مجلة الرسالة/العدد 1018/المعاني الحية في رسالة محمد
مجلة الرسالة/العدد 1018/المعاني الحية في رسالة محمد
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كلما حلت ذكرى ميلاد محمد - صلوات الله وسلامه عليه - حرص كثير من الوعاظ وخطباء المحافل أن يحوطوا شخصيته بهالة من الخوارق إبان مولدها، مستغلين عواطف الجهلة من السذج والبسطاء، لاصطناع الألفاظ المنمقة، والعبارات المسجوعة، التي تستثير مشاعرهم، وتستنطق ألسنتهم بتأوهات الإعجاب والاستحسان.
وتمر الذكرى الطيبة، بعد أن تلقى آلاف الخطب في المساجد والسرادقات. فلا يخرج المسلمون منها إلا بالتوافه التي لا ترفع من قدر صاحبها (ص) وإذا سألتهم ماذا حفظتم من ذكرى رسولكم (ص) أجابوك عن ظهر قلب: إن ليلة مولده اهتز إيوان كسرى، وخمدت نيران فارس، وانشقت الأرض عن نور سد ما بين الخافقين، وفتحت أبواب الجنة، وأُغلقت أبواب جهنم، وازينت السماء، وابتهجت الملائكة. . . وإن أمه بنت وهب لم تجد مشقة في وضعه وسمعت هتافات الملائكة تبشر بمقدم الوليد الجديد، وأن مرضعته حليمة قد در لبنها يوم أن تسلمته، وأن الغمامة كانت تظلله حيثما سار، وأن الأحجار قد كلمته، والحصى قد سبح بين يديه، والجذع حن له. . وما إلى هذه من الأقاصيص التي تليق بالأبطال الخرافيين - لا بشخصية محمد (ص) الإنسانية الذي هيأ للإنسانية أطيب حياة، والمصلح الذي وضع أسس الإصلاح في الأرض، والعظيم الذي قدم للدنيا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
أني لأعجب. . . كيف نجهل - نحن المسلمين أتباع محمد - شخصيته هذا الجهل الفاضح، فبينما يرى المنصفون من المستشرقين في شخصه - رجلاً مصلحاً من عظام المصلحين، يكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق؛ وفتح لها طريق الرقي والمدنية؛ وهو عمل لا يقوم به إلا رجل أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام. . بينما يرى الأجانب في محمد المصلح العظيم نأتي نحن اتباعه إلا أن نضفي على سيرته من الخوارق والتوافه التي تبين مدى جهلنا بشخصيته.
وإذا تركت جانباً هذا الصنف المشغوف بإلصاق الخوارق بسيرة محمد، وجدت صنفاً آخر من المسلمين مشغوفاً بأن يجعله فوق مستوى البشر، وإنه رسول ليس ككل الرسل، لأنهأفضلهم على الإطلاق، ولإنه إمامهم، ورسالاتهم مستمدة من رسالته، ولأن الله ناداهمبأسمائهم وناداه بصفاته، وما إلى هذه من الترهات الرخيصة. ولوفقه هذا الصنف الغبي شخصية محمد كما يجب أن تفقه، لأدرك أن محمد نفسه لم يقر تفضيله على غيره من إخوانه الرسل لأن في هذا لوناً من التعصب الذي لا يرتضيه لأتباعه؛ فقد ورد البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله (ص) جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقل: من؟ قال: رجل من الأنصار. قال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف، والذي اصطفى موسى على البشر! قلت: أي خبيث! على محمد (ص)؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النبي (ص) لا تخيروا بين الأنبياء، فان الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بالصعقة الأولى؟).
وهناك صنف ثالث منضو في سلك الطرق الصوفية البلهاء، يعتبر أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اعتقد أن نور الكون مستمد من نور محمد، وأنالسماء والأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال، كل هذه لم تخلق إلا من أجله. . . وهذا الصنف أتفه من أن نقيم لعقليته وزناً.
إن محمدا صاحب رسالة إنسانية، فإذا أردنا أن نحتفي ونحتفل بذكراه، فالواجب أن نستشف المعاني الحية التي تضمنتها رسالته، والتي تنهض بأمتنا وهي في مسيس الحاجة إلى النهوض , فما المعاني الحية التي تضمنتها رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -؟
إن رسالته تضمنت معاني ثلاثة حية: تحرير العقول، وتحرير النفوس، وتهيئة حياة طيبة لهذه النفوس.
فقد كانت العقول قبل رسالته غريقة في خضم من الضلال والغي، وأي دليل على ضلالها وغيها أوضح من عكوفها على عبادة حجارة صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أخذت على عاتقها تحرير هذه العقول، وانتشالها من هوة الضلال والغي، إلى أفق النور والهداية، وراحت بالمنطق السليم تناقش عقيدتها حتى تثبت فسادها: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين - ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها؟ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين - والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم، ولا أنفسهم ينصرون - وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف.
(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له. وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب - ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز) الحج.
(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا.) الفرقان.
