مجلة الرسالة/العدد 1019/في النظم الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1019/في النظم الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1953



من تنظيمات الإحسان

للأستاذ لبيب السعيد

لا تزال الخدمة الاجتماعية فقيرة إلى دراسة إسلامية متخصصة تشارك في نهج قواعد هذا الفن وتقرير أساليبه، وترفد تاريخه بأغنى الروافد وأعذبها.

وهذه الدراسة التي ننشدها والتي نرى أنها تقوم على التنقيب الصابر والجمع البصير، ثم التحقيق الواعي والدرس الدقيق، حرية أن يجرد لها المسئولون في معاهد الخدمة الاجتماعية عندنا وفي جامعاتنا كتيبة من الباحثين لهم بصر بالإسلام وقدرة علمية على سير تاريخه وفقهه وأدبه وسير أعلامه. ولقد بلونا أغلب أساتذة الخدمة الاجتماعية في مصر يعجزون عن التحرر من الاتجاهات الغربية في تفكيرهم بل في تعبيرهم، فحري بالكتيبة المرجوة أن يكون لأفرادها من الاستعداد والاجتهاد والإخلاص الأمين للمعرفة ما يكفيهم هذا العجز.

ولعل من أمثلة الإهمال الغليظ الذي يشهده المتصلون بدراسات الخدمة الاجتماعية في مصر أن هذه الدراسات حين تتناول تنظيم الإحسان تسكت عن خطة الإسلام في هذا الشأن سكوت الجاهل، أو تذكر - وقلما تذكر - وسلا من ميحط، بينما تفيض أيما إفاضة في النظم الأوربية. والأمريكية: فهي تتحدث مثلا عن إرشادات سنة 1529 في همبرج التي صدرت للمشرفين المحليين ليتعرفوا أحوال الفقراء ويتيحوا العمل لمستحقيه ويقرضوا المعوزين قرضا حسنا ويساعدوا المريض؛ أو عن أوامر شارل الخامس سنة 1541 بجمع الإعانات في الأراضي المنخفضة وتوزيعها على الفقراء وتعليم اليتامى وتشغيلهم ومساعدة الكسالى والمشردين، أو تسترسل في الحديث عن قوانين الفقر الإنكليزية التي صدرت في القرن السادس عشر؛ أو تردد الكلام عن نظام المزارع الريفية الأمريكية التي تضم الفقراء وضعاف العقول والسكيرين. . . إلى آخر هذه النظم.

والحق أن المسلمين سبقوا إلى تنظيم الإحسان على نحو لا تكاد النظم الغربية تستشرف إلى سمو مكانته. فالصدقات - وهي في الإسلام المصدر الأول للإحسان، والركن الثالث من الأركان التي بنى عليها الدين - تكرر في الصحاح أن النبي أوفد من رجاله يجمعونها. والأخبار على إن الخلفاء بعده عينوا الموظفين لجمعها، وأنه في مختلف العصور كان لجبايتها عمال متخصصون يدخل فيهم الساعي والكاتب والقاسم والحاشر الذي يجمع الأموال وحافظ المال والعريف. . ولقد أقترح (أبو يوسف) على (هارون الرشيد) تعيين موظف خاص للصدقات في جميع البلدان. يقول أبو يوسف للرشيد: (ومره ليوجه فيها أقواماً يرتضيهم ويسأل عن مذاهبهم وطرائقهم وأماناتهم يجمعون إليه صدقات البلدان).

أما توزيع الإحسان، فكان مخصصا له أيضا موظفون ودواوين، وهذا دليل على أنه كان إجراء له ترتيب مقدور له صفة النظام والدوام.

جاء في تضاعيف أحد الأخبار إن (المنصور) ولى عامله بالبصرة الإجراء على القواعد من النساء اللواتي لا أزواج لهن وعلى العميان والأيتام. ويذكر (الطبري) عن الخليفة (المهدي) أنه أمر في سنة 163 أن يجري على المجذمين وغيرهم. كما يذكر (المقدسي) عن نفس الخليفة أنه أجرى على العميان والمجذومين والضعفى.

