مجلة الرسالة/العدد 1019/العربية والإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 1019/العربية والإسلامية
للأستاذ علي الطنطاوي
سيقول القراء من المصريين: ما العربية وما الإسلامية، وهما شئ واحد؟ ومن قال بالعربية قال بالإسلام؛ لأن العربية لم تكن شيئا مذكورا لولا الإسلام. ومن قال بالإسلام قال بالعربية؛ لأن الإسلام دين، نبيه عربي، وقرأنه عربي، وقبلته في بلاد العرب. والنداء إلى التوجه إليها بلسان العرب؟!
لا يدرى القراء من المصريين أن هذا حديث المجالس في الشام والأندية والمدارس، لا يمر يوم دون مناظرة فيه بين الشباب المسلمين الذين يحسبون أن من الإسلام محاربة الفكرة العربية وترك قيادها لغيرهم، والشباب القوميين الذي يظنون أنهم يستطيعون تجريد العربية من الإسلام والدعوة إليها على أنها قومية من القوميات.
وكذلك كانت الحال لما كنا ندرس في مدارس العراق حين اشتدت الدعوة القومية في عهد سامي شوكت في وكالة وزارة المعارف. واستجاب لها المدرسون خوفاً وطمعاً. ومنهم من استجاب لها عن إيمان بها، ولم يبق ثابتا على إسلاميته إلا ثلاثة: عبد المنعم خلاف، ومطهر العظمة، وعلي الطنطاوي، نقلوا جميعا إلى شمال العراق، إلى مناطق الأكراد. فاستقال الأول وعاد إلى مصر؛ وعاد الثالث إلى الشام بعد شهور؛ وثبت الثاني إلى نهاية حركة رشيد عالي الكيلاني.
غير أن الفرق بيننا وبين العراق، أن الدعوة القومية هي الغالبة على شبابه. والقوميون الملحدون قلة في الشام. أتباع حزب ألفه على عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى ووجد له أتباعاً من الشبان الحائرين الذين يحبون أن يتبعوا (موضة) العصر بالانتساب إلى حزب من الأحزاب. واكثر أهل الشام يقولون بالإسلام وبالعربية. والكلمتان على لساني أنا وكتاباتي من أكثر من ربع قرن، كالمترادفتين؛ أقول الإسلام وأريد العربية، وأكتب العربية وأقصد الإسلام
لذلك أجهدت ذهني، وكددت فكري، حتى استطعت إدراك جوهر الخلاف بين الفريقين. وما ذاك عن جهل مني بحجج الطرفين وأقوالهما، فلقد حفظتها من كثرة ما سمعتها؛ بل لغموض صورة الدعوة العربية حتى في أذهان أصحابها. وإنهم حين يكتبون فيها، أو يجادلون عنها، يأتون بشيء هو إلى الفلسفة الغامضة، والخطابيات الفارغة، أدنى منه إلى التعريف العلمي الواضح؛ ولأن مورد أفكارهم، ومنبع أقوالهم في القومية، ترجمة ما كتب في القومية في ألسن الغرب، ولاسيما الألماني والإيطالي.
