مجلة الرسالة/العدد 1021/محمود سامي البارودي
مجلة الرسالة/العدد 1021/محمود سامي البارودي
للأستاذ محمود أبو رية
لا نكاد نجد في تاريخنا الحديث عظيماً أصابه من الظلم وناله من العفوق مثل محمود سامي البارودي رحمه الله. فعلى أنه سياسي كبير، وجندي عظيم، وإنه فوق ذلك شيخ شعراء هذا العصر بلا منازع، فان أمته قد ألفت به في زوايا النسيان وتركته على درجة الإهمال، حتى لا تجد أحداً يعني به، أو يهتم بأمره، أو يعمل على نشر آثاره، لا من رجال السياسة، ولا من رجال الأدب. اللهم إلا فذلكات صغيرة لا تجزئ ولا تبين!.
ولقد كنا نظن أن مرد ذلك كله إلى طغيان الاحتلال الذي جثم على صدر البلاد سبعين سنة كاملة لأنه كان من كبار زعماء الثورة العربية الذين كان الناس يخشون ذكرهم ويخافون أن يدرسوا تاريخهم أو يشيدوا بعظمتهم؛ وإنه عندما يندك صرح هذا الطغيان وتنكس أعلامه يأنى لنا أن نرفع عنه تراب الإهمال، ونضعه في مكانه (السامي) بين عظماء الرجال. ولكن وا أسفا! فإنا مازلنا مفرطين في جنبه، جاحدين لفضله.
وإنا بكلمتنا هذه التي نرسلها اليوم لا نريد أن نكشف فيها عن جوانب هذا الرجل السياسة أو الحربية لأن هذا مما يجب على غيرنا أن يؤديه له. وكذلك لا تحاول أن ندرس نواحيه الأدبية فأنها تحتاج إلى كتاب يرأسه، وهذه الدراسة ولا ريب دين كبير في عنق كل من يتصدى لدرس حياة الأدب العربي في عصرنا الحديث. وإنما همنا مما نكتب أن نأتي بذور من تاريخه الأدبي نستطرد منه إلى ما نحن بسبيله من المطالبة يطبع كل ما ترك لنا من آثار أدبية جليلة يقضي الواجب أن نحرص عليها، ونعمل على نشرها، ليتنفع الأدب وأهله بها. ونحن إذا بلغنا هذه الغاية نكون قد أحسنا إليه غاية الإحسان، وحفظنا ذكره عطراً على وجه الزمان. وما حياة العظيم إلا حياة آثاره وما ينتفع الناس من علمه وأعماله، وما عدا ذلك فهو لغو باطل، وعبث ليس وراءه طائل (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
لقد نشأ هذا الرجل في الأدب نشأة عجيبة لا تكاد تتفق لغيره من الأدباء والشعراء إلا في الفلتة والندرة!.
ذلك أنه - على ما ذكر صديقه الشيخ حسين المرصفي أستاذ الأدب العربي بدار الع (كان) في كتاب الجامع (الوسيلة الأدبية) (لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية - غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة فصار يقرأ ولا يكاد بلحن. وسمعته مرة يسكن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعراً لبعض العرب. فقلت تلك ضرورة، وقال علماء العربية إنها غير شاذة. ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقداً شريفاً من خسيسها، واقفا على صوابها وخطئها مدركاً ما كان ينبغي وفق مقام الكلام ومالا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء، ولشعر الأمراء كابي فراس والشريف الرضي والطغراثي تميز عن شعر الشعراء (هذا هو الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه، والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي باشا البارودي).
هذه هي طريقة الباردوي في دراسته للأدب العربي، وكذلك كانت سبيله في دراسة الأدبين التركي والفارسي، فهو لم يختلف فيهما جميعا إلى معاهد العلم، ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدين في أماكن الدرس، ولا كان يتكئ في حياته على ما يتكئ عليه المغرورون في بلادنا من الشهادات والإجازات العلمية.
ولم يكن أمره كذلك إلا لأنه قد أوتي (من صفاء الفطرة ونقاء الذهن وكمال الاستعداد) ما لم يؤت غيره في عصره. وبهذه العبقرية الفذة استطاع أن يسمو بشاعريته إلى مرتقى استوى فيه على عرش الشعر العربي في العصر الحديث، وأصبح - بلا مراء - نابغة العصر، وإمام الشعر في مصر وغير مصر، وإليه يرجع الفضل في بعث دولة الشعر بعد أن ظلت قرابة ألف عام في جدثها، وعلى طريقة سار كبار شعرائنا أمثال صبري وشوقي وحافظ. ولقد بلغ من نبوغه في الشعر أن زاحم بمنكبه من سبقوه من فحول الشعراء، جاهليين ومخضرمين ومولدين، فعارضهم في كل باب بقصائد عصما، أربى عليهم في أكثرها.
