مجلة الرسالة/العدد 103/محاورات أفلاطون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 103/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- حدّثني إذن ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حيّاً بحلوله فيه؟

فأجاب: هو الروح

- أهذه هي الحال دائماً؟

فقال: نعم، بالطبع

- إذن فمهما يكن ما تملكه الروح، فإنها إذا تأتيه تحمل إليه الحياة؟

- نعم، يقيناً

- وهل ثمة ضد للحياة؟

فقال: نعم هناك

- وما هو ذاك؟

- الموت

إذن فلن تقبل الروح أبداً، كما اعترفنا، ضد ذلك الذي نسوقه. ثم قال: والآن، بماذا سمّينا ذلك العنصر الذي يقاوم الزوجي؟

- الفردي

- والعنصر الذي يقاوم الموسيقيّ أو العادل؟

فقال: غير الموسيقيّ وغير العادل

- وبماذا نسمّي ذلك العنصر الذي لا يقبل الموت

فقال: الخالد

- وهل تقبل الروح الموت

- كلا

- إذن فالروح خالدة؟ فقال: نعم

- أيحق لنا القول بأن ذلك قد ثبت بالدليل؟

فأجاب: نعم يا سقراط، لقد ثبت بأدلّة كثيرة

- وإذا فرضنا أن الفرديّ لا يخضع للفناء، أليس يلزم أن ثلاثة غير قابلة للفناء؟

- طبعاً

- وإذا كان الشيء البارد غير قابل للفناء، ثم جاء العنصر الدافئ يهاجم الثلج، أفلا ينبغي أن يتراجع متماسكاً متجمّداً لأنه عندئذ يستحيل عليه أن يفنى كما كان يستحيل عليه أن يبقى مع قبوله للحرارة؟

فقال: حقاً

- وكذلك لو كان العنصر الذي لا يبعث لبرودة، أي الدافئ، مستعصياً على الفناء، لما فنيت النار وما انطفأت حين تغير عليها البرودة، ولكنها تنأى بغير أن تتأثر؟

فقال: يقيناً

- ويمكن أن يقال هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك على الفناء، لاستحال فناء الروح حين يهاجمها الموت، إذ يدخل البرهان السابق على أن الروح لن تكون قط ميتة، فلن تقبل الموت أكثر مما تقبل ثلاثة أو العدد الفردي الزوجي، أو النار، أو الحرارة التي في النار، البرودة، ومع ذلك فرب أحد يقول: (ولكن على الرغم من أن الفردي لن يصير زوجياً حين يقترب الزوجي منه، فلماذا لا يجوز أن يفنى الفردي وأن يحل مكانه الزوجي؟) ونحن لا نستطيع أن نجيب من يتقدم بهذا الاعتراض بأن العنصر الفردي مستعصياً على الفناء لأن ذلك لم يعترف به بعد، فلو قد اعترف بهذا لما أشكل علينا الزعم بأن العنصر الفردي والعدد ثلاثة يهمان بالرحيل حين يقترب الزوجي، وهذا البرهان بعينه كان يصح عن النار وعن الحرارة وعن أي شيء آخر

- جداً صحيح

- ويجوز هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك عن الفناء، إذن لكانت الروح مستعصية على الفناء كالخالد سواء بسواء، فإن لم يكن، وجب أن يقام برهان آخر على استحالة فناءها فقال: ليس بنا من حاجة إلى برهان آخر، إذ لو كان الخالد - وهو سر مدى - عرضة للفناء، للزم ألا يستحيل الفناء على شيء

فأجاب سقراط: نعم، فكل الناس مسلّون بأن الفناء مستحيل على الله وعلى صورة الحياة الروحية وعلى الخالد بصفة عامة

قال: نعم، كل الناس بذلك مسلمون - هذا صحيح، وأكثر من هذا، فهم مجمعون - إن لم أكن مخطئاً - على أن الآلهة كالناس في ذلك

- وإذن فما دمنا قد رأينا أن الخالد لا يناله التخريب، أفلا يلزم أن تكون الروح مستعصية على الفناء كذلك - ما دامت خالدة؟

بكل تأكيد

- إذن فحين يهاجم الموت إنساناً، فقد يتعرض الجزء الفاني منه للموت، أما الخالد فينأى عن طريق الموت حين يحفظ مصوناً سليماً؟

- حقاً

إذن يا سيبيس فالروح خالدة بغير شك، وهي مستعصية على الفناء، وستحيا أرواحنا حقاً في عالم آخر!

فقال سيبيس: إني مقتنع يا سقراط، وليس لدي بعد ذلك ما اعتراض عليه. فإن كان عند صديقي سمياس، أو عند أحد سواء اعتراض آخر، فيجمل به ألا يلتزم الصمت وأن يعلنه. اللهم إن كان لديه شيء يريد أن يدلي به، أو كان يود لو أدلى به، فلست أرى أن يجود عليه الدهر بأنسب من هذه اللحظة، حتى يجوز له أن يرجئ إليه الحديث

فأجاب سمياس: ولكن ليس عندي ما أقوله بعد ذلك، بل لست أرى مجالا للشك، إلا ما ينشا حتماً عن ضخامة الموضوع وضعف الإنسان، فذلك ما لم يسعني إلا أن أشعر به

فأجاب سقراط: نعم يا سمياس فقد أحسنت قولاً: أضف إلى ذلك أن المبادئ الأولى يجب أن تبسط للبحث الدقيق حتى وإن كانت تبدو يقيناً، فإذا ما استوثقنا منها وثوقاً مرضياً، استطعنا بعدئذ، فيما أضن، في شيء من الإيمان المزعزع بالعقل البشري، أن نتتبّع مجرى البرهان، فإن ألقيناه واضحاً لم يكن بنا بعد ذلك حاجة لسؤال

فقال: ذلك صحيح (يتبع)

زكي نجيب محمود