وكذلك يذكر (الجهشياري) عن (الرشيد) أنه أمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وغيرهم ممن ذكرهم تفصيلا ويروى (أبن مسكوبه) في كتابه (تجارب الأمم وتعاقب الأمم) في ذكر ما دبره (علي بن عيسى) في وزارته سنة 315 وما جرى في أيامه أنه قلد رجالاً سماهم دواوين متعددة منهم (أبو أحمد عبد الوهاب بن الحسن) الذي تولى (ديوان البر والصدقات). (وطاهر أبن الحسين) في المنهج الشهير الذي رسمه لولده (عبد الله) حين استعمله (المأمون) على (الرقة)، يدعو ولده إلى (تعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة فيحتمل مؤنهم ويصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا)، ويقول له: (وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين (يريد المأمون) في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة). ويروى (أبن خلكان) أن (أبن الفرات) كان يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات أكثرهم مائة دينار في الشهر واقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك.

والإسلام - قبل النظم الحديثة - يكره أن يغري الإحسان غير المحتاجين بالتكفف والاعتماد على عطف المحسنين وبصرفهم عن طلب الرزق، فهو يحب للناس أن يستغنوا بالعمل عن لحاجة الملجئة للسؤال. يقول النبي (ص) (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة). وهو ينهى عن المسألة الملحفة: (لا تلحفوا في السؤال، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته).

بل هو يخوف من المضي في السؤال: (لا تزال المسالة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم).

والإسلام، مع بليغ رفقة بالمحاويج يحرم سؤال التكثر ويشدد النكير والمؤاخذة على محترفيه، فالرسول (ص) يقول: من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر) وإنه ليتحدث عن آخذ الصدفة بغير حق فيقول إنه (كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة).

ومن مصاديق هذه النظرة الإسلامية أن الرسول نفسه يترفع بأسرته وأقربائه عن التدلي إلى مستوى قابلي الصدقات، فهو يحرم عليهم الصدقة ولا يجعلهم في صف ذوى الفاقة؛ يقول (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس). وقد أخذ سبطه الحسن بن علي من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي: كخ كخ، ليطرحها ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ بل إنه ليحرم الصدقة على موالي آله، ولو كان الأخذ على جهة العمالة. والمسلمون يتأثرون النبي ويقتدون به، فيرون التعالي عن الصدقة واجبا محتوما على المستغنى: شرب عمر بن الخطاب لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه: من أين هذا اللبن؟ فاخبره أنه ورد على ماء قد سماه (فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فجعلوا لي من ألبانها، فجعلته في سقائي، فهو هذا) فأدخل عمر في يده فاستقاءه.

والإسلام في إبائه أن تتسرب الصدقات لغير المستحق يعين مصاريفها، بحيث يفيد منها الفرد والجماعة والدولة والدين. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤتفكة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وأبن السبيل). ويقول النبي في شأن تعيين هذه المصارف: (إن الله تعالى لم يرض في قسمة الأموال بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه).

ويحبب الإسلام في العمل المنتج مهما يكن شأنه ضئيلاً، ليس فحسب ليعول المرء نفسه في ظل الكرامة والاستقلال ولا يكون كلا على الدخل القومي ولا يدخل على المسؤول ضيقا في ماله، ولكن أيضاً ليسهم في التقدم الاجتماعي للأمة ويحرز شرف التصدق (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه).

ومن جميل ما أشارت إليه السنة أن الأنبياء مع علو درجتهم كانت لهم حرف يكسبون منها الحلال الخالي عن المنة، فآدم أحترف الزراعة، ونوح التجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة كان يكتب التوراة بيده، وكل منهم قد رعى الغنم.

ويجعل الرسول عدم السؤال أمراً يطلب إلى المسلمين مبايعته عليه: حدث عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه.

