مجلة الرسالة/العدد 1017/القصص
مجلة الرسالة/العدد 1017/القصص
هدية رأس السنة
للقصصي الفرنسي جي دي مو باساق
بقلم الأديب سعد رضوان
تناول جاك دي ريندال عشاءه ثم صرف خادمته وجلس يحرر بعض الرسائل فقد كانت عادته دائما في نهاية السنة المنصرفة أن يجلس وحيدا يكتب رسائل وهو يحلم متخيلا كل ما حدث له في السنة الماضية، فإذا ما تذكر صديقا خط له بضعة أسطر مهنئا إياه بالعام الجديد، ولهذا جلس الآن إلى مكتبه ثم فتح درجا وأخرج منه صورة لامرأة حدق فيها قليلا ثم قبلها ووضعها بجوار الورقة وشرع يكتب:
(عزيزتي أيرين:
لا شك أنك تسلمت كتاب التهنئة الذي أرسلته إليك ولكني قد حبست نفسي في هذا المساء لأخبرك. . .)
وتوقفت الريشة عن الكتابة وقام جاك ليسير جيئة وذهابا.
لقد حلت به في العشرة أشهر الماضية مصيبة - ليست كمصائب الآخرين من المخاطرين أو الممثلين أو المتشردين - ولكنها امرأة أحبها واستولى عليها.
وجاك ليس صغيرا برغم أنه يبدو شابا، كما أنه ينظر إلى الحياة نظرة جدية مطلقة، لهذا أخذ يزن غرامه، كما كان يزن كل عام صداقاته القديمة والجديدة والأعمال التي مرت به وكذا الرجال الذين دخلوا حياته.
لقد خبت جذوة غرامه الأولى، ودقق مع نفسه كما يدقق التاجر عندما يضع حساباته فأخذ يسألها: ما هي ميوله نحوها وحاول أن يخمن ما ستكون عليه في المستقبل فوجد في نفسه أثرا عظيما وعميقا هو مزيج من الرغبة والشكر ومن آلاف من العواطف الأخرى التي تأتي عند انتهاء الربيع.
وأفاق على دق جرس الباب فتردد في أن يفتح، ثم قرر أن المرء في عيد رأس السنة يجب عليه أن يدخل الطارق أيا كانت شخصيته، لهذا أخذ شمعة واخترق الصالة ثم شد الترباس وأدار المفتاح. . . فرأى حبيبته واقفة أمامه مستندة بيدها على الحائط وهي صفراء كالميتة فسألها:
(ماذا حدث؟)
فأجابت: هل أنت وحدك؟
فقال: نعم!!
فقالت: ولا؟
فقال: ولا خدم نعم!!
فقالت: ألست خارجا؟
فقال: لا!
فدخلت الشقة كالمعتادة على الدخول فيها ثم اتجهت إلى قاعة الاستقبال حيث ألقت بنفسها على إحدى الأرائك، وغطت وجهها بيديها وانفجرت في البكاء، فركع بجانبها وحاول أن يرفع يديها من على وجهها ليرى عينيها وهو يقول، (أيرين، أيرين ما الذي حدث؟ أتوسل إليك أن تخبريني عما جرى؟).
فأجابت وهي تتشنج، (لا أستطيع أن أظل هكذا)
ولم يفهم فسأل، (كيف؟)
- نعم، لا أستطيع أن أعيش هكذا. . في المنزل. . إنك لا تعلم. . إنني لم أخبرك. . إن هذا فضيع. . لا أستطيع أن استمر. .
لقد قاسيت كثيرا. . لقد ضربني الآن. . .
- من؟ زوجك؟
- نعم زوجي
- آه. . .
