مجلة الرسالة/العدد 1019/طرائف وقصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1019/طرائف وقصص

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1953



ليلة عيد الميلاد

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ حسن نديم

كتب إلى الجنرال براميل يدعوني إلى قضاء عطلة عيد الميلاد في قريته وأردف يقول: إنني لم أدع هذا العام سوى اللورد تيلوك شقيق زوجتي والسيدة قرينته، ولا أحسب السامر سيكون بهيجا بالقدر الذي تنشده فأسألك المعذرة.

وعلى كل حال إذا كنت لا تبرم بحياة العزلة ولا تخشى شتاء إنجلترا فتفضل بالمجيء وسيسعدنا لقاؤك والترحيب بك والتحدث معاً عن الأيام الخوالي وطيبها.

كنت أعلم إن هؤلاء الأصدقاء قد رزئوا في غضون العام الماضي بفقد أبنه لهم في الربيع الثامن عشر ماتت على إثر سقطتها من صهوة جواد أثناء الصيد فرثيت لحالهم وتأثرت لمصابهم. ولما كنت تواقاً إلى رؤيتهم لأواسيهم وأسرى عنهم فقد قبلت الدعوة.

شعرت بادئ الأمر بالهيبة من الورد تيلوك وزوجته؛ غير أنني سرعان ما أنست إلى صحبتهما عندما عرفتهما، كان في مقدور مضيفي الجنرال براميل أن يظل صامتا مدة ثلاث ساعات لا يفوه خلالها بكلمة واحدة وهو جالس يدخن غليونه على مقربة من نار المدفأة وكذلك كانت حال زوجته تجلس في صمت وهدوء فتعمل أو تطرز. أما اللورد تيلوك فهو ثرثار لطيف، عمل سفيرا لبلاده في عدة أقطار ويدل حديثه على أنه شاهد حقيقة تلك الأقطار على غير ما أثر عن أنداده من السفراء، وكانت زوجته على دمامة خلقها تفيض ظرفا وخفة وإن ارتدت من الثياب أرخصها مما لا يتفق ومكانتها في المجتمع.

لقد خلف الدمع والأسى آثاره واضحة على وجه السيدة برامبل غير أنها لم تحدثني عن فجيعتها ومصابها، اللهم إلا في أول مساء عندما صعدت برفقتها إلى جناح النوم فقد توقفت لحظة أمام الحجرة السابقة لغرفتي وقالت لي: كانت هذه غرفتها. . . ثم استدارت ومضت في سبيلها.

قضينا سهرة عيد الميلاد في قاعة المكتبة على مقربة من مدفأة تندلع منها السنة اللهب. لم يكن يضئ تلك القاعة سوى عدد من الشموع، فكان المرء يلمح في ضوء القمر خلال زجاج نافذة منظر الحديقة وقد أبيض أديمها وغطتها الثلوج. كان الجنرال برامبل يدخن غليونه وزوجه تعمل بإبرها عندما بدأ اللورد تيلوك يتحدث عن ليلة عيد الميلاد.

قال اللورد: منذ خمسين عاما كان كثير من فلاحي مقاطعتي يعتقدون أن الحيوانات ينطلق لسانها في ليلة الميلاد فتنطق كالبشر سواء بسواء. وأذكر أنني سمعت مرصعتي تقص حكايات عن حارس مزرعة كان يأبى أن يصدق هذه الخرافة. اختبأ هذا الحارس داخل حظيرة الخيول في تلك الليلة ليتحقق من صحة الأسطورة، حتى إذا ما دقت الأجراس مؤذنة بانتصاف الليل رأى الحارس أحد الجياد يميل برأسه على رفيقه ويقول له: سنساق إلى مهمة شاقة بعد ثمانية أيام فيجيبه الآخر: نعم ولا تنس أن الحارس ثقيل الوزن فيعقب الجواد الأول: حقاً إنه ثقيل الوزن والطريق إلى المقابر وعر. ومات حارس المزرعة بعد ثمانية أيام! قال الجنرال برامبل: إن هذا لعمري هراء. وهل كانت مرضعتك تعرف حقاً هذا الرجل؟

فأجاب اللورد تيلوك: إنها تعرفه حق المعرفة يا سيدي وحسبك أن تعلم أنه أخوها.

لبث محدثنا صامتا زمنا وأخذت أتأمل ألسنة اللهب المندلعة وهي تزمزم في الأتون كما تدوي الأعلام في مهب العاصفة. لم يبدل الجنرال حراكاً أما زوجه فكانت تطرز خطوطا بارزة ذات ألوان زاهية على قطعة من القماش. ثم استأنف اللورد حديثه قائلا:

وفي السويد كثيرا ما رأيت الفلاحين في قرية (داليكارلي) يعدون العشاء للأرواح في ليلة عيد الميلاد، إذ يعتقدون هنالك أن الموتى يعودون في تلك الليلة إلى الدور التي كانت مسرحا لحياتهم. ولهذا يشعل أهل القرية مساء قبل أن يفترقوا نارا كبيرة من لهب الشموع اللدنة ويضعون على المائدة غطاء ناصع البياض وينظفون المقاعد ثم يخلون المكان للأطياف حتى إذا ما تنفس صبح اليوم التالي وجد القوم أن شيئا من الوحل قد تناثر على الأرض وأن الآنية والأكواب قد تحركت من أماكنها وأن الجو يعبق برائحة غريبة.

