مجلة الرسالة/العدد 1022/الجناس التام في القرآن
مجلة الرسالة/العدد 1022/الجناس التام في القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ذكر صاحب الإتقان وتابعه صاحب الوسيلة الأدبية أن ليس في القرآن الكريم من الجناس التام إلا مثالان: قوله تعالى من سورة الروم (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا ساعة) ومن سورة النور (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
وقولهم هذا إن صدق فليس بذي خطر، فليس يهم أن يكون في القرآن جناس تام أو لا يكون، فما الجناس التام إلا نوع ضئيل من الجناس، وما الجناس إلا نوع واحد من المحاسن البديعية، وما هذه إلا باب من الأبواب التي تتحقق بها موسيقى التعبير في فصيح الكلام، وهي الموسيقى التي بلغت كمالها وتمامها في القرآن. لكن القضية من حيث هي جديرة بالتمحيص لاتصالها بالقرآن الكريم من ناحية، ولبعد فيها من ناحية أخرى فمن البعيدأن لا يحوي القرآن على سعته إلا مثالين اثنين من الجناس التام.
إن المحاسن اللفظية وجدت في فصيح كلام العرب وفي القرآن العزيز قبل أن تسمى بأسمائها في علم البيان أو البديع. فالعلم يستقري الموجود ويصنفه ويضع لأصنافه الأسماء. وما أظن العلمين أحاطا بكل الموجود من أصناف تلك المحاسن. وموضع اللطف في الجناس التام إذا لم يفسده التكلف أنه يلفت الذهن إلى معنيين مختلفين بلفظ واحد يذكر بمعنى ويتكرر بمعنى. فهو من حيث المعنى كلمتان مختلفتان، ومن حيث المنطق كلمة واحدة. ومن الواضح أن السليم العفو منه لا يكون في الغالب إلا في المشترك من الألفاظ.
وليس لما اشترطه بعضهم في الجناس التام من ألا يكون أحد المعنيين مجازياً محل ولا حكمة ما دام موضع الحسن هو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى؛ فاللفتة الذهنية هي سواء أكان المعنيان حقيقيين كلاهما، أم كان أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً.
ولعل هذا الشرط الذي اشترطوه هو الذي ضيق عليهم الواسع من أمثلة الجناس في القرآن. وحتى مع هذا الشرط فإن في القرآن الكريم من الجناس التام أمثلة فوق الذي ذكروا لا يدرى كيف خفي عليهم مكانها وهم من هم في الدقة والتنقيب وتمام العناية بالقرآن.
وهم يقسمون الجناس التام قسمين، فما كان بين لفظين من نوع واحد كأن يكونا اسمين أو فعلين سموه متماثلاً، وإلا فهو مستوفي. ولكل أمثلة في القرآن الكريم.
فمن أظهر أمثلة المستوفي مثلان: الأول في قوله تعالى لأسرى بدر من سورة الأنفال: (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم) فإن خيراً الأولى اسم، وخيراً الثانية أفعل تفضيل. أما المثل الثاني ففي قوله تعالى من سورة المؤمنون بعد أن نفى أن يكون معه سبحانه إله غيره: (إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) فإن الجناس بين الفعل علا والحرف على تام ظاهر لا ينقص منه دخول لام التوكيد على الفعل قياساً على دخول فاء العطف وأداة التعريف على أحد ركني الجناسين دون الآخر في بعض الأمثلة المشهورة في علم البديع.
أما المتماثل منه فأمثلته في القرآن الكريم متعددة، نذكر الآن منها عدداً ليرى القارئ البصير فيها رأيه. وما نظنه يخالفنا فيها كلها إن خالفنا في بعضها. فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال (وما رميت إذ رميت إنما الله رمى) فإن رميت الأولى المنفية لا يمكن أن تكون بمعنى رميت الثانية المثبتة، وإلا كان ذلك من التناقض المستحيل على القرآن. فلابد أن تكون الأولى بمعنى أصبت وتكون الثانية على ظاهرها بمعنى رميت، إشارة إلى قذف النبي ﷺ الحصى أو التراب في وجوه المشركين في غزوة بدر وما كان من انهزامهم عقب ذلك. فالرمي بمعنى القذف هو من النبي، والرمي بمعنى إصابة أعين المشركين حتى انهزموا هو من الله سبحانه. فاللفظ واحد والمعنى جد مختلف.
وفي الحق أن هذا المثال يفتح باباً واسعاً للجناس التام في القرآن هو باب الآيات التي ينسب فيها نفس الفعل أو الشيء إلى الخالق سبحانه وإلى المخلوق في وقت واحد، إذ من الواضح أن المعنى لا يمكن أن يكون واحداً في الحالين وإن اتحد اللفظ؛ كما في قوله تعالى حكاية لقول سيدنا عيسى يوم القيامة تبرؤا من أن يكون دعا الناس إلى عبادة نفسه وعبادة أمه من سورة المائدة (إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فإن (نفس) هنا في تكرارها ذات معنى يختلف في الموضعين اختلافاً كلياً حسب نسبتها إلى عيسى أو نسبتها إلى الله سبحانه. وإن جاز أن يكون اختلاف الضمير المتصل مخرجاً لهذا المثل عن تمام الجناس في منطق اللفظين.