وكان ظهور هذا الشاعر الخنذبذ في عصر لم يكن يهئ لظهور شاعر عظيم مثله، وخرج من بيئة لا تنبت مثل زرعه، ونشأ بين فئة من الشعراء أمثال الليثي والنجاري والنديم والإبياري، أولئك الذين كان جل همهم، واصفي ما يعصر من قرائحهم أن يأتوا ببيت فيه نكتة بديعية!.
ولا تتعدى أغراضهم المدح والاستجداء، بشعر ليس فيه جديد وليس فيه رواء.
وقضى البارودي ما قضى من حياته بين وطنه ومنفاه الذي لبث فيه أكثر من سبعة عشر عاماً إلى أن انتقل إلى جوار ربه في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 كما حققناه بمجلة الرسالة الغراء لا كما ذكره الدكتور هيكل في تقديمه لديوان الباردوي من أنه مات في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة 1904!.
وقد خلف لنا ثروة خالدة في الأدب بعضها من شعره وبعضها مما اختار في الشعر والنثر وغادرها إلى رحمة ربه، مخطوطة لم يطبع منها شيء في حياته.
وفي سنة 1901 ظفر أهل الأدب (بمختارات البارودي) في أربعة أجزاء كبيرة من الغرار الكامل تشمل ما اختاره من شعر ثلاثين فحلاً من الشعراء المولدين، ثم ظلوا يرتقبون ظهور ديوانه، ومختاراته في النثر التي سماها (فيد الأوابد) وطال ارتقابهم حتى خرج إليهم في أواخر سنة 1916 جزآن من ديوانه لم يكادوا يطلعون عليها حتى ضاقت صدورهم بما حملا من شرح ممل ثقيل حشد فيه شارحة الشيخ محمود المنصوري أحد علماء الأزهر من اصطلاحات أهل المنطق وقواعد علم الكلام والأصول ما نفرهم منه وزهدهم فيه. وقد عد بعضهم هذا الشرح من المحن التي ألحت على البارودي طوال حياته من فقد أبيه في طفولته وموت زوجه وأولاده ومن نفيه عن أوطانه ثم فقد بصره في آخر حياته. ولم يكن نفور الأدباء إلا لأن الشعر لا يحتمل منطقا ولا فلسفة. وكان مما ثمنوه يومئذ أن لو خرج هذا الديوان عاريا من كل شرح حتى لا يغشى نوره مثل هذا السحاب الثقال - وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدورهم حوالي ربع قرن إلى أن حملت إليهم جريدة الأهرام بشرى خفقت لها قلوبهم إذ روت أن ديوان البارودي قد فرغ من تصحيحه ودفع به إلى مطبعة دار الكتب لتتولى طبعة على نفقة وزارة المعارف وأنه سيخرج في ثلاثة أجزاء.
وفي سنة 1940 ظهر الجزء الأول من طبعته الجديدة بشرح لا بأس به وتلاه الجزء الثاني في سنة 1942 يحمل من قصائد الديوان إلى حرف (الكاف) ويدعونا الإنصاف إلى أن نذكر أن الفضل في ظهور هذين الجزأين إنما يرجع إلى النقراشي رحمه الله وكان وزيراً للمعارف يومئذ ثم انتظرنا ظهور الجزء الثالث ثمانية أعوام كاملة. ولما لم يظهر فيها استصرخنا وزارة المعارف على صفحات جريدة الأهرام لكي تعمل على إخراج الجزء الباقي من هذا الديوان تم تردفه بكتاب (قيد الأوابد) وكان أملنا كبيراً في تحقيق رغبتنا التي هي رغبة الأدب والأدباء إذ كان يتولى وزارة المعارف حينئذ الدكتور طه حسين عميد الأدب، وخير من يعمل على نشر تراث لغة العرب؛ ولكن يؤسفنا أن نقول إن صرختنا هذه قد ذهبت أدراج الرياح وبقي الديوان إلى اليوم ناقصاً لا يعرف الناس عنه ولا عن كتاب (قيد الأوابد) شيئا.
ومن أجل ذلك رأيت أن أنتهز فرصة الذكرى الثامنة والأربعين لوفاة شاعرنا الكبير - وانقضاء عشرة أعوام كاملة على ظهور الجزء الثاني كانت كافية لأن يعاد طبع الديوان كله فيها طبعة ثانية - فأرسل صيحة أخرى على صفحات مجلة الرسالة الغراء ونرجو أن تبلغ مسامع وزارة المعارف فتصغى إليها وتحقق ما فيها، ولا تذهب هباء كما ذهبت التي سبقتها. ونأمل كذلك من حضرة مدير دار الكتب وهو أديب كبير أن يستمع إليها ويعني بها حتى يرى أهل الأدب بين أيديهم في القريب العاجل ديوان البارودي كاملاً، وكتاب (قيد الأوايد) بالطبع مائلا.
المنصورة
محمود أبو رية