والإسلام حريص عل كل الناس ألا يتعطلوا، ولذلك يتيح لمن لا مال لهم التعاقد مع أرباب الأموال الذي يعجزون عن تثميرها على تولي التثمير بشرائط خاصة تحقق نفع الطرفين كليهما. فالفقه الإسلامي يبسط أحكام المضاربة، وهي شركة في الربح يكون المال فيها من جانب والعمل من جانب آخر، والمزارعة وهي شركة في إنتاج الأرض من بين صاحب الأرض والعامل، والمساقات وهي شركة في الثمر بين صاحب الشجر والعامل. كما يضع الفقه الإسلامي أحكام الإجارة وهي عقد تمليك المنافع أو هي بيع المنافع.

وتنشيطا للحياة الاقتصادية، لا يحب الإسلام حبس المال عن الاستغلال، ولذلك أعطى القاضي حق إقراض مال الوقف والغائب واللقطة، بل إن مال اليتيم - وحرص الإسلام عليه هو ما هو - يستطيع القاضي أو الوصي إقراضه بشرط، وكذلك مال المسجد للمتولي إقراضه.

وتخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية. يروى (أبن بطوطة) في رحلته أن كل من كان ينقطع بجهة من جهات دمشق (لابد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة. .) إلى أن يقول: (ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر: من حراسة بستان أو أمانة طاحون أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح). . . الخ.

والتصدق على الجناة مقبول في الإسلام ما صلحت نية المتصدق وما أريد بالصدقة رد الضال وإقامته على الطريق. والنبي في هذا الشأن يروي قصة محسن وقعت صدقته عند زانية وعند غني. فقبلت صدقته (أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته؛ ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل).

وفي تنظيم الإحسان، يسبق النبي غير مأموم بأسوة أو متبع لسابقه، إلى تقرير (بحث الحالة) الذي هو من أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة: عن (قبيصة بن مخارق الهلالي) قال: تحملت حمالة (الحمالة هي المال الذي يستدينه الإنسان وينفقه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك) فأتيت رسول الله ، اسأل فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً.

فالنبي يرى ألا يأخذ سائل بدعوى الفاقة شيئاً حتى يتحرى أمره، فيشهد بإعساره لا فرد واحد قد يكون له هوى في المنع أو الإعطاء بل ثلاثة، وليس ثلاثة كيفما أتفق فيكون منهم من لا نظر له أو من لا فهم له، وإنما ثلاثة يكونون جميعاً من ذوي اليقظة والعقل، حتى تكون شهادتهم حيث يريد التحري من القبول والتقدير، ولا يكون هؤلاء ممن لم تربطهم بالسائل علاقة تقفهم على حقيقة ماله - والمال مما يخفى عادة ولا يعلمه إلا ألصق الناس بالمرء - وإنما يكونون من أهل الخبرة بحال باطنه وظاهره حتى لا يشهدوا بما لم يحيطوا بعلمه. والإحسان بعد كل تلك الحيطة ليس شيئاً غير ممنوع ولا مقطوع، وإنما هو بالقدر الذي يتيح قواما من عيش، فإن تجاوزه فهو حرام لا يحل كسبه ولا أكله.

والإسلام في تعريف المسكين الذي تحق له الصدقة ثاقب النظر دقيق التقدير واسع الرحمة.

يقول النبي (ص): (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحي أو لا يسأل الناس إلحافا).

وفي رواية مسلم: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والثمرة والثمرتان) قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال (الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).

أما بعد. فهذه إلمامة يضيق المقام عن الغوص فيها إلى الأعماق. وما نبغي من استهداء الإسلام إلا توجيهاته الراشدة لفن الخدمة الاجتماعية مجرد الإشادة بأمجاده والتحليق في الآفاق بتراثه. ولكننا نبغي أيضاً بعض البر بالعلم وبعض الإخلاص لذلك الفن ذاته.

لبيب السعيد