بهذا المنطق السليم استطاعت رسالة محمد، أن تحرر العقول، وتوجهها إلى عبادة الواحد القهار، الخالق الرزاق، والضار النافع، الذي بيده ملكوت كل شئ، والغالب على أمره الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
ورسالة محمد حررت النفوسبعد أن وضعت حداً لاستعباد الإنسان للإنسان، فقد كانت الحياة قبلبعثة محمد (ص) مزيجاً من الهمجية والفوضى، وأبرز ما فيهما العصبية القبلية، فالقبائل الكبرى تتعاظم بآبائها وتفخر بأجدادها، وتتشدق بأنسابها وأحسابها، وأما الضعفاء والهزل، فهم كمية مهملة ضائعة، لا وزن لها ولا قدر، ولا يعبأ بكيانها ولا يكترث لوجودها، يسخرون كما ت سخر الأنعام، ويعيشون عيش الرقيق المسلوبي الإرادة، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أعلنت أن الناس جميعاً قد خلقوا من نفس واحد، ومنتسبون جميعاً إلى ذكر وأنثى، لتقرر مبدأ المساواة بينهم، حتى يظلوا بعد اليوم سواسية كأسنان المشط؛ وراح القرآن يقوم بمهمة تقرير هذا المبدأ الخطير الدقيق:
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. . .) النساء.
(ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون.) الروم.
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكركم عند الله أتقاكم. .) الحجرات.
والرسول (ص) لم يدع فرصة تمر دون أن يكافح عنجهية الجاهلية الأولى، ويحطم شوكة الغرور الذي كان يملأ أنوف المتعاظمين بآبائهم، المتشدقين بأنسابهم وأحسابهم، فقد صباح ذات يوم في قريش قائلاً: (يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم الجاهلية وتكثرها بآبائهم، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. . . . والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة. .) وقال: (ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم! أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدوف بأنفها القذر.)، وغضب حين سمع أبا ذر يعير خادمه بأمه السوداء، وقال: (يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر، ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل.)
بهذه القوة الكامنة في رسالة محمد (ص) أمكن تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وإزالة التفاوت المصطنع الذي كان يشرف على اصطناعه المرضى بالغرور والكبرياء من ذوي الأحساب والأنساب والأموال، وكما أمكن صبغ الجميع بصبغة المساواة الخالصة، فتيسر وضع أسس الاستقرار فوق الأرض.
ورسالة محمد (ص) هيأت للنفوس حياة طيبة. ولما كان العالم الدعامة التي يرتكز عليها بناء النهضات في الأمم، فقد احتضنت رسالة محمد العلم، ودعت إليه، وحثت عليه، أو كرمت قدره، وأعلنت منزلته، والقرآن الكريم تنطق آياته بتقدير العلم وإعزاز شأنه:
(. . . قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب) الزمر.
(. . يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. .) المجادلة.
(يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا. .) البقرة.
بل إن القرآن دفع الناس إلى المغامرة في سبيل تحصيل العلم، وإلى مواصلة التحصيل منه إلى أن يشاء الله، لأن العلم بحرلا ساحل له، ولأنه أفق بعيد لا نهاية له، وهذا الدفع من شأنه أن يجعل الإنسان يقف نفسه على البحث عن كنوز العلم وذخائره:
(ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي , وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.) الإسراء.
(. . . وقل رب زدني علما.) طه.
والرسول (ص) يشير إلى هذا المعنى فيقول:
(لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.)
وهناك شبهة صاغتها عقول أولئك الذين أصيبوا بعمى في بصائرهم، وغل في صدورهم، يقولون: إن الإسلام يكرم العلم الخاص بالدين فحسب، ويتجاهلون أن الإسلام إنما يكرم العلم أياً كان نوعه، ما دام يعتبر وسيلة لتفقه المسلمين في دنياهم، وإلا فأي داع إلى أن يشير القرآن إلى علوم الفلك والتقويم، والزراعة والتجارة، وعلم الأحياء وعلم النبات؟ وأي داع إلى أن يحضنا على التفكر في خلق السموات والأرض والشمس والقمر وما إليها؟ وكيف نكون خير أمة أخرجت للناس، إذا لم يكن العلم رائدنا في حياتنا، وهدفنا في دنيانا. . ولكن من أنى لنا أن نقنع هؤلاء الذين لا يؤمنون ولو آتيناهم بكل آية. .؟
وبعد - فإن رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لأسمى من أن تكون قصصاً للتسلية، وهي تتضمن أمثالتلك المعاني الحية الثلاثة، التي تغافل المسلمون عنها، وهي جديرة بأن تبرز في حياتهم حتى ينقلوا إلى الأفق اللائق بهم. والعجيب أن هذه المعاني الثلاثة، قد تضمنتها أول آية نزلت من كتاب الله تعالى، إذ وجهت الناس إلى الخالق الجدير بالعبادة لتحرير العقول، وأشارت إلى أنهم مخلوقون جميعاًمن عنصر واحد لتقرر مبدأ المساواة فتحرر النفوس، كما أشارت إلى العلم تقديراً له، لينقلوا إلى حياة طيبة بواسطته:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.)
محمد عبد الله السمان