مجلة الرسالة/العدد 1017/الإسلام ونظام الحكم عندنا
مجلة الرسالة/العدد 1017/الإسلام ونظام الحكم عندنا
للأستاذ منصور جاب الله
إن صح الحديث النبوي (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا) ولم يكن من وضع غلاة الشيعة، فإن معناه أن الإسلام في أصوله الأولى لا يعترض بالنظام الملكي الوراثي.
ولم تكن الخلافة الراشدة في أزهى عصورها نظاما جمهوريا، ذلك لأن النظام الجمهوري من بدء نشأته محدود بميقات معلوم، وما كانت الخلافة الإسلامية كذلك، وإنما كانت نظاما قائما على البيعة الشاملة في سائر الأمصار. وقيل إن الخليفة لم يكن يملك النزول عن البيعة، حتى أن عثمان بن عفان أبى أن يدع أمر المسلمين يوم أحدق الثوار بداره ومنعوه الماء، لأنه عد بيعة الأمة تكليفا من الله تعالى.
فالخلافة إذن لم تكن ملكا وراثيا ولا كانت نظاما جمهوريا، وإنما نذكرها اليوم لأننا نحب أن نستنير بهديها ونجري على سننها، ولا يقذفن في الأذهان أننا نرمي إلى إعادة الخلافة بمعناها لشامل الواسع، فما إلى ذلك من سبيل.
وإنما نريد أن نتحدث في صحيفة الأدب الرفيع، وفي وجازة خاطفة عن نظام الحكم الصالح، فنحن الآن في غضون ثورة مباركة ونهضة تستهدف خير الشعب ومصلحة المجموع. والجمهور من المصريين على اطراح نظام الحكم الملكي بعد ما تبين فساده وسوء استغلال العاملين فيه لموارد الشعب واستنزاف دمائه لقضاء النزوات والبوائق واللبانات.
هذه إذا غضضنا الطرف عن كراهية الشعب للأسرة المالكة القائمة، إذ أصلها غير مصري، ومؤسسها الأول جاهل أمي، والكثرة الكثيرة من أعضائها وأفرادها لا يشرفون الوطن الذي ينتسبون إليه، بل إن مباذلهم ومتارفهم لهى معاول الهدم التي كادت تأتي على بنيان الكرامة الوطنية والعزة القومية فتجعله حصيدا كأن لم يغن بالأمس.
فالشعب المصري الذي فقد الثقة بالنظام الملكي على الإطلاق والذي فقد الاحترام للأسرة الحاكمة في مصر، لا يمكن أن يفرض عليه نظام ملكي وراثي إلا إذا سلك سبيل الإرغام. ونحن في عصر ثورة بل في زمن نهضة وليس للإرغام علينا من سبيل.
والكرام الكاتبون الذين يقترحون النظام الجمهوري على إطلاقه، إنما يتجاهلون عوامل كثيرة ما كان يصح إغفالها بالنسبة لمحيطنا الاجتماعي والسياسي؛ فمصر التي يعزها أبناؤها ويتمنون نجاحها وفلاحها، حرام عليهم أن يعرضوها لمحنة انتخابات رياسة الجمهورية كل أربع سنين أو سبع على هذا النحو المتبع أو المبتدع في البلدان ذات النظام الجمهوري العريق. ذلك لأننا ما برحنا نشفق من آثار الانتخابات النيابية التي كانت تنعقد بين الحين والحين، والتي كانت تفعل الأفاعيل في تمزيق الأواصر وقطع الروابط وتعطيل الأعمال وبذل الأموال.
صحيح أن قوانين الانتخاب التي سوف يتمخض عنها عهد الثورة لا بد أن تجنبنا كثيرا من الخطأ الذي وقع فيما مضى، فلا يكون ثمة غش ولا رشوة ولا تزييف، بيد أن العوامل النفسية لا يتسنى القضاء عليها بسن التشريع أو فرض القانون، فالنفس البشرية. لا تتغير، والمنافسات هي المنافسات، والمعارك هي المعارك. وكم من أسر كبيرة قطعت العداوة أرحامها وأضاعت الخصومة ثرواتها، وهيهات أن يقضي القانون على ما ركب في الطبائع الإنسانية من ألوان الانفعالات!
إذن ماذا يكون نظام الحكم عندنا بعد هذا الانقلاب المبارك؟
إن الذي يتبادر إلى الذهان أن النظام الجمهوري المألوف في أوربا هو أقرب النظم إلى الوضع الذي اصطلحوا على تسميته بالنظام الديمقراطي الصحيح، ولكن النظام الجمهوري بالنسبة لبلد مثل مصر يعد طفرة قد لا تكون محمودة العقبى، ذلك لأن بلادنا حكمت منذ عهد محمد علي حكما دكتاتوريا طاغيا امتاز في بعض الأحيان بمظهر دستوري خلاب، وربما يكون من الأوفق أن نتخذ وضعا بين الملكية والجمهورية، ولنطلق على هذا الوضع نظام (رياسة الدولة) على أن يكون اختيار رئيس الدولة بالانتخاب المباشر، أو بالبيعة على حد التعبير الإسلامي القديم، وتكون رياسة الدولة مدة الحياة أو إلى أن يسيء (الرئيس) استخدام سلطته، وعندئذ يعزله البرلمان أو يقيله الشعب، وفي كل حال لا يكون له سلطان الحكم المباشر، وإنما يتولى ولا يحكم ليكون مظهرا من مظاهر هيبة الدولة ومجادتها، شأنه في ذلك شأن الملك في إنجلترا أو رئيس الجمهورية في فرنسا.
ومعنى هذا أننا لا نريد نظام رياسة الدولة على النحو المتبع في إسبانيا أو في روسيا أو في يوغسلافيا، فنحن لا نبغيها دكتاتورية فاشية أو دكتاتورية شيوعية، بل نريد نظاما مستقرا ثابتا يجنبنا الهزات الانتخابية المترادفة ويحفظ كيان الدولة وهيبتها.
وبعد فهذا رأي شخصي بحت أطالع به قراء (الرسالة) وعلى الكاتب وحده تقع تبعته. وإنا لنجد له مشابه في صدر الدولة الإسلامية، كما نجد له نظائر في بعض الدول الأوربية الحديثة. وإنا لنعلم أن المسئولين ما برحوا يبحثون نظام الحكم المصري في المستقبل القريب والبعيد، ولا ريب في أنهم سوف يجعلون الآراء المتضاربة جميعا في موضع الاهتمام والنظر.
والله ولي التوفيق
منصور جاب الله