مجلة الرسالة/العدد 1014/نكسة في دار العلوم!
مجلة الرسالة/العدد 1014/نكسة في دار العلوم!
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
كان المستشرقون أول من عني بالبحث في اللغة العربية وأخواتها من اللغات السامية في مطلع العصر الحديث، دراسة منتجة مثمرة، تعتمد على العقل والفكر والاستنباط، وتتخذ مادة درسها من الكتب والآثار والمقارنة، ومن ثم بدأ علماؤهم يجوبون الأقطار العربية وما اتصل بها قديما من أمم، وذهب كثيرون منهم شهداء العلم، اغتالهم الجهال، أو أضناهم العمل، أو أفناهم المرض، أو فتكت بهم الأوبئة!
وقد انتهت هذه البحوث إلى أن اللغات السامية نشأت من أصل واحد، ثم تنوعت بفعل البيئة أو تطورت بعامل الزمن فنشا ما بينها من تفاوت لا يمس أصولها، ولا يقطع ما بينها من رحم، وأن على الباحث في واحدة منها، أن يستهدي أخواتها الأخريات.
فلما تقدمت الحياة العقلية في مصر، رأى الذين يهمهم أمر الثقافة العربية، أن مجال التقدم والابتكار فيها، والكشف عن كنوزها، وتبيان غامضها، ما زال ضيقا، وأن الشرق في تفهمه لآثاره عالة على الغرب، يتابع خطواته، ويتلمس طرائفه، ويتلقى ما انتهى إليه من نتائج قضايا مسلمة!
وكان واضحا أن نقطة الضعف في التفكير العربي المعاصر، أن الذين يتصدون للبحث في شتى أنواع المعارف القديمة، يجهلون اللغة العربية ولا يلمون بدقائقها، مما ينتج عنه سوء فهم لتلك الثقافات، أو خطأ في الإلمام بقضاياها، وكان مخجلا أن يدرس التاريخ الإسلامي أو يؤلف فيه من لا يعرف أصول اللغة وتاريخها ومادته جلها نصوص لغوية وأدبية، أو يتصدى للفلسفة الإسلامية شارحا أو مؤرخا، وهو يجهل التطور الذي أصاب اللغة، فجعل للفظ معناه حين يكون في القاموس مغايرا لمعناه إذا ورد في أساليب الفلاسفة، فكان الخلط والاضطراب والتعثر، ملحوظا لكل من يطالع النتاج المعاصر في الفلسفة أو التاريخ أو الشريعة، وغيرهما من التراث العربي القديم، إذا استثنينا القليل!
ولم يكن هذا الخلط وقفا على الثقافة التي تبعد عن اللغة قليلا أو كثيرا، ب امتد أثره حتى إلى اللغة نفسها، ذلك أن تقدم الإنسانية وسع من إمكانيات الدارسين والمؤلفين، وانتشار الطباعة والتخصص جعل مهمتهم سهلة لينة، وتقدم منهاج البحث العلمي والاست بالمقارنة جعل من الممكن ملء الفجوات التي تبدو بين معالم الثقافة القديمة، والاهتداء إلى الأصول المجهولة، والتي كانت تعترض القدماء، فيعللونها بالفرض، أو يصلونها بالخيال، أو ينحرفون بها إلى الخرافة!
ومسايرة لهذا المنطق، بدا أن دارس العربية لكي يستفيد منها ويتبين حقائقها، وينير قضاياها، عليه أن يكون عارفا ما استطاع بأخواتها من الفصائل السامية، كالعبرية والسريانية واليمنية القديمة والحبشية، وما جاورها من لغات أخرى، كالفارسية والآرية والتركية، في حدود القدرة والتخصص.
روعي هذا النهج عندما أنشئت كلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، ودعا إليه الدكتور طه حسين دار العلوم العليا في حرارة وقوة عام 1935، عارضا عليها أن تضم إلى الجامعة، على أن تحتفظ باسمها التاريخي المجيد، لتكون معهدا للغة العربية واللغات الشرقية، ولم يقف بدعوته عند هذا الحد، بل اقترح أن تبدأ العناية بهذه اللغات من التعليم الثانوي، لمن يريدون أن يتخصصوا فيها، لكي تكون دراستهم منتجة مثمرة.
