مجلة الرسالة/العدد 1023/حياة المازني
مجلة الرسالة/العدد 1023/حياة المازني
المرأة في حياة المازني
ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
عاش المازني ما عاش - وقد شارف الشيخوخة - لا ينبض قلبه بغير الشباب. وكانت سنه التي لا تكف عن الارتفاع - كما يقول - تغريه من فرط ما يستشعر امتدادها أن يحسب حوادث حياته بأرباع القرون لا بحساب عدد من السنين، ولكنه إذا ذكر شجون قلبه ومنازل هواه كان كأنما يطوي الأعوام الطوال في لحظات، ويختزل العمر كله في مثل كرة الطرف، وتحس أنه ينقل إليك على الصفحات أو في الكلمات، نبضات قلب فتى يتفتح على حبه الأول في براءة وطهارة ونقاء. .
لهو أطفنا ببكر لذته ... وما فضضنا خواتم العذر
عرف المازني الحب وهو بعد فتى ناشئ، وكانت (هي) جارة له صغيرة في مثل سنه، كالنرجسة فيما يراها. وكان بدأ ما بينهما أنه لقيها يوماً عائدة إلى بيتها، فإذا صارت في (الحارة) إذا هي زحلوقة لا تثبت فيها القدم من كثرة الماء المرشوش، فأسندت يدها على الحائط وناولته يدها الأخرى. ويقول المزني: (لما صارت يدها في يدي شعرت بشيء من الزهو ممزوجاً بالغبطة، وخفت على يدها اللينة البضة أن تؤذيها قبضتي - التي خيل إلي أنها قوية - فجعلت أصابعي حول رسغها حيث العظام فيما بدا لي أقوى على الاحتمال. وكانت مضطرة أن تعتمد علي بجسمها وتلك أول مرة دنت مني أو دنوت منها إلى هذا الحد، وكان شعرها محلولاً ومرسلاً على كتفيها على صدرها فجعلت أدني أنفي منه وأشمه، ولم يكن معطراً كنت أجد له ريحاً طيبة، فلحظت ذلك مني وسألتني وقد جذبت يدها قليلاً: ما هذا الذي تفعله؟
قلت: إني أشمك.
قالت: تشمني! قلت: إن لشعرك رائحة طيبة، فهل من بأس أن أشمه؟
قالت: كلا لا تفعل.
قلت: قد فعلت وانتهى الأمر.
(ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يوماً بعد الغروب، وكان الباب موارباً فرأيتها تسقي أصص الزهر في فناء البيت. فوقفت أتأملها لحظة وهي تقبل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رفق وهمست باسمها فلم تسمع، فأعدت الهمس فانتبهت كالمذعورة وقالت: إبراهيم؟ وكررت ذلك. فاقتربت منها وقلت: نعم! هل أفزعتك؟ ووقفت: شفتاها مفترقتان ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم اكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقت أن أراها وأن اقف معها لحظة أحادثها، وقالت: لقد كان يجب أن أفزع فما سمعتك تدخل، ولكن الغريب انك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأصص، فكدت أصيح لا أدري لماذا، وقلتك أصحيح هذا؟ إنه يسرني. قالت ضاحكة: لم أكن أفكر فيك تفكيراً يسرك، لقد كنت ساخطة عليك. فضحكت مثلها وقلت: ماذا جنى هذا الشقي يا ترى؟ قالت: لست ساخطة لأنك فعلت شيئاً، لقد كنت عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله هناك تقريباً، وأنت لا أثر لك في البيت ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز. قلت: إني أفضل أن ألقاك هنا، ويسرني أن أجدك وحدك. قالت: وهل كنت واثقاً أنك ستلقاني هنا؟ قلت: كلا. قالت: إذن لم جئت الآن؟ قلت: لا أعلم. اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت. ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب، ففتحت عليها عيني وأتأرتها النظر فتراجعت خطوة وهي تقول: ينبغي أن ادخل. فوقفت أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق، وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتين، ثم صاحت: يدي! يدي ستحطمها. فانتبهت وأطلقت يدها وأسفت. فقالت بصوت عذب: دعني أدخل بالله.