وجوهر الخلاف إنما كان على بناء الدولة. هل تكون إسلامية، ويكون الإسلام هو الرابطة بين أفرادها فيدخل فيه المسلمون جميعاً ويكونون أمة واحدة. أم تكون عربية، وتكون الرابطة رابطة الجنس، فكل عربي هو منا ولو لم يكن مسلما، وكل أعجمي ليس منا ولو كان مسلما؟
أي أن ثمرة الخلاف كما يقول الفقهاء، في العربي غير المسلم، والمسلم غير العربي، أيهما الذي يجب أن نتولاه نحن العرب المسلمين؟
وأنا سأحاول أن أثبت في هذا الفصل، أنه ليس بين الإسلام والعربية تناف ولا تباين، وأن المسلمين أمة واحدة وإنها أشد تماسكاً، وأدنى إلى الوحدة من مجموع العرب، وأن هذا الخلاف ليس له ثمرة، لأن إخواننا العرب غير المسلمين، عاشوا معنا، وسيعيشون معنا، ما ضقنا بهم ولا ضاقوا بنا، وما ظلمناهم ولا شكوا من ظلمنا، وأن الشباب المسلمين هم أحق الناس بحمل لواء العربية المسلمة، والدفاع عنها، والعمل على تمجيدها وفيما يلي تفصيل هذا الأجمال:
من الوجهة النظرية
إن في (نظرية الدولة) آراء كثيرة يدرسها طلاب كليات الحقوق. وأشهرها وأصحها، والذي عليه المعول فيها هو رأى رينان. ونحن نطبقه على هذا البحث، لا لأننا نجد لزاما علينا أن نتبع الغربيين حتما في مذاهبهم، ونفكر برؤوسهم، بل مجاراة لمن يقول بذلك من الشباب وقلبا لدليلهم عليهم، وإلا فنحن نعلم أن لدينا من رأى الإسلام في إقامة الدولة ما هو أصح من رأى رينان صحة، وأكثرها نفعا لنا، وتحقيقا لمصلحتنا، وإن كان رأي رينان هذا لا يبعد كثيراً، ولعله أخذه من رأي الإسلام الذي كان على إلمام بأحكامه.
الدولة عند رينان لا تبنى على الأرض وحدها، فرب دولة معترف بها تكون أرضها محتلة فيها أعداؤها. ولقد شاهدنا في الحرب الأخيرة دولا كثيرة بلا أرض، وكان في مصر طائفة منها، كل دولة في جناح من فندق شبرد. ونشاهد الآن دولة عموم فلسطين. ولا تبنى على اللسان فإن أمامنا دولاً فيها أكثر من لسان كسويسرة، ودولاً لها لسان واحد كإنكلترا وأمريكا، ولا على الدين (من حيث هو صلة بين العبد وربه) فقد تتعدد الأديان في الدولة، وتتعدد الدول في الدين، بل على ما سماه (الإرادة المشتركة) فكل كتلة جمع بين أفرادها تاريخ واحد وأمل واحد، وكانت موجات تاريخها ومطامحها في مستقبلها، متشابهة في نفوس أفرادها، كانت هذه الكتلة أمة وحق لها أن تنشئ دولة. وشرح هذا المتن الموجز معروف مشهور.
فلنبحث عن هذه الإرادة المشتركة في الكتلة العربية وفي الكتلة الإسلامية؟ هل للعرب إرادة مشتركة؟ هل تتحد موجات الماضي ومطامح المستقبل في نفوس العرب جميعاً؟ إذا قرأت أنا وعربي حبل لبنان الماروني تاريخ الغزوات الصليبية. . فهل يكون أثر هذا التاريخ في نفسي مثل أثره في نفسه؟ هل يطمح مثلي إلى الوحدة، ويشاركني في المثل الأعلى أتمثل المستقبل عليه؟
من الوجهة الواقعية
بل تعالوا ننظر إلى الواقع، هل استطاعت جامعة الدول العربية بعد هذه السنين الطويلة والمحاولات الكثيرة، أن تجد لها هذه (الإرادة المشتركة)؟ ألم تبد هذه الإرادة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في كراتشي بصورة أوضح وأظهر على رغم أنه مؤتمر وليس جامعة دول، وأنه جديد مرتجل تعد له العدة ولم يبذل في سبيله جهد؟
من وجهة المصلحة