ولم يتح لدعوة الدكتور طه حسين أن تجد سميعا إذ ذاك، فطواها على مضض وإن لم ييأس منها، ومضى يهيئ لها الأذهان حتى اختمرت، وأذن لها أن تؤتى أكلها عام 1946، حين ضمنت دار العلوم إلى جامعة القاهرة، لتنتفع بالنهج الجامعي وحريته، ولتأخذ في ركب الحضارة وجهة جديدة، توائم التطور الثقافي الذي انتهى إليه العالم ومصر عقب الحرب العالمية الأخيرة.
أجل، كانت دار العلوم المدرسة قد أدت رسالتها في تنقية الفصحى من أوشاب العامية، وتحرير الألسنة من اللكنة الأعجمية، وفي إعداد المدرس الصالح لأدائها، والكتاب الطيب الملائم للقراءة، وفي تطوير اللغة لتصبح مرآة ناصعة، تنعكس عليها مظاهر الرقي المتعددة، وتتسع ألفاظها للتعبير عن أسمى المشاعر والأفكار. . . . وبقى الشق الآخر من الرسالة، وهو البحث والتقصي والعكوف على القديم لدرسه ونقده وتمييزه، وتتبع مساربه ومجاريه، بعد أن هيئت الوسائل وأكملت الأداة!
ومن ثم شفع ضمها إلى الجامعة إفساح المجال فيها للدراسات السامية والشرقية على الخيار بين واحد منهما، وأحس الطلاب أن شيئا جديدا من الثقافة بدأ يأخذ طريقه إلى أذهانهم، ليساعدهم في تفهم كثير من المشكلات، كانت تبدو أمامهم معقدة غير واضحة، وكانت هذه العلوم أداة ليصبح عندنا نحو مقارن يرفع الستر عن قصة النحو العربي، متى نشأت، وكيف، وعلى يد من؟. . . ولأي المؤثرات تعرضت. وقل الأمر نفسه عن البلاغة وفقه اللغة، وعن الأدب أيضا.
ولكن البلاغة والنحو والصرف وفقه اللغة والأدب، ليست هي كل التراث الإسلامي، فهناك الفلسفة، وهناك التاريخ، وهناك الشريعة، وما يتصل بهذه العلوم أو يتفرع عنها، وهي علوم محور التبريز فيها أن يكون الدارس لها عارفا باللغة العربية أولا. ولسد هذا الفراغ وتهيئة المجال أمام الراغبين في هذا النوع من الثقافة الإسلامية، رؤى أن تتولاه دار العلوم تبعا، لتحرير بحثه ومادته من سلطان المستشرقين بعد أن ظل وقفا عليهم، مع الانتفاع بنهجهم ومذهبهم في التقعيد والاستنتاج، على أن يتخصص الطلاب في واحدة منهما؛ لتكون إفادتهم كاملة، فكانت شعب التاريخ والفلسفة والشريعة، بجوار الثقافة العربية الأخرى. ولتثبيت هذا المعنى في أذهان الطلاب وتقويته، وليأخذ صبغته القانونية، رؤى أن تكون براءتهم إذا تخرجوا (الليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية).
ومضى الركب في طريقه. . .
ثم أذيع أن عميد كلية دار العلوم الأستاذ إبراهيم اللبان، دعا مجلس جامعة القاهرة، إلى تدعيم (معهد اللغات الشرقية) التابع لكلية الآداب، بجعله مستقلا على أن يكون للدراسات الشرقية كلها، أدبا ولغة، تاريخا وحضارة، واستبشر الطلاب والدارسون من وراء دعوته خيرا حين تلقفوها من أفواه الصحف ولكن. . . سرعان ما أعجلتهم الحقيقة، فأخبتت فيهم الأمل، وغاضت البشرى، ذلك أن العميد سبب دعوته، بأن مفتشي اللغة لعربية في وزارة المعارف، يشكون ضعف خريجي دار العلوم الكلية في النحو والصرف، وعزى ذلك إلى مزاحمة اللغات السامية والشرقية فدعا إلى إلغائهما، بل وارتأى ألا حاجة إلى دراسة التاريخ والفلسفة أيضاً ففكر في استبعادهما!
