مجلة الرسالة/العدد 102/شاعرنا العالمي أبو العتاهية
مجلة الرسالة/العدد 102/شاعرنا العالمي أبو العتاهية
5 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وكان أبو العتاهية في عهد المهدي يلازم ابنه هارون، وكان ابنه وولي عهده موسى الهادي يجد على أبي العتاهية لملازمته أخاه، فلما ولي العهد الهادي بعد المهدي أراد أن يقصيه عن أخيه هارون فلم يطعه، ثم أمره أن يخرج معه إلى الري فأبى ذلك، ولكنه لم يلبث أن خافه وتهيب بطشه به، وكانت الملوك في عهده لا تحتمل مثل هذا النوع من المخالفة، والاعتداد بالكرامة النفسية، والمحافظة على العهد في حالتي الأمن والخوف، فقال يستعطفه:
ألا شافع عند الخليفة يشفع ... فيدفع عنا شر ما يُتَوَقَّعُ
وإني على عظم الرجاء لخائف ... كأني على راس الأسنة تشرع
يرَوَّعني موسى على غير عثرة ... ومالي أرى موسى من العفو أوسع
وما آمنُ يمسي ويصبح عائداً ... بعفو أمير المؤمنين يرَوعُ
وإنك لترى أبا العتاهية لا ينزل في هذا الاستعطاف إلى الاستخذاء والخنوع، ونسيان الكرامة وعزة النفس، فلا يقول في ذلك ما قال النابغة الذبياني قبله للنعمان بن المنذر:
فإن أك مظلوماً فعبد ظلمتَهُ ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يُعتِبوا
بل يقول له هذا القول (يروعني موسى على غير عثرة)، فينصف نفسه في هذا الموقف الذي تجحد فيه النفوس، ولا يرى حقاً للهادي في ترويعه على غير ذنب جناه، كما يرى النابغة للنعمان أن يظلمه لأنه عبده.
وقد روى صاحب الأغاني بعد ذلك أنه ولد الهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة، فدخل أبو العتاهية فأنشده:
اكثر موسى غيْظَ حساده ... وزين الأرض بأولاده
وجاءنا من صلبه سيد ... أصْيدُ في تقطيع أجداده
فاكتست الأرض به بهجة ... واستبشر المُلْكُ بميلاده
وابتسم المنبر عن فرحة ... علت بها ذروة أعواده
كأنني بعد قليل به ... بين مواليه وقواد في مَحفِلٍ تخفق راياته ... قد طَبّق الأرض بأجناده
فأمر له الهادي بألف دينار، وطيب كثير، وكان سخطاً عليه فرضى عنه
فذا صحت هذه الرواية فلابد أنه عاد فسخط عليه حين رآه لم ينقطع عن أخيه هارون، وحين أمر أن يخرج معه إلى الري أبى ذلك، وبهذا تتفق هذه الرواية مع ما قبلها، ولا تكون متنافية معها، وإن كنا نستبعد أن يعنى مثل أبي العتاهية بتهنئة الهادي بذلك المولود في ذلك اليوم، ولا يعنى بتهنئته بهذا الملك الذي صار إليه فيه، فلعل حادثة ذلك المولود كانت بعد يوم ولاية الهادي وبعد رضاه عن أبي العتاهية
وقد عاد مع الهادي بعد رضاه عنه إلى مثل ما كان عليه في عهد المهدي، واتصلت فيه مدائحه، واتصلت من الهادي له صلاته وجوائزه. ومما مدحه به على مذهب أبي نواس في بدء المديح بذكر الخمر ووصف محاسنها:
لهفي على الزمن القصير ... بين الخَوَرْنقِ والسَّدير
إذ نحن في غُرفِ الجنا ... ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكوا عِنَا ... ن الدهر أمثال الصُّقُور
ما منهم إلا الجسو ... ر على الهوى غير الحَصور
يتعاورون مُدامة ... صهباَء من حلب العصير
عذراَء رباها شعا ... ع الشمس في حرَّ الهجير
لم تَدْنُ من نار ولم ... يعلق بها وَضرُ القُدور
ومُقرْطقٍ يمشي أما ... م القوم كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج الس ... ر الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب الدُّ ... رَّيَّ في كف المدير
تدع الكريم وليس يد ... ري ما قَبيلُ من دَبير
ومخصّراتٍ زرننا ... بعد الهدو من الخدور
رياً روادفهن يل ... بسن الخواتم في الخصور
