مجلة الرسالة/العدد 1015/من الشعراء والأدباء الشباب في العراق
مجلة الرسالة/العدد 1015/من الشعراء والأدباء الشباب في العراق
كاظم جواد
للأستاذ خالص عزمي
في مطلع عام 1928 ولد شاعرنا من أب عربي ينحدر من قبيلة عربية تسمى (آل عارض) تقطن المنطقة الجنوبية من العراق في أطراف مدينة السماوة، وقد أبلت البلاء الحسن في الثورة العراقية الكبرى عام 1920: ولد شاعرنا في تلك المنطقة التي تكثر فيها المياه وتحيط بها المزروعات من كل مكان، وجعلت فيها قدرة الله ألوانا من البديع والجمال الأخاذ. فشب وهو يحب الجمال وترعرع وهو ينظر إلى الطبيعة الفاتنة نظرة البشر والبهجة فانطبقت هذه الصورة في مخيلته حتى تأثر بها كل التأثر في قصائده ومقتطفاته.
وفي جو تسوده التقاليد القبلية والعادات العربية العريقة نما ونمت معه العزة، والكرامة والصراحة، وطيبة القلب، والخلق القويم، لم يعرف المداجاة، ولم يمارس النفاق فشب وهو كامل الرجولة يتمتع بالمزايا النادرة التي يجب أن يتمتع بها كل رجل.
وفي نفس ذلك الجنوب الهادئ الوديع، القوي الجبار راح شاعرنا يتلقى علومه الأولية فدخل المدارس الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية، ثم نزح بعدها إلى مدينة العلم والمعرفة (بغداد) حيث راح يكمل دراسته العالية، فدخل كلية الحقوق العراقية وفي خلال أوقات فراغه كان يقبل على مختلف العلوم والفنون ينهل منها ما شاء الله له أن ينهل، ولم يكتف بكل ما قرأ ودرس وتعلم بل دخل مدرسة دينية مسائية الدروس قرأ فيها أصول الفقه وفلسفة الدين وألفية (ابن مالك) و (البديع) و (البيان) و (أصول النحو) و (العروض). . . الخ من الكتب الدقيقة. وبقي على حاله تلك حتى تخرج في كلية الحقوق هذا العام وحصل على (الليسانس).
وكان خلال فترة دراسته يتابع نشر قصائده في مختلف الصحف العراقية والعربية وكانت مجلة (الثقافة) الغراء الميدان الواسع لشاعرية كاظم، فقد نشر فيها أغلب قصائده وأروع مقتطفاته التي كتبت له مجد الشباب الواعي.
كنت أجلس إليه ذات مرة وهو شارد الفكر فوجدت الفرصة سانحة لكي أوجه له بعض الأسئلة التي كنت أود معرفتها منه.
فقلت: - ما هي أول قصيدة لكم. قال: (لقاء). قلت ألا تود أن تسمعني منها شيئا: فأنشد يقول وأنا أسجل بعض أبياتها
أطلت كوكبا وضاء يسمو فوق آفاقي
دنت كالعابد الهيمان من محراب أشواقي
أطلت بسمة سكري على مرآة إطراقي
كئيب ظامئ للحب تذكو نار أعماقي
منى نفسي، سجين الأمس هل حطمت أطواقي
بلا ماض، أريد العمر يحلو بعد إخفاقي
حياتي بعدما نثرت رياح الغدر أوراقي
ربيع سال من عينيك واستلقي بإحداقي
وقفت أمامها خجلا وطرفي حائر شحب
وأنفاسي مولولة على شفتي تصطخب
فؤادي كاد من لهف إلى أحضانها يثب
جريحا والهوى جرح بعيد الغور منشعب
سفحت الآه فانتقضت تسائل هل لها سبب
أخاف، أخاف من أمل إذا ما بحت يحتجب.
قلت بمن تأثرت من الشعراء: قال تأثرت كثيرا (بالمتنبي) من الشعراء الأقدميين و (بأبي ريشة) من الشعراء المحدثين. قلت ومن الأدباء. قال (بأبي حيان التوحيدي) من القدامى، وبجبران. وطه حسين. والزيات. ونعيمة. وزكي نجيب محمود. من المحدثين.
قلت: هل لك ديوان مطبوع. قال إلى الآن لم أطبعه وإن كان قد جهز للطبع حاليا وأسميته (من أغاني الحرية) وهو مجموع القصائد والمقتطفات الشعرية التي قلتها في مناسبات كثيرة وأغلبها منشور في الصحف العربية. وتلك القصائد تدور في موضوعين: منها في الجمال والوجدان والحب. ومنها في القومية العربية والوطنيات، وقد تأثرت جدا بالحركة المصرية الأخيرة فقدمت للعالم العربي تسعة قصائد في وصف شعوري نحو إخواننا المصريين وهم يكافحون كفاح الأبطال لنيل الحرية وإليك بعض ما قلت في قصيدتي (اعزفي يا رياح).
