ما تمنى، بشرط أن يحل محله أحد أهل بيته إذا حضره الموت، وهنا تقدمت زوجه المخلصة ألسستيس فضحت بنفسها كي ينجو بعلها من الموت، وليخلد ما شاء له الخلود. وماتت الزوج الوفية فداء للملك. وينظر أرميتوس إلى ملكه الشاسع فيراه بغيضاً لا خير فيه؛ ويكون في حاشيته فيشعر بوحشة وانقباض كأنه يعيش في صحراء؛ ويقدم إليه الطعام فلا يكاد يسيغه؛ وترقص القيان بين يديه فيثرن في نفسه الاشمئزاز كأنهن جنة تدمدم في ظلام غابة. . .
ويبغض الدنيا. . .
ويود لو كانت زوجه الجميلة المخلصة إلى جانبه لحظة واحدة وتتلاشى الحياة بكل من فيها. .!!
لذلك يبكي الملك، ويبكي حوله شعبه الأمين!
ويذكر هرقل أنه وحده يستطيع أن ينفذ إلى هيدز - دار الموتى - فيستنقذ ألسستيس من براثن الفناء، ويردها معززة مكرمة إلى زوجها المسكين فيهدأ قلبه، ويرقأ دمعه، وتستقر نفسه، ويفيء إلى أمر هذا الشعب الذي تكبكب حوله يعول وينتحب. . .
ونفذ البطل إلى ظلمات الدار الآخرة، وسأل الأرواح الهائمة فدلته على منامة ألسستيس؛ فتغفل حارسها الجبار وخنقه، واختطف الفتاة الناعسة وفر بها دون أن تشعر به زبانية بلوتو
وعادت الطمأنينة إلى قلب الملك، ورفرف السلام على المملكة
هرقل وأومفاليه
وذهب هرقل يذرع الأرض، واشترك في حملة الأرجونوت ضد السنتور، وأنضم إلى الإغريق في حصارهم الأول لطروادة
ولقي رجلاً ذا خيلاء وكبر فقتله ظالماً، وكان زيوس ينظر من علياء الأولمب، فعبث وبسر، وقضى أن يظل هرقل في خدمة أومفاليه ملكة ليديا بضع سنين
وتجهم هرقل، ولكنه لم يكد يبدأ خدماته التافهة للملكة، حتى راعه جمالها، واستهوته مفاتنها، وأحس للمرة الأولى في حياته المشحونة بالمخاطر أن قبساً يتأجج في قلبه يوشك أن يجعله ضارماً وحلا في فمه ما مر من الذل، وطاب ما كره من العبودية، وود لو قضى الحياة في ظلال هذا الحب الأول مغموراً برضى الملكة، سعيداً بما أفاء عليه جمالها من هناء ونعيم وبال. ولكن الإلهة لم تقر بهذه السعادة فأرسلت بطلها لمآرب أخرى
زواج هرقل
وطوف هرقل في أقصى الأرض حتى انتهى إلى كاليدون، مملكة أونيوس، ولقي ابنته الناهد الهيفاء تجمع الزهور في خميلة غناء. وكان قلبه قد نهل من خمرة الحب، وكانت عيناه قد ثقفتا نظرات الغزل، وكان لسانه قد انحلت عقدته عن وحي الهوى، فانطلق يلاعب الفتاة ويداعبها، وينمق لها من الورد والرياحين باقات تتكلم بالشذى، وتهتف بالخضرة والحمرة، وتصافح الروح بالعبير الفياح
وأنست ابنته الملك بهرقل واطمأنت إليه، وبثها وبثته، وتشاكيا ما شاء لهما الغرام الروي، والحب الفتي، والدمع المسكوب!
وعلم منها أن أخيلوس، أحد إلهة الأنهار، قد خطبها إلى والدها، وان الملك قد أجابه إلى ما أراد:
(فهل اسعد بان تزيح هذا الكابوس عن قلبي؛)
(وتقف حائلاً بيني وبين الشقاء الذي يتربص بي؛)
(فنكون اهنأ زوجين ينعمان بلذة الحب، ويرفلان)
(في برد السعادة، ويتغنيان مع الطير الحان الهوى)
(والحياة!!. . . . . . . . . . . . . . . . . .)