وقد مضى عهد القوميات وأصبح تاريخنا يدرس في المدارس، وأنقسم العالم اليوم إلى قسمين كبيرين مختلفين: قسم في شرق الأرض وقسم في غربها. وما اختلفا في الحقيقة على عقيدة ولا مبدأ! ما اختلفا إلا علينا نحن الأمم الضعيفة. وما استعدا إلا للحرب في سبيلنا أيهما يفوز غنيمة باردة أو سخنة بنا. فهل من المصلحة أن نبقى متفرقين منقسمين أو أن نتحد ونتقارب ونقيم من أنفسنا قسما ثالثاً محايداً، لا يقاتل على غنيمة ولا يدع أحدا يجعل منه غنيمة؟
وإذا ثبت أن المصلحة في الاتحاد (وذلك ثابت قطعا) فهل نؤلف كتلة من سبعين مليونا مشكوكا في اتحاد أبنائها في الذكريات والآمال والإرادة العامة؟ أم كتلة من أربعمائة مليون؟
هذا ومن المفهوم المعلوم من الدين ومن العقل ومن الماضي بالضرورة أننا لا نتخلىعن هؤلاء العرب غير المسلمين ولا نعدهم غرباء عنا، بل هم إخواننا ما أحبوا أخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وهذي نصوص ديننا وهذي وقائع تاريخنا، شاهدة على دعوانا. فلا مجال لإثارة العصبيات، والإفساد بين الإخوان، من هذه الناحية، فلا يطمع في ذلك المفرقون المفسدون.
وبعد فما هي حدود الاتصال بين العربية والإسلامية؟
من الوجهة المبدئية
أما الإسلامية فمعروفة واضحة، وللمسلم تعريف شامل وحد منطقي، فما هو حد العربي الذي يشمل الأفراد ويخرج الأضداد؟
أني لم أجد لدعاة العربية إلى اليوم هذا التعريف الجامع المانع للعربي. من هو العربي؟ أما من عرفنا من قومي العراق، فإن العربي عندهم هو عربي النسب، أي أنهم على مذهب أصحاب العنصرية ومقتضى ذلك أن يكون بشار مثلا شاعرا فارسياً، وأبن الرومي شاعرا يونانياً، بل إننا لو ذهبنا هذا المذهب لكان ملك الإنكليز غير إنكليزي، ولكان من الواجب الحجر عليه خلال الحرب الماضية لأنه من رعايا الألمان؟
ومن منا اليوم يستطيع أن يرتفع بنسبه إلى ربيعة أو إلى مضر، أو إلى أي فرع من فروع الشجرة العربية، إلا أن يكون نسباً ملفقاً كأكثر أنساب الأشراف الذين منحوا الشهادة بان منهم الملك الصالح. . فاروق!
وأما من عرفنا من قومي الشام فإن لهم أقوالاً أشهرها أن العربي هم من يتكلم العربية لغة أصلية له، ويعيش في بلاد العرب، ويشارك العرب آمالهم وآلامهم.
وهذا التعريف كالنحاس المطلي بالذهب، إن مسته برفق كان ذهبا له وميضه ولمعانه، ولكنك إن وضعته على المحك خرج نحاساً! لأن من غير العرب الذين عاشوا في بلاد العرب، كالأرمن في الشام والأروام في مصر من ينشئ أولاده على الكلام بالعربية كأهل البلاد من العرب، ثم إنه يعيش بينهم! أما المشاركة في الآمال والآلام فشئ خفي لا يعلمه إلا الله، ولا تظهره إلا التجربة، ولا يصح أن يكون مقياساً منطقياً. وإذا أردنا أن نحصي سكان بلدة ما من العرب، فكيف نقيم الامتحان العام لمعرفة آمالهم وآلامهم وما يشاركون فيه وما يخالفون؟
ثم إن من العرب من يتكلم في بيته تظرفاً أو تقليداً بالفرنسية، ويقيم في غير بلاد العرب، وليس في نفسه أمل لأمته، ولا ألم عليها. لا يهتم إلا بخاصة أمره، وجوالب لذته وراحته. فهل نعد هذا من غير العرب؟ وماذا يكون: فرنسياً أو إنكليزياً أو ماذا؟
فأنت ترى أن الدعوة العربية تنهار بذلك من الأساس، إذ كيف نقيم البناء ولم نعد مادة البناء؟
أما الإسلام فعقيدة يعبر عنها قول معين، وعبادة وخلق، فمن نطق بالكلمة المعبرة عن العقيدة، وأدى فروض هذه العبادة، وتخلق بهذا الأخلاق، فهو واحد من المسلمين، مهما كان لونه وجنسه ولسانه.