لن أرفع عن زملائي وأندادي تهمة الضعف، فنحن، ما زلنا طلابا رغم التخرج. ولن نزعم لأنفسنا العلم أبدا، فنحن في أول الطريق ومن سار على الدرب وصل. ولن نقول للعميد إن التدريس لتلاميذ الابتدائي والثانوي لا يحتاج إلى مزيد علم، ولا يصلح مقياسا لقوة أو ضعف، وإن المسائل موضع الخلاف لا تعدو (همزة الوصل والقطع) والإعجام، واختلاف النظرة إلى الكلمة الواحدة، حين تكون العامية خفيفة سهلة، ومثيلتها العربية ثقيلة موحشة. . . لن نقول له إن المدارس اليوم تموج بأناس حظهم من الثقافة متواضع، وجهدهم في التحصيل ضعيف، ونظرتهم إلى التعليم مادية، وإيمانهم بالرسالة معدوم، وإن خريجي دار العلوم وسط هذه الأخلاط، قلة لا يسمع لها صوت، ومواهب لا يترك لها مجال!
لن نقول له شيئا من ذلك كله، لأن رسالة دار العلوم الجامعية يأتي فيها التدريس تبعا لا أصالة كما يقول الأصوليون، وإنما رسالتها أن تنير للطالب الطريق. . . طريق الكشف عن مجاهل الحضارة والثقافة، ثم تقول له سر على بركة الله، ليكتشف ويتأمل ويقنن، مشكورا أخطأ أم أصاب، ونحن جد سعداء، لأن دار العلوم الجامعية أمسكتنا أكثر من مشعل. وأنارت أمام عقولنا أكثر من طريق!
لقد جارينا العميد فيما ارتآه من أننا ضعفاء في النحو، لا تقريرا للواقع بل إسهاما في حل المشكلة، فليسمح لنا أن نخالفه أشد المخالفة، في أن مبعث ذلك هو اللغات السامية أو الشرقية أو التاريخ أو الشريعة، أو تزاحم مختلف المواد، ذلك أن واحدا من هذه العلوم، ليس جديدا في تقريره، وإن تطور في منهاجه، وأن محاضرات اللغة في نحوها وأدبها وفقهها لم تنزل عن المستوى الذي أنشئت عليه منذ أن كانت دار العلوم، بل إن منها ما استحدث كالأدب المقارن، أو خص بعناية في الوقت والدرس والمنهج كفقه اللغة، وإن الذين يطاولنا بهم في النحو من أساتذتنا في الدار وخارجها، كان نصيبهم من الدراسات السامية مضاعفا، فدرسوا العبرية والسريانية، على حين يدرس طلاب اليوم الأولى وحدها، ولم يمنعهم ذلك، إن لم يدفعهم، إلى أن يبرزوا في الميدان، وأن يسدوا إلى الفصحى خدمات جلى!
لقد توسعت دار العلوم في دراسة هذه المواد، ولكن هذا التوسع لم يكن على حساب اللغة أو قواعدها، وإنما كان على حساب علوم دست على الدوار لدوافع استعمارية، كان على حساب الطبيعة والكيمياء والهيئة والصحة والرسم والحساب والجبر والهندسة والجغرافيا، والأشغال اليدوية (!!) وهي علوم كان مؤسفا ومخجلا أن تدرس في معهد عال يعد المتخصصين في اللغة العربية، وأن يشغل بها الطلاب، على حين أن مكانها في المرحلتين الابتدائية والثانوية!. ويستطيع العميد أن يراجع برامج دار العلوم منذ عام 1872 حتى اليوم، فلن يجد حيفا من اللغة أو علما عدا عليها.