هكذا بكت ديانيرا إلى هرقل، فهاجت في قلبه نخوة البطولة ونحيزة المغامرة، وأطلقت في كل عظلة من جسمه المكتنز كهرباء الحماسة والاستبسال:
(قري عيناً أيتها الحبيبة، فليس ايسر)
(على هرقل من حرب الإلهة. لقد صرعتهم)
(جميعاً في حفل الأولمب؛ وقد مر بي من المغامرات)
(ما ينخلع من بعضه من قلب أخيلوس. . . . . .)
وستأذن هرقل على الملك، وحيا احسن تحية، ثم طلب يد ديانيرا. . . . وكان أونيوس يعرف من بأسس البطل وعظيم قوته ما يعرف كل ملوك هيلاس وأمرائها؛ وكان قد أجاب أخيلوس إلى خطبته وهو يعلم من سخط ابنته على هذا الزواج ما يعلم؛ فلما تقدم إليه هرقل استبشر وقال: (. . . . . . لقد كنت يا بني وعدت أخيلوس أن يبني على ديانيرا، وهو من تعلم في الحول والطول والجبروت، ولكني مع ذاك لا أفضله عليك، بل نجعل لكما يوماً تلتقيان فيه؛ فمن يصرع صاحبه كان كفؤاً لديانيز)
وقبل هرقل، ورضى أخيلوس؛ واجتمع الناس من كل فج يشهدون الصراع العظيم بين الجبارين العنيدين. . . وكان كل واثقاً بنفسه، لا يخامره أدنى شك في أنه فائز على صاحبه. فلما تقابلا، ثار من حولهما النقع، وكانت أنظار الناس كالمتصلة بسواعدهما بأمراس شداد؛ وبعد قليل أخذت الأرض ترجف من تحتهما، وطفق الملعب يهتز بمن فيه من خلق كثير. . . وكانت ديانيرا تشرف من مقصورتها وتكاد تغص بريقها إشفاقاً على هرقل، وكان هو كذلك، كلما خارت قواه، نظر أليها النظرة تتجد بها روحه وتتضاعف مرنه ويمتلئ قلبه بالآمال. . . . . . وكان أخيلوس قد فطن إلى جبروت هرقل، وكان يستطيع أن يتشكل بأي خلق اراد، فجعل يتقلب من ثعبان ضخم الجثة، إلى تنين عظيم الجرم، إلى أسد بادي النواجذ، إلى. . . ما شاء له سحره وقوة حيلته من أشكال وأوضاع. .: ثم انقلب إلى عجل جسد ذي قرنين كبيرين، وشرع ينطح هرقل، وهرقل يتقيه، حتى استطاع البطل أن يأخذ بقرنيه بكلتا قبضتيه، وجعل يخبط برأسه الأرض في عنف وغل، حتى كسر أحد القرنين وفر أخيلوس من الميدان هارباً. . . لا يلوي على شيء. . . ودوى الملعب بالتصفيق، واندلعت الحناجر بالهتاف، وتدفق الناس نحو هرقل يحملونه على الأعناق. . . وتقدمت ديانيرا فحياها البطل بقبلة فردوسية خالدة، ما يزال صداها يرن على شفاه المحبين. . وتم العرس. . . وانطلق هرقل بزوجه يجوب الآفاق. .