من الوجهة الإسلامية
والإسلام لم يكتف بإسقاط الجنسية من حسابه، بل لقد حاربها، ومنع كل دعوة عصبية جنسية أو قبلية، وسماها دعوة الجاهلية. وجاء منذ أربعة عشر قرنا بما انتهى إليه العالم اليوم، حين أسقط حواجز القوميات وأقام كلا من كتلتيه على عقيدة ومبدأ ولو ظاهراً، فقسم الإسلام الناس إلى قسمين: الذين آمنوا، والذين كفروا. ووجه الخطاب إليهم، بهذا العنوان؛ فكان من الذين آمنوا - وهم أفراد الدولة الإسلامية - رجل رومي هو صهيب، ورجل حبشي هو بلال، ورجل فارسي هو سلمان، ثلاثة رموز للدولة الكبرى يومئذ. وكان من الذين كفروا العربي القرشي الهاشمي عم محمد وأخو أبيه وأبن جده أبو لهب. وكان لهؤلاء الثلاثة منزلة رفيعة في الدولة الإسلامية، فكان بلال وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام (بالأذان) خمس مرات في كل يوم. وكان سلمان معدوداً على لسان النبي من أهل بيت النبوة. ونزل في شتم أبي لهب قرآن فنحن نقرأ في صلاتنا ذم أبي لهب.
ولكن الإسلام لم يطمس الوقائع التي تجعل للعروبة مكاناً ظاهراً في دولته، فالنبي عربي، والعرب قومه ومنهم أصحابه الأولون الذين نشروا الدين، وأبلغوه أهل المشرق والمغرب. والقرآن كتاب عربي، والحج إلى بلد عربي، فكل مسلم مضطر بذلك إلى حب العرب وتقديرهم وتعلم لسانهم، وزيارة أرضهم.
ولولا الإسلام ما انتشرت لغة العرب، ولا أقبل الناس عليها، حتى أن مسلمي الصين اليوم وهو خمسون مليونا كلهم يتكلم العربية. وعرب الإسلام آلاف المدن، فهل يستطيع شباب الدعوة العربية اليوم أن يعربوا قرية واحدة تركية أو كردية باسم العربية؟
ولم نقلت إلى شمال العراق: إلى كركوك، كان الطلاب كارهين لدرس العربية ومدرسه، لما كان يسوؤهم به من الدعوة إلى القومية العربية وهم أكراد وأتراك. فلما دخلت أحسست هذه لكراهية في نفوسهم، فخطبتهم خطبة قلت لهم فيها إن العرب كانوا أضل أمة فهداهم الله بهذا الدين الذين نتشرف جميعاً بالانتساب إليه، والذي منع دعوة الجاهلية وحرم العصبية. . . إلى أن قلت لهم: فتعلموا العربية لا من أجل هؤلاء القوميين من العرب، بل من أجل محمد الذي تحبونه، والقرآن الذي تقرونه، والله الذي تعبدونه.
ففاضت العيون بالدمع، وخشعت القلوب، وأمحت الكراهية من الوجوه، وصار درس العربية أحب الدروس إليهم.
