مجلة الرسالة/العدد 104/النهضة التركية الأخيرة
مجلة الرسالة/العدد 104/النهضة التركية الأخيرة
3 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
شذرات من كلام محمد إقبال
أقفى على ما كتبته في المقال السابق عن موقف المسلمين من تقليد أوربا بشذرات من الفيلسوف الشاعر الهندي محمد إقبال تؤيد ما قلت. وهي شذرات من كتابه جاويدنامه، وهو رحلة خيالية في الأفلاك والجنة تضمنت آراء إقبال في الإسلام والمسلمين، وسأتكلم عنها في مقالات أخرى، وإن تكن هذه الشذرات طويلة فالحق لا يضره الطول. قال على لسان سعيد باشا حليم حينما لقيه في فلك عطارد مخاطباً المسلم: (قم فصوّر بنفسك عالماً آخر، وامزج العشق بالذكاء الباهر. إن شعلة الإفرنج أصابها الماء فهي خامدة، فالعيون ناظرة والقلوب هامدة؛ أصابت سيوفهم منهم المقاتل، فسقطوا كصيدهم في المجاهل. فلا تطلب الحرقة والنشوة من كرومهم، ولا ترجّ عصراً جديداً في أفلاكهم. في نارك أنت حرقة الحياة ونورها، وعليك أنت بعثها ونشورها قال مصطفى وهو يتغنى بالتجديد: (لابد أن كل قديم عتيد.) إن الكعبة لا تجد فيها الحياة، إذا جاءها من أوربا اللات ومناة. وا أسفا ليس في رباب التركي نغمة جديدة، جديدة قديم أوربا الغالبة. لم يكن غير هذا النفس في صدره، ولم يكن سوى هذا العلم في ضميره. فلا جرم سكن إلى العالم الموجود، وذاب كالشمع في حرقة العلم المشهود. وكم في طباع الكائنات من طريف وجديد، ليس في تقويم الحياة هذا التقليد، إن القلب الحي يخلق العصور، وينفر من التقليد أي نفور
إن يكن لك قلب المسلم الولهان، فأنظر في ضميرك والقرآن، كم عالم جديد في آياته. وحسب العصر الحاضر واحد من عوالمه، إن نفذ قلبك إلى بواطنه، إن المؤمن من آيات الله الوهاب، يابس العوالم لبس الثياب. كلما قدم عليه عالم منحه القرآن عالماً آخر. . . الخ
وهذا حديث من الكتاب نفسه بين نادر شاه ملك إيران وزنده رود (محمد إقبال) حينما التقيا في الجنة:
نادر:
مرحباً بالشاعر المشرقيّ، الذي يجدر به اللسان الفارسيّ، إني محرم للأسرار فأفش أسرارك، ماذا عندك عن إيران الوطن المبارك؟ زنده رود:
فتح عينه على نفسه حيناً، ثم وقع في الشرك سريعاً. هو صريع دلال أوربا الفاتنة هام بها فأتبعها، وفتن بزينتها فقلدها، همّه اليوم الملك والنسب، وذكر سابور وتحقير العرب، أوقاته من الواردات خاليه، يطلب الحياة من القبور البالية. تحدث بالوطن مذهل عن نفسه، وترك حيدراً وهام برستمه! الخ
ويقول على لسان إبدالي ملك الأفغان في القرن الثاني عشر حينما لقيه في الجنة
أبدالي:
ذهل الشرق عن نفسه بما قلد الغرب واتبعه، ولابد للشرق أن ينقد الغرب فيفهمه، ليست قوة الغرب من العود والرباب، ولا من رقص الفتيات بغير حجاب، ولا من سحر ورديات الخدود، ولا من الساق العارية والشعر المجدود. وليست هيبة الغرب من نبذ الدين، ولا بهاؤه من حرف اللاتيني. ما قوة الإفرنج إلا العلوم والفنون، وما ضوء مصباحهم إلا من هذه النار. ما الحكمة صورة من الزي واللباس، وما تمنع العلم والفضل عمامة على الرأس؛ إن للعلم والفن أيها الشاب النافر، سراً وراء هذه الظواهر؛ وإنما يغنى في هذه السبيل العين النظارة، لا هذه العمارة أو تلك العمارة؛ حسبك الفكر النفاذ، وناهيك بالطبع الدرّاك. إن ملك المعنى لم يحجره أحد، ولا يناله إلا الجهاد والجلد، لقد غفل التركي عن نفسه، وسكر من الإفرنج رأسه، فشرب من يدهم السم حلو المذاق، وترك عامداً ترياق العراق، ولست أدعو له إلا بالهداية والسداد. إن عبد الإفرنج قد أولع بالظهور، فأخذ عنهم الغناء والفجور، يضني روحه في اللهو والفتون، ويستصعب الجد فيركن إلى المجون. يؤثر السهل إيثاراً لراحته، ويرى في السهل كفاء لفطرته. وإنما طلب السهل في هذه المحن إيذان بأن الروح قد فارق البدن)
ويقول في خاتمة كتابه خطاباً للجيل الجديد:
(آسيا موطن الشمس ومشرقها ترى غيرها وتحتجب عن نفسها، قلبها محروم من الواردات الجديدة، فهي اليوم لاتزن شعيرة؛ وقتها في معترك هذه الدار جامد ساكن لا يلذ التسيار. هي صيد الشيوخ وقنيص الملوك، وغزال فكرها ظالع منهوك. العقل فيها والدين والعلم والشرف والعار من ربقة السادة الإفرنج في إسار. هجمت على عالم أفكارها، ومزقت حجاب أسرارها، وجعلت قلبي في صدري دماً حتى صبغت عالمها لوناً آخر. . . .