وإذا عدنا إلى الأمثلة المألوفة وجدنا مثالا آخر في أول سورة الرحمن في قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
وعجيب أن يكون مثل الزمخشري وقد فهم لفظ الميزان بمعنى واحد في المواطن الثلاثة وإن توسع فيه فجعله يشمل كل معيار في الكيل والوزن وغيرهما. ولكن القاموس يذكر من معاني الميزان العدل. وغلى هذا ذهب عدد من المفسرين في الموطن الأول ففسروا (ووضع الميزان) بمعنى (وشرع العدل) كما في روح المعاني للألوسي والتفسير المحيط لأبي حيان. وهذا يجعل الآيات الكريمة من الأمثلة الفريدة لتمام الجناس حتى لو اتخذ معنى الميزان في الموطنين الآخرين: لكن الأقرب الأصوب أن يختلف معناه في الآيات الثلاث، فيكون في الآية الأولى بمعنى الشرع الذي توزن به الأعمال والأحكام في الجماعات، ويشهد لهذا آية سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) إذ من الواضح أن الميزان هنا لا يمكن أن يكون الآلة المعروفة بدليل (أنزلنا)، ودليل العطف على الكتاب، ودليل الإطلاق في قيام الناس بالقسط. هذا في الآية الأولى. أما في آية الرحمن الثانية فيكون الميزان على هذا مصدراً ميمياً بمعنى الوزن أي التقدير والحكم. وفي القاموس من بين معاني الميزان أنه المقدار، ومن بين معاني المقدار أنه القدر بمعنى القضاء والحكم. ويكون بمعنى الآية الكريمة على هذا (ألا تطغوا في القضاء والحكم) أما الميزان في الآية الثالثة فبالمعنى المعروف. والنهي عن إخسار الميزان نهي عن الطغيان فيه؛ لأن التعامل بالميزان عملية ذات طرفين إذا جونب القسط فيها كان ذلك طغيانا أو إخساراً حسب الطرف المنظور إليه.
هذا هو الوجه في فهم تلك الآيات الكريمة وتفسيرها تفسيراً يتفق مع الإحكام الذي وصف الله به آيات كتابه العزيز في أول سورة هود.
وهناك باب واسع من أبواب الجناس التام في القرآن لم ينتبه إليه، ألا وهو الجناس بين الحروف والأسماء المبنية فإن الحرف أو الاسم المبني قد يتعدد معناه في العربية، فإذا ورد في آية بأكثر من معنى كان ذلك من تمام الجناس. إلا أنه لقصر هذا النوع من الكلمات وقلة حروفه يشترط لنحقق الحسن البديعي شروط. بشرط مثلا الانفصال فلا تكون اللام في الآية الكريمة من سورة الحجر: (قال لم أكن لأسجد لبشر) مثلا للجناس التام. ويشترط فيه التقارب فلا تكون ما الشرطية وما النافية في الآية الكريمة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، وما للظالمين من أنصار) مثلا ظاهراً، لطول الفاصل بينهما. فإذا ما تحرينا هذين الشرطين وجدنا من هذا النوع أمثلة غير قليلة. فمما يتعلق بما من ذلك قوله تعالى:
(قلتم ما ندري ما الساعة): سورة الجاثية
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به): سورة المائدة
(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله): سورة هود
فإذا ضممنا إلى الشطر الأول من هذا المثل ما سبقه في نفس الآية وجدنا مثلاً لطيفاً لورود (ما) ثلاث مرات بثلاث معان مختلفة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)
ومن الأمثلة التي تم الجناس فيها بورود (من) بمعنيين مختلفين قوله تعالى من سورة البقرة: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فالأولى موصولة والثانية شرطية. وقد راعينا في هذه الأمثلة الشرطين اللذين اشترطنا وتجنبنا ما لم يتوفر فيه شرط الانفصال ولو في الظاهر كما في قوله تعالى من سورة البقرة: (فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) ففيه اتصلت ما المصدرية بالكاف. وكما في قوله تعالى من سورة الكهف (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أو قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) فقد اتصلت من الاستفهامية بالفاء في الآية الأولى، وأدغمت من في من الموصولة في الآيتين فكانتا كالكلمة الواحدة في النطق وفي الرسم. وإلا فهذا النوع في القرآن الكريم كثير.
على أننا إذا جعلنا اختلاف المعنى للكلمة المكررة هو العمدة والفصل في الجناس التام انفتح لنا منه في باب آخر هو باب الكلمة يختلف معناها لا باختلاف نوعها كما في الأمثلة السابقة ولكن باختلاف مرجعها والمراد منها وإن ظلت الكلمة هي هي في حقيقتها. خذ مثلا إليك قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) في موضعها من سورة الرحمن. إذ المعنى في الإحسانين ليس بواحد، فإن الإحسان الأول هو من العبد في العمل، والإحسان الثاني هو من الله في الجزاء. فالأول بمعنى الإتقان والإخلاص لله في العمل، والثاني بمعنى الإكرام وإجزال الثواب للعبد. فهو في صميمه مثل فريد من أمثلة الجناس التام إذا أخذنا في هذا بمقوماته وروح الحسن فيه.
ومثل هذا قوله تعالى من سورة براءة: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن، قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فإن (أذن) الأولى غير (أذن) الثانية في الدلالة وفي المعنى الذي تفيد أنه في موضعهما من الآية. الأولى للذم أراده المنافقون والثانية للمدح أراده الحق سبحانه وأظهره بإضافتها إلى خير. كذلك يؤمن الأولى غير يؤمن الثانية في المعنى وإن جاء الفرق من اختلاف حرف الجر بعدهما، فإن الإيمان بالله غير الإيمان للمؤمنين. فهذا إذا أخذنا بالجوهر لا بالعرض مثل من أروع أمثلة الجناس التام.
هذه صنوف من الأمثلة جئ بها على سبيل التوضيح لا على سبيل الحصر، وسيختلف الحكم فيها وعليها باختلاف المعايير، ولكن سيسلم منها على أي حال لجميع النظار على اختلاف المعيار مثل جديدة تنقض تلك القضية التي جرى عليها علماء العربية ومن بينهم صاحب الوسيلة الأدبية وصاحب الإتقان، من ندرة الجناس التام في القرآن.
محمد أحمد الغمراوي