وحدث أن اعترضه نهر عظيم لم يستطع أن يعبره ومعه ديانيرا. فبينما كان يعمل فكرته كيف يقتحمه، إذا سنتور عظيم يعرض عليه أن يحمل زوجه فيعبر بها إلى العدوة الثانية سالمة آمنة، ثم يرتد فيحمله إليها كذلك؛ وقبل هرقل، ونسى ما كان بينه وبين السنتور من عداوة وبغضاء، وحرب قديمة تدمى لها قلوبهم، وتقرح نفوسهم، وأعان هرقل زوجه فاستوت على ظهر السنتور، وخاض بها الماء وهو يطفر من الفرح، ويحلم بالمنى والآمال. فما كاد يبلغ الشاطئ الأخر حتى عدا عدواً شديداً ليكون بمنجاة من سهام هرقل. ولكن ديانيرا صرخت صرخة داوية نبهت ما غفل من سمع زوجها؛ فلما فطن إلى خيانة السنتور، شد قوسه العظيمة، وأرسل إلى دبر السنتور سهماً مراشاً كان قد شرب من دم هيدرا حتى ارتوى!
وأحس السنتور بسم الموت يخترم حشاشته، وبرودة الفناء تشيع في جسمه البدين، فاقسم ليكدن لهرقل، فيذقه من هذا السم الذي سقى به سهامه ما يودي به. فقال لديانيرا: (أيتها الفتاة! لا تثقي أن حب هرقل دائم لك، بل اكبر الظن أنه منصرف عنك إلى فتاة أخرى تكون أسبى وأصبى. وما أحسبك إلا ذاكرة كيف كان يتفانى في حب أومفاليه. فخذي قميصي هذا فاحفظيه لديك، حتى إذا أحسست من زوجك جفوة، أو رأيت فيه ازوراراً، فابعثي به إليه ليلبسه، والقي في روعه أنه يحفظه من أعدائه. فانه أن فعل، عاد إليك بقلب مفعم بالحب، ونفس ملتاعة كلها شوق وتوق. . .) وخر السنتور ميتاً!
وأخذت ديانيرا القميص المضرج بالدماء المسمومة، وفي نفسها من الهم شيء عظيم! (من أومفاليه هذه؟! كان يحب أومفاليه؟ كان يحب فتاة غيري؟ وحق زيوس لأسألنه! هاهو ذا قد سبح إلى الشاطئ!)
ولقيته فسالته، فاعترف لها بكل شيء، وطمأنها على محبته وإخلاصه. . . . ولكن قلب المرأة لا يعرف هذا الاستسلام المعسول للكلمات الناعمة! فقد ظل الوسواس يدب في نفس ديانيرا، حتى كان هرقل في إحدى جولاته، وكانت هي عند أبيها ملك كاليدون؛ فطالت غيبته، وذهبت بها الظنون من اجل ذلك كل مذهب
وذكرت القميص ورددت عبارات السنتور، فنهضت من توها وأرسلته مع إحدى وصيفاتها إلى هرقل في منآه البعيد. وأوصت الوصيفة أن تذكر له من مآثر القميص ما وسوس به السنتور. فلما لبسه هرقل، التصق به التصاقاً، واخذ السم يشيع في جسمه الحديدي فيذيبه ويفتته. . .
وصرخ البطل بلا جدوى! وكلما حاول انتزاع القميص، كان جلده يتمزق، ولحمه يتهرأ، ويتصبب الدم من فوق ومن تحت. . . ثم أخذت نفسه تساقط أنفساً. . . وطفقت روحه تودع هذا الجثمان الهائل في دموع سخينة وآهات حارة. . .
ولفظ نفسه الأخيرة وهو يبكي ويقول: (فدى لك نفسي. . . يا. . . ديا. . . نيرا!)
(وهوى إلى الأرض ما كان من الأرض، ورفرفت)
(الروح الكبيرة في جمهرة من أرواح الإلهة التي أقبلت)
(من الأولمب تزف ابن زيوس العظيم. والكل ضاحك)
(مستبشر أن ألقى أخوهم حمله الثقيل، وخرج الأولمب)
(جميعاً يستقبل البطل ويهتف باسمه في عليين!. . .)
وحمل الجثمان الطاهر إلى جبل أوتيا، حيث دفن في إجلال وإعظام، وحيث وقفت ديانيرا ترويه بدمعها العزيز.
دريني خشبة