فقال الجنرال بصوت خفيض: وذلك أيضاً لغو وهراء أيقنت عند ذاك أن محدثنا يفتقر إلى الكياسة والفطنة وتأملت السيدة برامبل فإذا هي ساكنة وادعة؛ بيد أني رأيت أن أغير موضوع الحديث فقلت: أما أنا فأرى في ليلة عيد الميلاد نفس ما رآه واعتقده شكسبير. . أتذكرون ما قاله في هذا الصدد؟

(ليلة لا تجرؤ الأرواح فيها أن تعصف في الفضاء. الجن مكتوف اليدين، والساحرة لا ينفع لها سحر، والليل ساج لا يغشاه أنين ولا شكوى)

فقال الليدي تيلوك في لهجة ملؤها الجد والإصرار: أما نحن فنعتقد إن شكسبير قد خانه الصواب فيما ذهب إليه. هل لك يا عزيزي إدوار أن تقص علينا ذلك الحادث الذي وقع لك في قصر تيلوك؟

فهتفت قائلا: يسعدني جدا أن أستمع إلى هذه المغامرة حسنا - قال اللورد تيلوك - منذ خمسة أعوام كاملات أي في ليلة عيد الميلاد سنة 1920 أحسست بصداع خفيف. ولما كان الجو جميلا يغشى برودته جفاف فقد رغبت في المسير قليلا في الهواء الطلق. كان الليل قد أنتصف أو كاد عندما غادرت منزلي ومشيت بضع خطوات حتى إذا ما جاوزت سور المتنزه سلكت الدرب الصغير الذي يحف به من على الجانبين سياج من الحسك الطويل، وكان يضيئه في تلك الليلة بدر مكتمل وسماء وشتها النجوم. كنت قد قطعت في سيري مسافة تبلغ نصف ميل عندما لمحت على بعد فوق الصقيع الأبيض آثاراً قاتمة عبر الدرب. اقتربت من هذه الآثار فرأيت لفرط دهشتي إنها خيط دماء. طفقت أبحث عن مصدر هذا السيل الرفيع فوجدت أن السياج الحسكي ينحرف في هذا الموضع فينشئ مع الدرب زاوية. . وأن جسداً مستلقيا دون حراك قد قبع في ركن الزاوية

اقتربت من المكان وحدقت النظر فيه فإذا بي أمام جثة فعدت أدراجي راكضا إلى الدار وناديت خدمي. أرسلت بعضهم لإخطار السلطات وأمرت الآخرين أن يحملوا مشاعلهم ويتبعوني. سلكنا نفس الدرب الذي أتيت منه ومشينا مدة طويلة بل خيل إلى إنها طويلة جدا. ولكننا لم نر شيئاً وانبريت أبحث عن الأثر الدامي دون جدوى. وأخيراً وبعد ما قطعنا ميلين على الأقل قلت لمن حولي: هذا لعمري مستحيل، فلم أبتعد بهذا القدر ولا بد أننا تخطينا المكان فلنعد.

ذرعنا الدرب مرة ثانية وقلت لمن معي إنه ليس من العسير عليهم أن يهتدوا إلى المكان. فهو في البقعة التي ينحرف فيها السياج وينشئ مع الدرب زاوية. غير أن أحداً من الخدم لم يتذكر أنه رأى الموضع الذي وصفته. وسرنا حذاء السياج من جديد وانطلقنا إلى أبعد ما استطعنا أن ننطلق فوجدنا السياج مستقيما لا انحراف فيه.

وأمسك اللورد تيلوك عن الكلام لحظة. كانت الثلوج تتساقط في الخراج وئيداً، وكنا لا نسمع في جوف هذا السكون الموحش سوى خشخشة الخيوط الحريرية في قطعة القماش وزفرة النيران المستعرة في المدفأة.

سألت محدثي: ربما كنت إذ ذاك واقعاً تحت تأثير نوبة من الهلوسة؟!

