مجلة الرسالة/العدد 102/قصة المكروب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 102/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1935


16 - قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم

بستور

صلة حديثة

وذهب (جرنيه) إلى الشمال يدرس دود القز في مدينة فالنسين فكتب إليه بستور أن يعيد أجراء التجربة الفائتة. سأله هذا ولم يدر لم سأله، وكان جرنيه قد حصل على مجموعة طيبة من الدود السليم، وكان يعتقد على الرغم من تشكك أستاذ هـ أن تلك الكريات في باطن الدود ليست أحياء تتطفل عليه فتقتله. فاخذ أربعين دودة سليمة وغذاها بأوراق من التوت لم يمسها أبداً دود مريض، فخرج من هذه الأربعين سبع وعشرون دودة نسجت سبعاً وعشرين شرنقة. وخرج الفراش من الشانق خلواً من الكريات، فعندئذ عمد إلى فراشات مريضة فسحقها ولوث بسحيقها أوراقا من التوت، وغذى بهذه الأوراق دويدات سليمة صغيرة، عمرها يوم واحد، فلم تلبث هذه الدويدات أن مرضت وهزلت وماتت موتة بطيئة. وتغطى جلدها بالبقع السوداء، وامتلأ جسمها بكريات الداء. وبعد هذا لوث أوراقا أخرى بسحيق الفراش المريض وغذى بها دوداً سليماً نامياً بالغاً كان على وشك أن ينسج الشرانق. فهذا الدود عاش حتى أتم نسج ثوبه الحريري، ولكنه لما استحال إلى فراش خرج هذا الفراش وبجسمه الكريات اللعينة، وباض فكان البيض فاسداً. فسر (جرنيه) وثار، وزاد سروره وزادت ثورته في الليالي التي أكب فيها على مكروسكوبه كلما رأى هذه الكريات تزيد في الدود كلما زاد إضمارا قارب الفناء

وأسرع (جرنيه) إلى بستور يصرخ له: (حلت المسالة! فهذه الكريات حية! إنها طفيليات، وهي التي تمرض الدود!)

واستغرق بستور ستة اشهر ليقتنع بمقالة (جرنيه). ولكنه لما اقتنع وقع على العمل وقوعاً. وجمع أعضاء اللجنة مرة أخرى وخطب فيهم: (إن الكريات التي بالدود ليست عرضاً من أعراض الداء فحسب، بل هي سببه، وهذه الكريات حية، وهي تتزايد، وهي تسير في جسم الفراش المريض اغتصاباً حتى تعم نواحيه. وإنما كان خطانا الأول لأننا طلبنا هذه الكريات في جزء صغير من جسم الفراش فنظرنا تحت جلد البطن وحده، أما الآن فلابد من سحق الفراش كله وفحصه من بعد ذلك، فإذا نظرنا بالمجهر إلى سحيقة فلم نجد به تلك الكريات المجهرية حكمنا بسلامته واتخذنا بيضه للتفريخ في الربيع المقبل)

وتفرق رجال اللجنة واتبعوا تعاليم بستور فنجحت التجربة، ودار العام فأفرخ البيض دوداً صحيحاً قوياً نامياً أعطاهم غلة من الحرير وافرة

استيقن بستور أن هذه الكريات الطفيلية سبب الداء وأنها لا تنشأ داخل الدود، وإنما تأتيه من الخارج. فطاف في الريف يعلم الناس كيف يمنعون نسل الدود السليم من أن يمس أوراقا مسها دود سقيم، وبينما هو في هذا أصابه نزيف في المخ فكاد يموت. ولكنه سمع أنهم أوقفوا بناء معمله اقتصاداً وفي انتظار موته، فأغضبه ذلك وأصر على أن يعيش. فشل أحد نصفيه شللاً لم يشف منه تماماً في مستقبل أيامه، ولكنه قرأ كتاب الدكتور (سمايلز) في الاعتداد بالنفس، فاعتزم اعتزاماً قوياً أن يعمل بالرغم من عجزه، فبدل أن يرقد في فراشه، أو يستشفي على البحر، نهض في عسر على قدميه، وحجل إلى القطار، وسافر إلى جنوب فرنسا وهو يصيح غاضباً: (إن من الأجرام القعود عن تخليص الدود من الوباء، بينما الكثير من أربابه يطلبون القوت فلا يجدونه) فاعجب به الفرنسيون وأكبروه إلا نفراً قليلاً يحبون الأذى؛ فهؤلاء قالوا: إنما صيحة قصد بها الدعاية لنفسه لا لخير الناس

وقضى بستور ست سنوات يجاهد أدواء هذا الدود المسكين، فإنه لم ينته من علاج ندوته حتى ظهر به مرض جديد، ولكن بستور كان قد درب على هذا النوع من البحث فكشف عن مكروب الداء سريعاً، وجاءه دوماس الشيخ يشكره وقد امتلاءت عيناه بالدموع. وتحث عمدة (إلياس) عن إقامة تمثال من الذهب لبستور العظيم

