مجلة الرسالة/العدد 102/التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة
مجلة الرسالة/العدد 102/التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة
للأستاذ فخري أبو السعود
في كلمة سابقة بهذا العنوان ذكرت أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق مدارسنا الغرض الأسمى من التربية - وهو التربية الخلقية الاجتماعية - هي خلق مجتمع راق في المدرسة يساهم فيه الطالب ويكتسب فيه من محمود الصفات الخلقية ومقتضيات الحياة الاجتماعية ما تخرجه إلى المجتمع عارفاً بمطالبه، مزوداً بالمؤهلات التي تساعده على الاندماج فيه والنجاح في معتركه
وأعود الآن إلى بيان مزايا هذا المجتمع الواجب خلقه في المدرسة، فمزاياه لا تقتصر على اختلاط الطلاب بعضهم ببعض لحميد الأغراض، بل تشمل أيضا اختلاطهم بالمعلمين، وهو أمر لازم للتربية الصحيحة؛ إذ من طبيعة الناشئين الاقتداء بمن اكبر منهم واخبر، ومن طبيعة المواهب الإنسانية العقلية والخلقية ألا تنمو وتسمو إلا بتقليد أولئك الذين ينظر إليهم الناشئ نظرة إكبار، ويحسن فيهم الاعتقاد، وتنزع نفسه إلى التشبه بهم وهذا الاختلاط الجم المزايا بين الطلاب ومعلمهم سائد في معاهد إنجلترا من المدارس الصغيرة إلى الجامعات الكبيرة، وأثره في تربية الناشئة الإنجليزية اعظم من اثر كل ما يلقى في حجرات الدراسة من معلومات؛ فالمعلمون يعاملون طلابهم معاملة الزملاء الصغار أو الأقرباء الناشئين، وبهذه الروح يناقشونهم في أوقات الدراسة، ويشاركونهم ألعابهم وحفلاتهم، ويكن المعلمين لطلابهم العطف، ويكن الطلاب لمعلميهم الاحترام، وتسود معاملة الفريقين البساطة التامة، واعظم بما لذلك من اثر في تربية الرجولة والصراحة والاعتداد بالنفس بين الناشئين.! أما في مدارسنا فالهوة بين المعلمين والطلاب سحيقة، والنفرة شديدة: لا يفهم المعلم من نفسية كل طالب شيئاً كثيراً، ولا يعطف ألا النادر منهم، ولا يعلم الطلاب عن معلمهم غير ما يثرثره عليهم من معلومات لا تنتهي إلا بانتهاء السنة المدرسية، ولا يضمرون له حباً ولا ميلاً، بل يستحكم العداء بين الفريقين أحيانا إذا كان الطلاب ضعفاء في مواد الدراسة، أو كان المدرس شديدا ملتزماً للجد، وقد استحال أن يسود الود الذي هو اجدر أن يسود بين المربي والمتربي، فمن معلمينا من يأبى من التبسط مع طلابه، ومنهم من يود لو فعل فيرده علمه بما يجر إليه ذلك من فساد درسه، إذ يندفع الطلاب وراء الهزل ويسيئون المسلك وينسون الدرس، لان ناشئتنا من الجهل بآداب الاجتماع بحيث لا يعلمون معنى القصد في الأمور، ولا يقنعون إذا تركوا وشأنهم بما دون الإمعان في العبث
ونتيجة هذه الحال السائد في مدارسنا أن معظم الطلاب - سواء متقد موهم في العلوم ومتخلفوهم - يغادرون المدارس وهم مزيج من الخجل والتبجح والغرور والنفاق، إذا انفرد أحدهم رايته على جانب كبير من الخجل والعجز والحصر، وإذا اجتمعت فئة منهم ارتد خجلهم تبجحاً وحصرهم صخباً وعجزهم جرأة على الفساد؛ وبينما تؤدي العلاقة بين المعلم والمتعلم في إنجلترا إلى صداقة مثمرة في مستقبل الحياة تنبت الصلة بين المعلم والطالب عندنا بانتهاء العام الدراسي، حتى لقد يتقابل الاثنان فيتغاضى الطالب عن معلمه، أو يخاطبه في لهجة جريئة متطاولة، وفي كلتا الحالين لا يأسي المرء ألا على ما بهذا المسلك من دلالة على فشل التربية وعبث المجهود المنفق فيها.