شباب عطاش كؤوسهم فارغة، ووجوههم نضرة، ورؤوسهم مضيئة، وأرواحهم مظلمة، ضعاف البصر قد حرموا اليقين والأمل، لم تدرك أعينهم شيئاً في هذا العالم، يكفرون بأنفسهم ويؤمنون بغيرهم؛ إن منكر الحق عند الشيوخ كافر، ومنكر نفسه عندي أكفر)
ثم أعود إلى الكلام فيما فعله الكماليون فيما يسمى (النهضة التركية الأخيرة)، وأقدم قبل الكلام ترجمة البلاغ الذي أذيع على الناس قبل فتح المجلس الكبير بأنقرة ليتبين القارئ أين ابتدأت هذه النهضة وأين انتهت:
نشرت الهيئة التمثيلية التي مهدت لاجتماع مجلس الأمة الكبير بأنقرة هذا البيان قبل فتح المجلس:
1 - بمنة الكريم سيفتح مجلس الأمة الكبير في أنقرة يوم الجمعة الثالث والعشرين من نيسان بعد صلاة الجمعة
2 - اختير يوم الجمعة لفتح مجلس الأمة الكبير الذي سيؤدي الوظائف الحيوية الخطيرة مثل إنقاذ مقام السلطنة، والخلافة، واستقلال الوطن. ويستفاد من بركة هذا اليوم فتؤدى صلاة الجمعة في جامع الحاج بايرام ويحضرها المبعوثون كلهم، للتيمن بأنوار القرآن والصلاة. وبعد الصلاة يسار باللحية المباركة واللواء الشريف إلى الدائرة المخصوصة
وقبل الدخول إلى الدائرة يتلى دعاء وتذبح الذبائح. وفي هذه المراسم تنظم الفرق العسكرية، من الجامع إلى الدائرة المخصوصة.
3 - لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يبدأ اليوم بتلاوة الختمة الشريفة والبخاري في مركز الولاية بترتيب الوالي، وتؤخر الأجزاء الأخيرة من الختمة الشريفة لتتلى أمام الدائرة يوم الجمعة بعد الصلاة
4 - لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يشرع منذ اليوم (في كل الجهات) في قراءة الختمات الشريفة والبخاري، وتقرأ الصلوات الشريفة على المنارات يوم الجمعة قبل الآذان؛ وحينما يذكر أثناء الخطبة الاسم الهمايوني العظيم أسم حضرة صاحب الخلافة سلطاننا يدعى بصاحب الشوكة ولممالكه الشاهانية ولرعاياه بالخلاص والسعادة. وبعد أداء الصلاة يكمل الختم وتلقى المواعظ في تبيين خطر وقداسة المساعي الملية التي يراد بها خلاص مقام الخلافة المعلى والسلطنة وأقسام الوطن كلها، وفيما يجب على كل فرد من المؤازرة في تأدية الوظائف الملية التي يقوم بها المجلس الكبير المؤلف من نواب الأمة. ثم يدعى بالخلاص والسلامة والاستقلال لخليفتنا وسلطاننا، وديننا ودولتنا، ووطننا وملتنا، وبعد إيفاء هذه المراسيم الدينية، والخروج من الجامع، يجتمع الناس في مركز الحكومة في كل البلاد العثمانية، للتهنئة بفتح المجلس. ويقرأ المولد الشريف في كل جهة قبل صلاة الجمعة بصورة مناسبة
5 - وتتخذ كل الوسائل لاذعة هذا البيان، ويبلغ سريعاً إلى أبعد القرى، وأصغر الفرق العسكرية، وكل مؤسسات الدولة، ويعمل في لوحات مخصوصة، ويطبع ويوزع مجاناً حيث ما أمكن ذلك
6 - نضرع إلى جناب الحق أن يهبنا التوفيق الكامل
باسم الهيئة التمثيلية
مصطفى كمال
ذلك ما أفتتح به الكماليون عملهم؛ فلما أتيح لهم النصر شرع القادة منهم يتنكرون للإسلام. وكان أشدهم إفراطاً في ذلك الغازي مصطفى كمال باشا الذي كان المسلمون جميعهم يعدونه بطل أبطالهم غير مدافع. ولست أدري أيعود الكماليون فيتوسلون بالدين إذا وقعوا في محنة أخرى. ولست أود لهم المحن بل ادعوا لهم بالعافية والهدى. حدثني من أثق به عن الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله أن الغازي قال له مشيراً إلى القرآن الكريم: (لن تفلحوا ما دام هذا الكتاب البالي أمامكم) وحدثني آخر من كبار الرجال أن الغازي رمى بالمصحف ساخراً؛ وكان يأمر فتترجم له بعض آياته ليتخذها هزواً. ألم يكن للنهضة التركية بدّ من هذا؟ لقد سبقنا الأوربيون في كل سبيل وما سمعنا عن ملك من ملوكهم أو زعيم من زعمائهم أنه فعل هذا بالتورات والإنجيل. ولو فعله بعضهم لكان فعلة شنعاء لا يقتدي بها العقلاء. وقد قرأت في إحدى الجرائد الإنكليزية منذ سنين بعدااأن ملك الإنكليز يواظب على قراءة فصول من التورات منذ أربعين سنة لأن أمه أوصته بهذا