حتى ولو جاريناه في دعوته ونظرته لدار العلوم، وتفهمه لرسالتها على أنها تزويد المدارس بعدد صالح من المعلمين (فإن معلم اللغة العربية محتاج أشد الحاجة إلى أن يكون قادرا على أن يفهم الصلة بين مادة اللغة العربية وأصولها السامية الأولى، فيجب أن يدرس اللغات السامية درسا حسنا، وأن يتقن بعض اللغات الأجنبية الحديثة، وبعض اللغات الشرقية الإسلامية الحية، في شيء من التنويع والتخيير بين هذه المواد)، (فدراسة اللغات السامية دراسة قران، أصبحت الآن ضرورية لكل من يريد أن يلم بتاريخ اللغة العربية إلماما يشمل نشأتها وعوامل انتشارها، واللغات التي أثرت فيها وتأثرت بها، ولكل من يريد أن يدرس فقه اللغة عامة، وفقه اللغة العربية بوجه خاص، دراسة علمية دقيقة. إن طالب دار العلوم في حاجة إلى التزود بمعلومات كافية عن بعض اللغات السامية التي لها علاقة وثيقة باللغة العربية، أسوة بما هو متبع في أوربا، حيث تدرس اللغتان الإغريقية واللاتينية لاتصال اللغات الأوربية الحديثة بهما).
لقد استقبلت دار العلوم حياتها الجامعية من سبع سنوات مزهوة بماضيها، مؤملة في غدها، مقدرة لرسالتها، وكان اندماجها في الحياة الجامعية موضع فخار وإجلال، وتطورها السريع موضع تقدير وإكبار، رعت الأفذاذ من أبنائها فاستردتهم معيدين، وأرسلت بهم وراء البحار دارسين وباحثين، وهيأت لهم من حياتهم العلمية رشدا. . .
ثم، ماذا أقول!. . . إن الحسرات لترعى قلبي، وإن الحزن ليغشي جوانحي، ويكاد الألم يقتلع من عقلي ذكريات علمية عزيزة عليه، لأن الكلية التي شهدتها زاهرة ناضرة، واختزنت لها في حنايا نفسي أروع الذكريات وأنبلها، نكصت على عقبيها، فتراجعت القهقري، لتنطوي على نفسها بعيدا عن الحياة والناس، وأخشى أن يفوتها الركب. . .
لم يعد للنابهين من أبنائها فيها نصيب، فتوقفت عن تعيين المعيدين، وكل جريمتهم أنهم صغار السن شباب، وتوقفت عن إرسال البعثات، لأن سياسة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) عادت تطل برأسها من جديد!
ثم أسلمت مكتبتها، مكتبة أعرق كلية تدرس العربية في الشرق - وللجامعة مكتبة - وبها كثير من النفائس والذخائر، إلى أمين كل مؤهلاته أن يحمل الشهادة الابتدائية، وفي بقية الكليات الأخرى، تنال المكتبة أعظم رعاية وأبلغ اهتمام، ويشترط في أمينها من المؤهلات ما يشترط في هيئة التدريس.
وبعد. . . إني أناشد الذين في دار العلوم - وأنا أعرف من هم علما وفضلا - ضمائرهم وعقولهم، أناشد فيهم تاريخ دار العلوم وحاضرها وغدها. . . إذا لم تستطيعوا السير إلى الأمام فلا ترتدوا.
لا تنقصوا مواد الدراسة، بل زيدوها إذا أحببتم، أنشئوا معهد الدراسات الشرقية، لكن لا تمسوا هذه الدراسة في دار العلوم، خرجوا شبانا يدرسون ويفهمون، أصحاب ثقافة منوعة تسمو بهم عن المحلية، وتحلق بهم في أجواء عالمية فسيحة، أيان توجهوهم يأتوا بخير كثير. . .
إني أناشدكم بكل مقدساتها، ألا تعودوا بها (مصنعا) للمدرسين من جديد!
الطاهر أحمد مكي