ودهش كثيرا فلم يكن يظن أن زوجها وحش، فهو رجل مجتمع، ومن أحسن العائلات، وهو رجل أندية ومن المترددين على سباق الخيل وعلى المسرح، وهو معروف وله قدره في كل مكان لأخلاقه الحسنة وبديهته الحاضرة وذكائه ولتقبله النقد بصدر رحب هذا إلى جانب عنايته بزوجته واهتمامه برغباتها وبصحتها وملابسها وبكل ما يتعلق بها، وهو يمنحها الحرية التي تطلبها ويرحب برايندال باعتباره صديقا لزوجته ككل الأزواج المؤدبين. . إن رايندال لم يكن يظن أن العاطفة تخل هذا المنزل لذا دهش كثيرا لهذا الحديث غير متوقع وسأل (كيف حدث هذا؟ أخبريني. . .)
وقصت أيرين عليه قصة طويلة. . قصة حياتها من يوم أن تزوجت. . وقصة الخلاف الذي بدأ بسيطا ثم اتسع هوته مع الأيام فكثر شجارهما إلى أن انفصلا وإن لم يظهرا شيئا لأحد، ثم تحول زوجها إلى وحشا مجنونا وهو الآن يغار عليها منه، واليوم قد ضربها لأجل ذلك بعد شجار عنيف. . .
وختمت قصتها مؤكدة، (إنني لن أعود، ويمكنك أن تفعل بي ما تريد)
وكان جاك قد جلس أمامها وقد تلاصقت ركبتاهما فأمسك يديها بيديه وقال: (يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنك تقدمين على غلطة كبيرة. . إذا أردت أن تتركي زوجك فاجعليه هو المخطئ حتى يكون مركزك كامرأة لا غبار عليه في المستقبل)
فحدقت أيرين فيه بعيون قلقة وهي تسأله: (وبماذا تنصحني أن أفعل؟)
- اذهبي إلى منزلك حتى تحصلي على الانفصال أو الطلاق من زجك
أليس في نصيحتك هذه شيء من الجبن؟
- كلا، فهذا هو الطريق الطبيعي لأن لك اسما ومركزا وأصدقاء وأقارب يجب أن تحافظي عليهم.
فقامت وقالت بحدة: (حسنا، لقد انتهى كل شيء. انتهى. . انتهى)
ثم وضعت يديها على كتف عشيقها ونظرت في عيني وهي تسأله: (هل تحبني؟)
فأجاب: طبعا
فقالت له: أهذا صحيح
فقال: طبعا
فقالت إذن أبقيني عندك
فصرخ: (كيف أبقيك! في بيتي! هنا! لا بد أنك جننت! ستضيعين إلى الأبد. . لقد جننت. .)
فقالت ببطيء وخشونة كمن يزن كلماته: (اسمع يا جاك، لقد منعني من رؤيتك ثانية، كما لم أعد أستطع أن أستمر في لعبة المقابلات السرية، فإما أن تبقيني وإما أن تفقدني)
فقال: في هذه الحالة يا حبيبتي تطلقي وسأتزوجك
فقال: نعم ستتزوجني بعد سنتين على الأقل، إن حبك لصبور
فقال لها: اسمعي، فكري مرة أخرى. إنك إذا عشت هنا فسيأخذك غدا لأنك زوجته والقانون معه
فقالت: إنني لم أسألك أن تبقيني هنا يا جاك، إني أريدك أن تأخذني بعيدا في أي مكان، لقد ظننت أنك أحببتني حبا كافيا لتفعل ذلك، ولكنني أخطأت. . . الوداع
واستدارت وأسرعت إلى الباب فأمسكها وهي على وشك الخروج وقال:
- اسمعي يا أيرين. . .
فجاهدت ألا تسمعي شيئا آخر، وتمتمت وعيناها مليئة بالدموع وقالت: (اتركني. . اتركني. ولكنه أجلسها بالقوة، ثم ركع إلى جوارها وحاول بالنصح تارة وبالنقاش أخرى أن ينبهها إلى خطئها وإلى خطورة خطتها مستعملا كل طريقة ممكنة ليحملها على أن تترك هذا (الجنون) متوسلا إياها أن تستمع لنصيحته لكنها بقيت بكماء باردة
فلما انتهى قالت، (هل أنت على استعداد لتركي اذهب الآن؟. . لا تمسكني فأنا لا أستطيع أن أقوم.)