استدار الجنرال برامبل نحوي وحدق في طويلاً وإن ظل ساكناً لا ينبس ببنت شفة، وقال اللورد تيلوك وكأنما يرد على استفساري: لقد لبثت بالفعل طويلاً وأنا أعتقد ما تقول، فقد استجوبت العسس والمارة والجيران ولم أتوصل إلى شيء، فلم ترتكب أية جريمة في تلك الليلة في طريق قصري ولم يحدث في هذه النقطة ما يكدر الصفو. وبعد انقضاء أربعة أعوام على هذا الحادث، وكنت قد سلمت بأن لوثة من الهلوسة قد أتلفت حواسي في تلك الليلة فتهيأت لي هذه الجريمة، جاءني خطاب من صديق لي يمتهن التنقيب عن الآثار ويعني بدراستها، لقد سررت بهذا الخطاب أيما سرور واليكم كما جاء فيه:

عزيزي اللورد تيلوك

بينما كنت أجري أبحاثي هذا لصباح في المتحف البريطاني تكشفت لي حقيقة هامة تتصل بقصة غريبة كنت قد رويتها لي في آخر عطلة أسبوعية سعدت بقضائها في ضيعتك. كنت أتصفح بعض الصحف المحلية القديمة التي كانت مصدر في مقاطعتك لاستيفاء بعض الأبحاث فقرأت الخبر التالي:

(في يوم 24 ديسمبر 1820 وعلى بعد ستمائة ياردة من قصر آل تيلوك أغتال بعض قطاع الطرق السير جون لاسي من وجهاء الكاثوليك بينما كان يسير بمفرده لحضور قداس نصف الليل. كان هؤلاء الأشقياء يتربصون بالمارة مختبئين خلف السياج الذي ينحرف في عدة مواضع فيحدث مع الدرب زوايا، وهنالك أيضا أخفوا الجثة بعد ما جردوا صاحبها مما كان يحمل من نقود. وعلى أثر هذا الحادث أمر سيد المقاطعة بإزالة هذه الزوايا، ومن هذا التاريخ أصبح السياج الذي يحاذي الدرب مستقيما لا التواء فيه)

قالت الليدي تيلوك: آه لو كنتم معي ورأيتم آيات الفوز والابتهاج مرتسمة على وجه إدوار وهو يتلو علي هذا الخطاب.

فأجاب الجنرال برامبل في جد ووقار: هذا جد مفهوم وأمنت زوجة بصدق على عبارته

حدقت فيهم جميعا في دهش وقلت:

- لماذا؟ أتعتقدون أن الميت قد بعث في مكان الحادث لمناسبة الذكرى المئوية لمصرعه؟

فأجابني اللورد في قلق وضجر: وهل تعتقد يا صاح بغير ذلك؟

نظر إلي الجنرال برامبل وزوجه نظرة كلها استنكار ولوم، فسكت على مضض، وأيقنت إن قصتي الجواد الناطق وغذاء الأطياف لا بد قد وجدتا من هذه العقول الساذجة تصديقا واقتناعاً، فنهضت واستأذنت في الذهاب إلى المخدع.

كانت بغرفتي مدفأة موقدة تضطرم فيها نار وقودها خشب الصنوبر أشبعت جو المخدع بدخان شفاف بينما اكتست النوافذ من الخارج بطبقة من الثلج الرخو كمندوف القطن. أطفأت شموع الغرفة، فصارت ألسنة اللهب المترقص في المدفأة تشيع وحدها الحرارة في ضباب دافئ وضيء، وشعرت بقيظ لم أستطع معه النعاس، وأخذت تجول بخاطري قصص غريبة. وبعد هنيهة، سمعت في الغرفة المجاورة دقات ساعة صداحة تعلن انتصاف الليل.

كنت متعباً مضطرب الأعصاب بعض الشيء. . غير أني شعرت في الوقت ذاته بارتياح إلى ما أصابني من أرق. . وأحسست كأنما حلت بغرفتي روح وادعة تنفث فيها جوا من العذوبة والصفاء. سمعت الصداحة تدق جميع ساعات الليل إلى أن بانت تباشير الفجر فنمت.

نزلت في الصباح لتناول الإفطار متأخراً بعض الوقت فسألتني السيدة برامبل - وهي واقفة أمام المائدة الزاخرة بألوان الطعام في قاعة المآدب - كيف قضيت ليلتي -

إن شئت الصراحة يا سيدتي أخبرك باني نمت من الليل غير أقله، أن السهاد لم يضرني في شئ فقد كان لي من رنين ساعتكم الصداحة خير رفيق أنيس.

فأنتفض الجنرال بغتة وقال: ماذا؟ أتقول إنك سمعت دقات الساعة؟

ثم صاح بحدة في زوجته: هل فهمت يا إديت؟

أجبت الجنرال بالإيجاب وأنا دهش من هذه اللهجة العنيفة التي نطق بها عبارته الأخيرة وكانت أطول عبارة سمعتها تخرج من فيه. وعندئذ حدقت في السيدة برامبل وقالت في تأثر عميق وعيناها مغرورقتان بالدمع: يجدر بي يا سيدي أن أوضح لك جلية الأمر. هناك في الحجرة المجاورة لمخدعك ساعة صداحة أهديت إلى ابنتي وهي طفلة فكانت تحبها كثيراً وتملؤها بنفسها كل ليلة. ومنذ قضت عزيزتنا لم يمسها أحد، وألينا على أنفسنا ألا يمسها أحد، وكنا نظن إن نغم الساعة قد سكن إلى الأبد غير إن ليلة الأمس كانت - كما ترى يا سيدي العزيز - ليلة عيد الميلاد.

حسن نديم