- 7 -

وبلغت سنة الخامسة والأربعين، فاخذ ينعم حيناً بالمجد الذي كسبه من تخليص صناعة الحرير مما حاق بها، وذلك بعون الله وعون (جرنيه). ثم رفع عينيه إلى مجد أسمى، وأمل اسنى، وحلم مستحيل براق، حلم من تلك الأحلام التي ارتأتها نفسه الشاعرة، حلم من تلك الأحلام المستحيلة التي لا تضن الأقدار ببعض تحقيقها أحيانا؛ نعم رفع عينه الفنانة من أمراض الديدان إلى أحزان الإنسان، ونفخ في البوق نفخة داوية يبشر المرضى البائسين بقرب بلوغ دار الأمان، قال: (إن في مقدور الإنسان أن يمسح عن وجه الأرض كل الأدواء التي يسببها تطفل الأحياء عليه، هذا على فرض أن نظرية باطلة، وأنا واثق من بطلانها)

وجاء عام 1870 بحصار باريس في ذلك الشتاء القارس، فخرج عنها تاركاً أعماله، تاركاً معامله، وذهب إلى قريته القديمة في جبال (الجورا). ثم ذهب إلى ميدان القتال يبحث بين الأشلاء عن جثة ابنه الصريع، وقد كان جاويشا في الجيش الفرنسي. وعلى هذه الأرض، وبين هذه الدماء، نشأ فيه كره للألمان ولكل شيء ألماني اخذ ينمو فيه ثم ينمو ويفيض حتى تشرب به كل عصب من أعصابه، وبقي معه بقية حياته. واتخذ من اجل ذلك الوطنية صناعة. واخذ يصرخ في الناس: (إن كل مؤلف من مؤلفاتي سيطالعكم عنوانه بكراهة بروسيا، وينشكم الثأر والانتقام.) وبسخافة فاخرة بدأ بحثه الأول فجعله للثأر والانتقام. واعترف أن بيرة فرنسا دون بيرة الألمان، فنهض يبحث ليجعل بيرة فرنسا فوق بيرة الألمان، بل فوق بيرات الأمم جمعاء

وقام برحلات كثيرة واسعة المدى إلى مخامر فرنسا الشهيرة، واخذ يلقى الأسئلة على كل من يلقى فيها، من رئيس الخمارين في معمله، إلى غسال الأواني البسيط في مغسلة. وذهب إلى إنجلترا فأسدى النصائح إلى الرجال الفنانين ذوي الوجوه الحمر الذين يحذقون صنع النبيذ الإنجليزي، والى الخمارين الذين يخرجون تلك الجعات القدسية بمدينة برتن وحرر مجهره إلى الألوف من البيرات، ورقب الخمائر وهي تنقسم وتصنع الكحول. وكان يقع أحيانا فيها على هذا الحي اللعين الذي وجده فيها أعواما مضى وأثبت أنه سبب فسادها، وكان ينصح لأصحابها بتسخين البيرة لقتل هذه الحييات، ويؤكد لهم أنهم لو فعلوا إذن لزادت بيرتهم جودة وطابت مذاقا، وإذن لاستطاعوا تسفيرها مسافات بعيدة وهى صالحة. وكان يسال أصحاب المخامر مالاً لمعمله، ويذكر لهم أن ما يجودون به اليوم يعود عليهم بالنفع في الغد إضعافا مضاعفة. وبهذا المال قلب معمله بمدرسة النرمال إلى مصنع صغير للبيرة، لمعت فيه البراميل النحاسية الجميلة، ووهجت الغلايات الصقيلة

وبدأ عملاً مجهداً متواصلاً، ولكنه لم يلبث أن سئمه، لأنه كان يكره طعم البيرة كما يكره رائحة الطباق. وزاد منه سالماً أنه وجد أن الباحث العالم في البيرة لابد له من أن يكون ذواقاً حكيماً لها. ووجد كذلك البيرة الجيدة تحتاج في صناعتها إلى أمور أخرى غير منع المكروب من دخولها. وكان لعلم الفيزياء أستاذ يدعى برتان كاد يضحك من بستور لكراهيته إياها. كان بستور كلما أراد مذاقها جعد من انفه الأفطس، وغاص بشاربه في كوزها الراغي، وبلغ في عسر وكآبة ما تحتم بلعه من جرعاتها. كره البيرة ما فسد منها وما طاب. أما صديقه الفيزيائي فكان يلعق شفتيه بعد شربها ويصفقهما، ويتهلل وجه بشرا وتمتلئ أساريره خبثاً وهو يضاحك بستور فيها، لأنها بيرة ذاقها بستور وحكم عليها بالفساد. حتى لضحك منه مساعده الشاب، ولكنه لم يجرؤ بالطبع أن يضحك في وجهه. مسكين بستور! كان باحثاً قديراً، ولم يكن فيه جمود، ولم يكن فيه ركود، وكان سريع التحول، سريع التشكل للظروف، سريع الألفة لكل جديد - إلا البيرة. فحب البيرة كأنه يخلق ولا يكتسب. واللسان الذواق للبيرة تجود به الطبيعة على قليل من الناس، كالأذن الموسيقية ليست متاعاً لكل أحد

ومع هذا فلست أنكر أن بستور أعان صناعة البيرة الفرنسية إعانة كبيرة، وقد شهد بهذا الخمارون أنفسهم، أما الذي أتشكك فيه فهو الذي يقول به أحبابه ومريدوه وعباده من إنه رفع البيرة الفرنسية فجعلها ند الألمانية. على أني لا أنكر ذلك عليه، ولكني أود لو عرضت هذه الدعوى على لجنة تحكيم من تلك اللجان العادلة الدولية الوقورة، من تلك اللجان الذي كان بستور نفسه يقترح على الدنيا أن تلجأ إليها كلما أزمته خصومة لتقضي له أو لخصمائه اللعينين. . .

(يتبع)

أحمد زكي