مات ضوء النهار وأحلو لك الأفق المدمي بحشرجات ذكاء
شرق الليل بالجراح وغصت ربوات (للقنال) بالشهداء
ومجاري الدماء أذكى محانيها عناق الأشلاء للأشلاء
فإذا (النيل) والضحايا حواليه صلاة مسحورة الأصداء
إلى أن يقول:
اعزفي يا رياح ما أحقر العمر إذا آلا غمغمات رثاء
اعزفي فالظلام ولي ولكن أين فجر البطولة السمحاء
أين قيثارة الحياة يموج الوعي فيها مزمجر الأصداء
أين من ومأة الصباح أراجيز كفاح صخابة الأجواء
فوراء المدى، وإن زحف الفجر بقايا غمامة دكناء
ها لها، ها لها، شموخ أمانينا على كل ذروة شماء
فعدت بغيها الأثيم فيا مصر أخرسيها (بوحدة وجلاء)
وإليك في قصيدتي (المصري الجديد):
طلعت على دجى الطاغي صبوحا ... يبارك فجرك الوطن الجريحا
دعاك لمجده فنهضت تعلو ... كفرخ النسر تحتقر السفوحا
وفي شفتيك تصطخب الأغاني ... يجن إلى الكفاح هوى جموحا
نداء ما وعاه النيل حتى ... كساه الموج من لهب مسوحا
إلى أن يقول:
إذا (السودان) كان لمصر روحا ... فقد كانت له مذ كان روحا
قرأت ما أنشدني (الجواد) مرة وأخرى ثم قرأت ما سجل في ديوانه في باب الوطنيات فوجدتني أمام شاعر يتدفق وطنية تهزه الأعمال الخوالد في ميدان الكفاح فينشد وينشد حتى يكل منه النفس، هذا الشاعر الشاب سبق عصره كثيرا، فقدم للعالم العربي قصائد في الوطنية والوجدان ما لم يقدمه شاعر في هذه الأيام! لنقرأ للقارئ الكريم هذا المقطع الرائع من ملحمته الكبرى التي تقع في ألف بيت من الشعر وهو يصف فيها مصرع البطل العربي الشهيد (عبد القادر الحسيني) في معركة القسطل في الحرب الفلسطينية الأخيرة إذ يقول منها في وصف سقوط (الحسيني) مضرجا بدمائه على الرمال الدكناء، فيمثله أروع تمثيل ويقدم للقارئ بذلك صورة مجلوة المعاني زاخرة بالعواطف تدل على تمكن الشاعر من دقة التعبير، قال في المقطع الرابع:
من ترى ذلك المطل؟ أفجر، أم شهاب على أديم صاح
يتملى الأجيال ملحمة حمراء كالنور في الضحى. . . الوضاح
حملته عرائس الوحي للنجم شهيدا على أعف جناح
بعده، بعده، ترنحت الأرض وضجت حناجر، في الساح
تزفر الرعد فالجوانب أصداء تخطت. . . على أنين الجراح
كوثوب الأمواج، والبحر داو صفعت جبهة الخطوب الطلاح
تنحر البغي فالرنين المدمي. كالأعاصير هائج في النواحي
يا شهيداً على الرمال تسجى. . . أدمعت بعده جفون الكفاح
يا شهيداً كأنه الشفق المخضوب ينساب في أصيل الجراح
يا شهيداً نأى وخلف للثوار جرحا في مأتم الأرواح
مأتم الذكريات والفارس المعلم في السوح كالضياء الصراح
كانفلاق الشروق. كاللهب الثائر. كالجمر. كالدم النضاح
صبغ الأفق بالسناء وبالوهج ودمي هياكل الأشباح
فإذا الليل في جوائله السود عروس تؤج كالمصباح
تنثر الضوء يابسا فعليها. . . جمدت دمعة العلي المستباح
هذا هو المقطع الرائع من القصيدة الدامية التي خرجت من القلب وكتبها العقل وسجلتها للخلود العاطفة، نعم هذا مقطع من تلك القصيدة التي أحدثت ضجة كبرى في ميدان الأدب العراقي عندما نشرها الأستاذ (كاظم) في جريدة اليقظة البغدادية وقد عدها بعضهم بأنها الوسام الخالد الذي علقه الشاعر على صور البطل (الحسيني).
في هذه القصيدة بالذات لمس (القارئ الكريم) انبعاثات روحية علوية وانطلاقات شعورية وصورا رفيعة النفس عميقة لفكرة صورت في روح متألمة حزينة.