وقد كتب الكماليون في دستورهم أول الأمر أن دين الدولة الإسلام، ثم عادوا فمحوا ذلك منادين بأن الدولة لا دين لها. ثم عمدوا إلى القوانين المدنية، وهي مستنبطة من الشريعة الإسلامية فنبذوها واستبدلوا بها قانون سويسرا. وليسوا أول من يلام على ذلك، فقد سبقهم المصريون فسنوا للمسلمين هذه السنة السيئة، ولكن الكماليين كانوا بدعاً من الأمم في اختيار قانونهم الجديد. فما كان هذا القانون وليد عاداتهم، ولا نتيجة حاجاتهم، ولا منتهى ما رآه أولو الأمر منهم، بل أتوا بالقانون السويسري مجموعاً مطبوعاً مجلداً، وعرض على المجلس هذا المجلد مطبقاً، وأخذت الآراء فأجمع عليه الأعضاء، فأنتقل قانون سويسرا إلى الأناظول في ساعة، وصار الأناظول سويسرا، وصار أهله سويسريين، وأنجاهم الله من القوانين الإسلامية البالية، إذ أنزل عليهم قانوناً جديداً مطبوعاً مجلداً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
ومما ابتدعه الكماليون التأذين باللغة التركية. وقد ترجموا القرآن من قبل إلى لغتهم فعذرناهم وقلنا لابد للمسلم أن يفهم قرآنه، والتركي لا يستطيع أن يفهم القرآن بالعربية فلا مناص من ترجمته إلى لغته؛ والأمر في الأذان غير هذا، فهو تسع كلمات ممدودات صارت شعاراً للمسلمين في أقطار الأرض كلها يفهمونها على اختلاف لغاتهم؛ ليس في الأرض مسلم لا يعرف معنى الله أكبر ومحمد رسول الله، والصلات والفلاح، وأن يكن في الأرض مسلم لا يفهمها وجب عليه أن يفهمها احتفاظاً بهذا الشعار، واستمساكاً بهذه الكلمات الجامعة بين المسلمين. فما بال الكماليين أصروا على التأذين بالتركية؟ ذلك بأنهم لا يبالون بالرابطة الإسلامية، وما أحسبهم إن استمرت لهم هذه السيرة إلا سيلغون الأذان كله فيستريح السادة المترفون من هذه الضوضاء. ذهبت مرة إلى جامعة أكسفورد فتعشيت في إحدى كلياتها مع الطلبة. فلما جلسنا على الموائد أقبل جماعة من الأساتذة إلى مائدة تسمى المائدة العالية، فوقف الطلبة، وتلا أحد الأساتذة دعاء باللاتينية. ولما انتهى الطعام وقف الطلبة خاشعين فاستمعوا إلى دعاء آخر باللاتينية. وهناك شواهد كثيرة على احتفاظ الأمم في بعض أمورها بكلمات من لغات غير لغاتها احتفاظاً بذكرى تاريخية أو إبقاء على سنة دينية. وأذكر هنا أن في أكسفورد تسع عشرة كلية مع كل واحدة منها كنيسة، والطلبة ملزمون بالتناوب على الصلات في أوقات معينة، فهل منع هذه الإمبراطورية البريطانية من أن تسود العالم؟ أو كان هذا بعض الأسباب التي مكنت لها في الأرض؟ ولا ننسى هنا أن الجامعة المصرية حينما شيد بناؤها على طراز أوربي لا مصري ولا عربي لم يتم بنائها التقليد ببناء المساجد، ييسر للطالب المصلي تأدية الصلاة، فكأنه أكره على ترك الصلات إكراهاً. وقد تكلمت في هذا فقيل لي أن في تخطيط الجامعة م سجداً. ولست أدري متى يشيّد هذا المسجد المخطط؟ لماذا نؤمن ببعض سنن الأوربيين ونفكر في بعض؟ ولماذا يا قوم نقلدهم في المراقص ولا نقلدهم في بناء المعابد في الجامعات؟ وقد كان لنا مصليات في مدارسنا، وكان لها أئمة يصلون بالطلبة، ولكنا شعرنا بتوغلنا في المدينة وتقدمنا في العلوم والفنون فخجلنا من الإبقاء على هذه السنن القديمة فأهمناها فدرست ونسيت!