والعلة في هذا ترجع إلى نظام مدارسنا التي تجعل ملء الرؤوس بالمعلومات الغاية الكبرى بل الوحيدة من التعليم، فتشغل كل أوقات المدرسة بها، فيرى المدرس - المرهق ببرنامج حافل - وقته أضيق من أن يصرف جانباً منه في مباسطة طلابه ومناقشتهم في شتى الشؤون العامة التي تمت إلى الحياة وتشغل بال كل ذي حظ من الإنسانية ونصيب من الثقافة، فتنقطع الصلة الإنسانية بين المعلم والطالب، ويترك الطلبة وأنفسهم يشبعون تلك الرغبة الفطرية في التنافس وتبادل الأفكار بثرثرتهم في أوقات الفراغ - وأوقات الدروس إن استطاعوا - ولما كانوا قد عدموا إرشاد المدرس بفكره الذي هو أرقى وشخصيته التي هي أقوى من شخصياتهم وأفكارهم فإنهم يتجهون عادة إلى السفساف من الأمور، ويألفون الثرثرة الفارغة التي لا نهاية لها ولا غاية، ويختارون قدواتهم في الحياة من خارج المدرسة أخذيها عن شخصيات قد لا تكون جديرة بالإعجاب أو محمودة التقليد
أما مخالطة الطلاب لمعلميهم فأنها - فضلاً عن صقلها لآداب المعاملة وحسن الذوق بينهم وعما تنميه فيهم من صفات الرجولة - تفتق أذهانهم وتسمو بهم إلى درجات من التفكير عالية، وتلقي ضوءاً على مواهب كل منهم وميوله، وتفسح أمامهم المطامع، وتبعث فيهم شتى الغايات يجعلونها نصب أعينهم في الحياة، على حين لا تتجاوز مطامع ألا كثرين منهم اليوم اجتياز الامتحان ونيل الشهادة ولقد عهد في السنوات الأخيرة إلى المعلمين بمدارسنا بمراقبة الجمعيات المدرسية، ولكن هذه الجمعيات أنشئت دون أن يفسح لها موضع من أوقات الطلاب والمدرسين المغلولي الأيدي في المناهج الطويلة، فلم تجتذب من الطلاب إلا القليلين، وزهد في رقابها المدرسون لأنها جاءت زيادة على أعمالهم المتراكمة، فلم تؤدي تلك الجمعيات الأغراض المنشودة، ولم تكن غير إرهاق على إرهاق، وستظل كذلك ما لم تزحزح المواد الدراسية عن مكانها القدسي الذي تتبوأه في مدارسنا
هذا، وليس أن يطلب من المدرس أن يكون مثلاً أعلى في الإنسانية، أو بحراً في العلم، أو نصف آله، لكي يؤدي مهمته في تربية الطلاب الخلقية والاجتماعية، بل يكفي لينهج بهم النهج القويم أن يكون مستقيم السيرة متنور الذهن مخلصاً في عمله، وهذا هو الغالب بين مدرسينا، وما يحتاج الأمر ألا إلى رفع عبء المواد الدراسية التي تثقل كواهل المعلمين والمتعلمين وتشغل كل أوقاتهم، وإفساح المكان لمجتمع في المدرسة يكون صورة صغيرة للمجتمع العام خارجها
إن إيجاد هذا المجتمع الحي الراقي بين جدران المدرسة هو الوسيلة الوحيدة لنجاح مهمتها، وإعداد الناشئين للمجتمع الأكبر خارجها، وترقية ذلك المجتمع الخارجي جيلاً بعد جيل، ولن تؤدي مدرسة مهمة التربية حتى يحيا الطلاب فيها حياة اجتماعية، ولن يؤدي المعلم واجبه حتى يمنح الفرصة لمخالطة طلابه مخالطة الإنسان المستنير للإنسان المستنير، ويحل هذا محل العلاقة الإلية الجافة القائمة بينهما اليوم، وبهذه الحياة الاجتماعية المدرسية يؤدي المدرس وظيفته (الروحية) التي أشار أليها تقرير معالي وزير المعارف
فخري أبو السعود
المدرس بالعباسية الثانوية