ثم هنا نقدم للشاعر صورة أخرى هزت عاطفته حينا كثيرا فجعلت منه شاعر الحب والجمال - كما يسمونه في بغداد - نقدم هذه الصورة وهي ملونة بلون الإحساس الرهيف والإخلاص العميق. هذه الصورة هي بعض الأبيات في قصيدته العاطفية ندرجها للقارئ: -
عبرت على دربي خطاها ... وتناولت قلبي يداها
في الليل في بيداء وهني ... في صحاري العمر تاها
في هوة اليأس البهيم وعي من الدنيا أذاها
طلعت فشب به الشباب ... وأج في دمه لظاها
عزراء سلت من مآقي النور ... فأتلقت مناها
يكسو محياها العفاف ... أشعة ورؤى وجاها
وكنجمة الليل الوليد ... هفا على أفقي ضياها
منحته كالطفل اليتيم ... حنانها وحبته فاها
قد أرضعته هوى الحياة ... فراح لا يهوى سواها
يا طالما أهوى تلاوين ... البكور شذى سناها
وروى إلى الأطيار ... أغنية مجنحة لغاها
وأذاب في الأوتار ... أحلام العرائس في صباها
هو بسمة الحب البريء ... يضيء في شفتي رؤاها
حتى إذا بالأمس أجنحة الهوى بلغت ذراها
رزئته بالذهب الحقير ... وماله إلا جواها
فهوى على السفح الجديب ... مني تضرجها دماها
فكأنه لم يملك الدنيا ... إذا وهبت رضاها
واضيعة الأمل الشرود ... إذا رنا فسفحت آها
خفتت شمع الذكريات ... وجف في عيني ضحاها
ستظل ترقبني مع الناي المكسر مقلتاها
وهناك في وادي الدموع ... لعل آلامي تراها هيهات لن أنسى هواها ... السمح لن أنسى هواها
والقصيدة طويلة النفس فيها من التعابير الوجدانية أسماها، فيها من العاطفة الزاخرة بالإخلاص والحب والتفاني أروعها.
والأستاذ الجواد: بعد كل هذا: فنان يلمس الحياة بما ألهمه الله القدير من فكر ثاقب وعقيلة طموحة عالمة، تدفع صاحبها إلى أرفع مكانة.
ولعل الكثيرين من الشعراء يعرفون أن (الجواد) شاب خلق من نفسه إنسانا يعرف معاني الحياة، ويقيس الناس بمقاييس العقل الواعي، ولعلهم يعرفون في شاعرنا أنه قومي من الطراز الأول يتفانى في سبيل عروبته إلى أقصى مدى وهذا ما جعله محبوبا من جماعته محترما منهم يقدرونه كل التقدير.
وأخيرا نود أن نقدم (للقارئ) بعض نماذج من شعره الوجداني، والوطني، والإخوان الذي أمتاز كثيرا:
من ملحمة العربي التائه وتقع في ألف بيت من الشعر: -
حشرجات الكئيب. . . يا آهة الفن، ويا حسرة شجت بذمائه
رب جرح تناهشته كروب ... تنقذ الشعب قطرة من دمائه
أيها الشاعر اللهيف إلى النور بزوغا، فالصبح من سجرائه
شعبك الأخرس الشقي ذليل ... سارد في ضلاله وعمائه
كافر يلعن الحياة ويبقى ... مستكينا لذله واصطلائه
عابس يحصد السنين شقاء ... ويماري الأساة عن أدوائه
يتمشى الغناء في جسمه الناحل، والموت صار من أسمائه
يا نشيداً في حومة المجد يرقي ... مشمخرا على ذرى عليائه
يا نشيداً بدونه شرف الشعب مهان يذوق سم شقائه
يا نشيداً كأنه نغم الخلد ... تهاوى إلى رؤى عذرائه
فكرت أنت كالطلاسم ظلت ... فهي سر الإله في أنبيائه
وفي قصيدة له عنوانها (الهارب) نقدم هذه الأبيات التي فيها انطلاقات روحية فلسفية تدل على الفترة التي انغمر فيها شاعرنا في كتب الدين والفلسفة ينهل منها كثيرا يقول في تلك القصيدة:
عذراء، إني ذاهب فاهدئي ... هل نحن إلا من صدى حكمته
الله لا أنت، ولا من عتا ... ولا أنا ننال من قدرته
كل على الأرض إلى غاية ... وننتهي، تسمو على خلقته
الليل لن يفتح أبوابه ... لو لم يطل الفجر من كوته
سبحانه، سبحان ذاك الذي ... فجر نبع الحب من جنته
نشرب منه الأمل المشتهى ... ونأكل الزقوم من سدرته
لا كان عهد الحب إن لم تكن ... عين النوى ترعاك في غيبته
هذا هو (كاظم جواد) شاعر الحب والجمال، الشاب الذي أحرق من أعصابه بخورا في سبيل عقيدته وأهدافه في الحياة.
بغداد: الأعظمية
خالص عزمي