وذهبت مرة إلى السليمانية سنة 1938 وهي قصبة الأكراد. واشهد أن من الأكراد صالحين وعلماء وذوي رجولة وشهامة، فمررت في آخر السهرة على مسجد فيه عين ماء لنشرب منها، وكانت ليلة صيف، وكان معي شباب يجادلونني في العربية والإسلامية، فوجدنا على بساط في أرض الجامع شابين كرديين من طلبة العلم الديني منبطحين على وجهيهما وأمام عيونهما مصباح وكتاب في أصول الفقه، فيه عبارة معقدة، فما يحاولان فهمها وتفسيرها، ويستعينان بإعرابها ورده ضمائرهما إلى مكانها. . .
فقلت: ألا ترون؟ إن هذين يشتغلان بلغتكم العربية أكثر من اشتغالكم أنتم بها، لأنها عندهما دين! فهل تستطيعون أن تجعلوا فتى كردياً غير متدين يقبل باسم قوميتكم هذه على العربية؟ فسكتوا
ولقد كان المسلمون أمة واحدة، فقامت فيهم هذه الفتنة، فتنة القومية! قال الترك: أتراك. فقال العرب: عرب. فقال الأكراد: أكراد. فانقسمت الأمة الواحدة وتفرق الجمع، وضعفنا وقوى العدو بضعفنا.
من الوجهة التاريخية
ثم إني أحب أن اسأل من هم هؤلاء العرب الذين تفخرون بهم، وتعتزون بأمجادهم. هل هم عرب الجاهلية والعهود التي كانت قبلها، والتي لم يدركها نور التاريخ، ولم يصل إليها علم المؤرخين إلا قليلاً؟ أم عرب دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وهاتيك المدن والمدارس والمكتبات والمؤلفات، وذلك العلم والأدب؟
أما الجاهلية، فإنا لا نعرف شاعراً واحدا فيها ذكر العرب أمة، وأفتخر بالعروبة جنساً. إنما كان فخر كل شاعر بقبيلته، ببكر أو بتغلب أو بعبس أو بكندة وهذه هي المعلقات، وهذه أشعار الجاهلية، فهل فيها فخر بالعرب؟
إن الذي جعل العرب كتلة واحدة من الكتل التي اندمجت في الوحدة الإسلامية، هو الإسلام.
وكل ما كان للعرب بعد من مجد وعظم وعلم وسلطان وحضارة وفخار إنما صنعه الإسلام، فكيف يتفق في منطق هؤلاء القوميين أن نفخر بالفعل وننكر الفاعل، وأن نمجد أثر الإسلام ولا نقر بالإسلام.
يقول بعض المتحمسين من شباب القوميين إن في العرب قوة كامنة انتفضت مرة فكانت الإسلام. وستكون لها انتفاضة جديدة تخرج بمظهر آخر، ولكن لا هم ولا نحن ولا أنتم تعرفون ما هو المظهر الآخر!
وهو يعظمون محمداً ويكبرونه، ولكنهم لفرط الحماسة (وحماسة الشباب أحيانا تقوى على حساب العقل) يسيئون إلى محمد الذي يعظمونه ويصمونه بأكبر ما يوصم به رجل وهم لا يشعرون. يصمونه بالكذب: هو يقول لهم أنه رسول من الله، وإن هذا القرآن ليس من عند نفسه، وهم يقولون لا بل إنه هو الذي ألف من عبقريته ونبوغه هذا القرآن.
أفرأيت إلى أين تصل حماسة الشباب (وكدت أقول حماقة الشباب) بأصحابها؟
ويأتون بكلام له رنة ودوي كدوي الطبل، وإن كان فارغاً من المعنى فراغ الطبل من الشحم واللحم. يقولون (وهذا شعار حزبهم): أمة واحدة ذات رسالة خالدة
وما زالوا يهتفون بذلك ويرددونه حتى اقتنعوا بأنه من كلام النبوة الأولى. مع أنه لا معنى له. لأن العرب كما بينا من قبل، ليسوا بحالهم الحاضرة أمة واحدة، بل المسلمون هم الأمة الواحدة. ولأن هذه الرسالة إن لم تكن الإسلام كانت مجرد كلام.