غُرُّ الوجوه محجبا ... ت قاصرات الطرف حور
متنعمات في النعي ... م مضمخات بالْعَبير يرفلن في حلل المحا ... سن والمجاسد والحرير
ما إن يرين الشمس إلا ... القرط من خَلَل الستور
والى أمين الله مه ... ربنا من الدهر العثور
وإليه أتعبنا المطا ... يا بالرّواح وبالبكور
صُعر الخدود كأنما ... جُنَّحن أجنحة النسور
متسربلات بالظلا ... م على السهولة والوعور
حتى وصلن بنا إلى ... ربَّ المدائن والقصور
ما زال قبل فطامه ... في من مكتهل كبير
ثم انتهى عهد الهادي وحال أبى العتاهية معه مستقيمة كحاله مع المهدي؛ فلما جاء عهد هارون الرشيد كان الظنون أن يكون حاله معه اكثر استقامة من حاله مع أبيه وأخيه، لما سبق من ملازمته له، وانقطاعه إليه انقطاعاً كان يحسده الهادي عليه، ولكن حاله في هذا العهد جاءت على خلاف ما كان يقدر لها. وهنا تضطرب الروايات عن أبى العتاهية بقدر اضطراب أمره، وتغير حاله
روى صاحب الأغاني أنه لما مات الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية: قل شعراً في الغزل، فقال: لا أقول شعراً بعد موسى أبدا، فحبسه وأمر إبراهيم الموصلي أن يغني، فقال لا اغني بعد موسى أبدا - وكان محسناً إليهما - فحبسه. فلما شخص إلى الرقة حفر لهما حفرة واسعة وقطع بينهما بحائط، وقال: كونا بهذا المكان لا تخرجا منه، حتى تشعر أنت ويغني هذا، فصبرا على ذلك مدة حتى قال أبو العتاهية لإبراهيم: إلى كم يا هذا نلاج الخلفاء؟ هلم اقل شعراً وتغني فيه، فقال أبو العتاهية:
بأبي من كان في قلبي له ... مرة حبُّ قليل فَسُرِقْ
يا بني العباس فيكم ملك ... شُعَب الإحسان منه تفترق
إنما هارون خيرٌ كله ... مات كل الشر مذ يوم خلق
وغنى فيه إبراهيم، فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم، فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب
وروي مرة ثانية عن محمد بن أبي العتاهية قال: كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة، والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه، فلم يزل يكتب إليه الشعر يستعطفه حتى كتب إليه:
وكلفتَني ما حلت بيني وبينه ... وقلت سابغي ما تريد وما تهْوى
فلو كان لي قلبان كلفت واحدا ... هواكَ وكلفت الخليَّ لما يهوى
وروي مرة ثالثة عن محمد بن أبي العتاهية قال: لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة، وإلى على نفسه أن لا يقول شعراً في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال:
يابن عم النبي سمعاً وطاعة ... قد خلعنا الكساء والدُّرّاعة
ورجعنا إلى الصناعة لما ... كان سخط الأمام ترك الصناعة
فلم يزل الرشيد متوانياً في إخراجه إلى أن قال:
أما والله إن الظلم لومُ ... وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
لأمر ما تصرفت الليالي ... وأمر ما توليت النجوم
تموت غداً وأنت قريرُ عين ... من الغفلات في لجج تعوم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نَؤوم
سل الأيام عن أمم تقضت ... ستخبرك المعالم والرُّسوم
تروم الخلد في دار المنايا ... وكم قد رام غيرك ما تروم
ألا يا أيها الملك المرجيّ ... لميه نواهض الدنيا تحوم
أقلني زَلةً لم اجر منها ... إلى لوم وما مثلي مَلوم
وخلَّصني تُخلَّص يوم بعث ... إذا للناس بُرَّزّتِ الجحيم
وسنستوفي فيما بقي من هذه الروايات في هذا الشأن الجديد الذي صار إليه مع الرشيد، ونعمل على التوفيق بينهما، ونرد هذه الحال الجديدة في أبي العتاهية إلى أسبابها الحقيقية
عبد المتعال الصعيدي