وبعد شهور عدت من المدرسة فإذا هي ووالدتها في بيتنا، ففرحت، وكانت يدي ترتجف وعيني إلى الأرض. وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: خذ. وناولتني عوداً من ثمر الحناء، فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: سنذهب إلى الريف. فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟ قالت: عاماً، أتستكثر ذلك؟ قلت: بالطبع. ماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟ قالت: كيف يعنيك أن تعرف؟ وضحكت، فجلت ضحكتها في صدري ونفت مخاوفي، ونظرت إليها معجباً وأحسست بالدم يتدفقفي عروقي، وبأنفاسي تسرع. وحمل إلي النسيم ألوان طيب شعرها، فمددت يدي إلى كفها وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها ألمس شفتيها بفمي، فصا وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج، كلا، لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية. وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبلها. ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي ثم رفعتهما وقبلتهما وقلت لها: أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة. فأجابتني بهزة خفيفة من رأسها. فقلت: لست غاضبة، أعلم ذلك وإلا فما قبلتك، تكلمي. فقالت همساً: دعني أذهب، إني خائفة. فقلت: إنك جميلة، جميلة. وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهراً وبطناً. ثم سحبت يديها ببطء ووضعتهما على صدرها، وقالت وهي تتلعثم وترتجف: قل لي ما هذا؟ قلت، ووضعت يدي على يديها فوق صدرها: هذا؟ ألا تعلمين أنه الحب؟ فتنهدت وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: سأذكرك دائماً قلت: كلا هذا لا يكفي. ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: سأحبك دائماً).
وكان هذا بيننا آخر لقاء!
وبلغ المازني مبالغ الشباب، وصار طالباً بالمدرسة الخديوية، وكان يؤم سمته كل صباح من البيت إلى المدرسة عن طريق درب (الجماميز). فلمح ذات يوم فتاة في مثل سنه يتبعها خادم نوبي يحمل لها حقيبتها وكتبها، وكانت تأتزر، أي تتخذ (حبرة) وتضع على وجهها برقاً أبيض ينسدل من أرنبة الأنف ويحجب ما تحته - الفم والخدين والعنق. ووقعت الفتاة من نفسه وشغلته محاسنها وعرف المازني أنها تلميذة في المدرسة السنية، وأنها تقطن نفس الحي في الناحية الأخرى منه. فصار يترصد خروجها وأوبتها ليشبع عينه من التملي بها، ويهدهد ما علق قلبه من الهيام والصبابة، وما كان حظه ليزيد عن النظر المجرد، (ولم أكن أكلم حبيبتي هذه، ولا كانت تكلمني، ولكن على الأيام صارت العين تقع في العين). . . ولعل الفتاة قد أحست بغريزتها معنى نظراته هذه، وألهمتها طبيعة الأنوثة ما كان يشده إليها ويجذبه نحوها فقد كانت حلوة ممشوقة، يزيدها فتنة وحسناً رداؤها الجميل الذي يوحي بالنعمة والرفاهية، ويلقي عليها سواد الحبرة اللماع وبياض النقاب ظلاً من السحر يغري بارتياده. وكانت كلما التقيا تلقي إليه بنظرة، ينقلب بعدها قرير العين مثلوج الخاطر. وظلا هكذا يتعارفان بالنظر دون الحديث مدة عامين. ثم شاء القدر أن يفترقا دون أن يعرف أحدهما اسم صاحبه أو شيئاً عنه.
ووسع قلبه الشاب أن يجدد علائقه وأن يجيب نداء الحب لأنه عنده نداء الحياة. بل إذا كان أثقل عليه الشعور بالحرمان أوحى إلى نفسه الحب، وقد يفعل الإيحاء فعله ويحدث أثره، ويتهيأ له الشوق الطبيعي والرغبة الصادقة إلى من يجاوبه هذا الإحساس. فلم يخل قط من حب يستجد علاقته ويهيئ أسبابه، أو كما قال (ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي!).
وفي وصف تلك الفترة يقول الأستاذ العقاد من قصيدة له إلى المازني:
أنت في مصر دائم التمهيد ... بين حب عفا وحب جديد
بين ماض لم يذبل الحسن منه ... وطريف كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت الطي ... ر عن الأيك وهو جم الورود
ثم تزوج المازني وهو في سن العشرين، وكان - كما يقول لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى ولا عن الزواج إلا أنه وسيله مشروعة لتعارف الجنسين. فلم تكد تبدأ حياته الزوجية حتى صارت - بعد شهور - إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد. وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية. وقضى في جحيم هذا الخلاف ثلاث سنوات لم ينجه من عواقبه إلا درس طبيعة المرأة وغريزتها، وعاش مع زوجته ضعف هذا الزمن (كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات) ثم ماتت هذه الزوجة فحزن عليها حزناً بالغاً دل على ما كان يكنه لها من حب. ونستطيع أن نضع حبه هذا لزوجته إلى جوار ذلك الحب الذي عرف ألواناً منه من قبل، لأنه في الحالين يصدر عن وتر واحد في نفسه وإن اختلفت أصداءه بين حين وحين. فليست زوجة وحسب من تكون عند زوجها عنواناً على الجنس كله وإشارة إلى عالم الأنوثة بأسره، ومن تجمع له إحساسه المتعدد بالحياة في إحساس فرد تكون هي محوره ومداره.
يتبع
محمد محمود حمدان