ومما فعله الكماليون آخراً تحويل جامع آيا صوفيا كنيسة بمحو ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث، والكشف عما ستره المسلمون من صور القديسين والملائكة والصلبان ونحوها من نقوش المسيحية؛ وقد أحتج لهم من يدافع عنهم بالحق وبالباطل بأن بناء المسجد وهي، ولم يبق صالحاً لإقامة الصلوات فجعلوه متحفاً وكشفوا عن هذه الصور الأثرية، فهل معنى هذا أن الكماليون أشفقوا على المصلين أن يخرّ عليهم المسجد فأرادوا أن يفدوهم بروّاد المتاحف لا يبالون أن يسقط عليهم المتحف أو لا يسقط؟ هل بلغ الولع بالآثار القديمة عندهم أن يمحوا الآيات القرآنية ليكشفوا عن الرهبان والصلبان؟ على أن هذه الآيات قد كتبت بخط جميل يجعلها من الفنون الجميلة، ومضت عليها عصور تجعلها من الآثار القديمة
لست أرى في ما صنعه الكماليون بآيا صوفيا إلا إنفاذاً للمنهاج الذي وضعوه. فهذا جامع كان كنيسة معظمة عند النصارى، وقد فتح المسلمون القسطنطينية فجعلوا من آيات الفتح والظفر تحويل الكنيسة إلى جامع فطمسوا نقوش النصرانية فيها، وبنوا لها منارتين، ونصبوا أمامها لوحاَ كتبوا فيه حديثاً مروياً عندهم: (لتفتحن القسطنطينية! ولنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها!) ولا يزال التركي كلما مرّ بهذا الجامع ذكر الفتح والفاتح، وغلبت الإسلام في هذه المدينة ونحو هذا مما لا يلائم (النهضة التركية الأخيرة) ولا يساير المدنية الحديثة، ثم لا يزال هذا الجامع حسرةً في نفوس النصارى، ما نسوه قط، وقد أعربوا عن أملهم في تحويله إلى كنيسة يوم احتل الحلفاء الآستانة في الحرب الكبرى فتجمع الروم حول آيا صوفيا ليستولوا عليه فيعود سيرته الأولى. فكان لزاماً أن يمحوا الكماليون هذه الآية من نفوس الترك وغيرهم من المسلمين، لينسوا الماضي وينظروا إلى الحاضر. وليتقربوا إلى أوربا النصرانية التي التزموا محاكاتها في كل شيء. وما بالكم أيها المسلمون تكرهون هذا التسامح في الدين وأنتم تزعمون إن دينكم دين التسامح؟ ستقولون أن أوربا النصرانية لا تتسامح معنا فنجزيها تسامحاً بتسامح، ولا يزال كثير من مساجدنا في الأندلس والبلقان كنائس في أيدي النصرانية. وفاتكم أيها المسلمون أننا أولى بالتسامح منهم فلماذا لا نبدؤهم به!!!
وقلد بلغني أخيراً أن الحكومة التركية هدمة المسجد الجميل مسجد المدرسة البحرية هيبه لي أطه، هذا المسجد الذي كان يشرف على بحر مرمرة يوحي إلى المسلم أن دينه ينبغي أن يعز في البر والبحر، فأن صدق هذا الخبر، ولست على يقين منه، فهو حلقة من هذه السلسلة
(له بقية)
عبد الوهاب عزام)