من الوجهة التطبيقية
والقومية (كل قومية في الدنيا) إنما تقوم على دعائم ثلاثة: اللغة، والعادات، والتاريخ.
أما اللغة فإنها بعلومها وفنونها، كالفلك الذي يدور على قطب واحد، وقطبها القرآن، وما أنشئت هذه العلوم كلها إلا خدمة له، النحو لمنع اللحن فيه، واللغة لتحقيق عربيته، والبلاغة لإثبات إعجازه، والتفسير لشرح معانيه إلى غير ذلك مما هو معروف
ودعاة الإسلامية كانوا ولا يزالون، وسيكونون أبداً هم أئمة اللغة وفرسان بلاغتها، وأرباب البيان فيها. وما عهدنا للآخرين كاتباً بينا ولا رواية ولا عالماً معترفاً بإمامته وتقدمه في علوم اللغة
وأما العادات العربية، على أنه ينبغي الإبقاء أبدا على حسنها، والتخلص من سيئها، فما رأينا في دعاة العربية من يتمسك بها! ولقد رأينا أكثرهم يعيش عيش الإفرنج، ويأخذ أوضاعهم في طعامهم وشرابهم ولباسهم بل ربما تزوج من نسائهم وكلم أهله (طبعاً) بلسانهم
وأما التاريخ فواحد. تاريخ العرب هو تاريخ الإسلام لو حذفنا منه الإسلام وما نشأ عنه لم يبق للعرب شئ، فالعرب ولد مجدهم وتاريخهم يوم مولد محمد.
الخلاصة أن العربية والإسلامية كدائرتين: صغيرة وكبيرة، إحداهما وسط الأخرى إلا هلالاً دقيقاً. هو موضع الاختلاف بينهما. أي أن بينهما بإصلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً. عاما إلا من وجه واحد، هو مسألة المليونين من العرب غير المسلمين. والثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب، أيهما أحق بأن نتولاه.
وكل ما يقول به دعاة العربية (فيما عدا إنكار الوحي وقطع الأخوة في الإسلام يقول به دعاة الإسلامية) بل نحن أحق به وأولى، نحن أعلم بالعربية وبتاريخها وأمجادها، ونحن نعمل أكثر منهم على تمجيدها بالإسلام وإعلاء شأنها. ونحن أصدق منهم إن قلنا عن أمة محمد (أمة واحد ذات رسالة خالدة). والعجيب أن يظن أحد أننا تخلينا عن القيام بالدعوة إلى العربية، لا. . ما تخلينا عنها ولكن ندعو إليها تحت راية القرآن التي عز بها العرب وشرفوا وصار لهم في التاريخ ذكر، وفي الدنيا مقام
إننا نحب العرب لأنهم قوم محمد، واللسان العربي لأنه لسان القرآن، وموطن العروبة لأن فيه مشاعر الحج والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون من أقطار الأرض، ويدعون إلى الصلاة إليها بلسان العرب الذين نزل بلسانهم القرآن: حي على الصلاة. حي على الفلاح. ولكنا ندعو إلى عصبية، ولا نعدل بأخوة الإسلام أخوة.
ونحن ندعو إلى الوحدة العربية، لكن على أن تكون طريقاً إلى الوحدة الإسلامية، ولا ننكر إخواننا في الوطن واللسان من النصارى، لكنا نسألهم ألا يطلبوا منا وهم مليونان أن نقطع لأجلهم روابط أخوتنا بثلاثمائة مليون مسلم غير عربي، ويحبوننا ونحبهم. ويشاركوننا عقائدنا وعبادتنا
وفيهم بعد دولتان من أكبر دول الأرض: باكستان وأندنوسيا، ولا تدخر إحداهما في نصرنا وسعا، ولا تبخل علينا بدم ولا مال!
وهل قطعوا هم حبالهم من حبال الباب في إيطاليا وغير البابا في إيطاليا؟
دمشق
علي الطنطاوي