فقال: اسمعي يا أيرين
فقالت: أتسمح فتتركني
فقال: أيرين هل صممت على هذا؟
فقالت: اتركني اذهب
فقال: حسنا أبقي. . . أنت تعلمين أنك هنا في منزلك، وغدا سنذهب بعيدا
فأصرت على أن يتركها تقوم وقالت في نغمة خافتة، (كلا لقد تأخرت، فأنا لا أريد تضحية.)
فقال: إبقي، لقد فعلت كل ما هو واجب علي أن أفعل، وقلت كل ما وجب علي قوله، فليس علي أية مسئولية حيالك بعد ذلك وضميري الآن مستريح، وما عليك إلا أن تخبرينني برغبتك فأطيع فجلست ثانية ونظرت إليه وسألته بهدوء، (حسنا، اشرح لنفسك. . .)
فقال: ماذا؟ ماذا تريد أن اشرح لك؟
فقالت: كل شيء، كل ما فكرت فيه حتى غيرت رأيك هكذا وعلي أن أقرر بعد ذلك
فقال: إنني لم أفكر بتاتا. . . إنما كان من واجبي أن أعرفك أن ما انتويت جنون. . فلما لم تحيدي عن رأيك رأيت أن أشاركك جنونك.
فقالت: أنه ليس من طبعي أن يغير الإنسان رأيه هكذا سريعا
فقال: اسمعي يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنها ليست مسألة تضحية. . ففي اليوم الذي عرفت فيه أنني أحبك قلت لنفسي - كما لا شك أن كل محب يجب أن يقول هذا لنفسه في نفس الظروف - إن الرجل الذي يحب امرأة ويحاول أن يجعلها له عليه واجبات لا لنفسه فقط بل للمرأة التي يحبها، وأنا أعني بلا شك المرأة التي هي مثلك وليست المرأة السهلة. . . إن للزوج فائدة اجتماعية وقانونية كبيرة ولكنه في نظري ليس له إلا فائدة روحية. . روحية بسيطة حينما ينظر المرء إلى الإحساس الذي أخذت هذه العلاقة مكانها على مقتضاه. . . لهذا فإن المرأة المربوطة بهذا الحبل لا تحب زوجها ولا يمكنها أن تحبه ستقابل شخصا تحبه وتهبه نفسها، فإذا أحتل رجل أعزب مكانة العشيق فهذه العلاقة تتطلب تبعات كثيرة أعظم من قولة نعم أمام القس، فإذا كان الاثنان شريفين فسوف يكون ربطهما أقوى وأمتن من ذلك الذي يعقد في الكنيسة. . . إن المرأة تضحي كل شيء، وهي تعرف هذا، فهي تعطي قلبها وجسمها وروحها وشرفها وحياتها لأنها تعرض نفسها للخطر من قتل زوجها لها ومن نبذ المجتمع إياها وما إلى ذلك مما يجعلها جديرة بالاحترام في عين حبيبها الذي يجب عليه أن يعد العدة لمواجهة كل شيء يحدث. . . وليس لدي شيء آخر أضيفه غير ما قلت، لقد تكلمت أول الأمر كعاقل من واجبه تنبيهك ولكني الآن رجل فقط. . رجل يحبك وينتظر أمرك. .)
وبحركة مغرية أقفلت له فمه بشفتيها ثم همست:
- يا حبيبي، لم يكن هذا صحيحا، فإن شيئا من ذلك لم يحدث وزوجي لم يشك في شيء لكنني أردت أن أعرف ماذا تفعل. . لقد أردت أن آخذ هدية رأس السنة. . . هدية أخرى غير العقد الذي أرسلته إلي. . وهي حبك، ولقد أعطيتني إياه، فشكرا. . . وشكرا. . . أوه يا ربي! ما أسعدني!
سعد رضوان