مجلة الرسالة/العدد 1012/تاريخنا العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1012/تاريخنا العربي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1952



دعوة إلى دراسته وإعادة كتابته من جديد

بمناسبة المؤتمر الثقافي للإدارة الثقافية في جامعة الدول

العربية المنعقد قي عمان

للأستاذ كمال السوافيري

نشرت مجلة الرسالة الزاهرة في العدد 995 البيان الذي أذاعته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية عن سعيها لخلق جيل عربي يعتز بقوميته العربية ويقدس تراثه المجيد، وتحقق الإدارة من أن علم التاريخ هو أهم الوسائل التي تحقق هذه الاهداف، ودعوتها إلى تأليف لجنة من الخبراء في التاريخ لوضع قواعد عامة، يسترشد بها في تأليف كتب التاريخ المدرسية في البلاد العربية وتقرير مناهج موحدة في هذه المادة في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي.

واتجاه الإدارة الثقافية هذا الاتجاه القومي أمر محمود الأثر جليل الخطر، إن يكن لنا اعتراض عليه فهو تأخره حتى اليوم.

وإننا إذا نتمنى للإدارة الثقافية، وللجنة الخبراء في التاريخ المنبثقة عن الإدارة التوفيق في مهمتها، نرجو ألا يقتصر الأمر على بحث توحيد المناهج التاريخية في الأقطار العربية؛ بل يتجاوز ذلك إلى النظرة الفاحصة والدراسة الشاملة الدقيقة للكتب التاريخية المنبثة في المكتبة العربية.

ولست أعدو الواقع إذا قلت إن تاريخ العرب لم يجد منهم العناية اللائقة به، والدراسة المنظمة لإحداثه ووقائعه، وتنقيته من الرواسب التي علقت به منذ عصر تدوين العلوم. والتبعة في هذا واقعة على كواهل أعلام الفكر وأقطاب البيان في الأمة العربية.

ولسنا نريد أن نرجعإلى الوراء لنغوص في أعماق الماضي البعيد ونوضح الخلط الذي وقع فيه المؤرخون حين تحدثوا عن العرب في الجاهلية وما وقعوا فيه عند الحديث عن هذه الفترة من اخطاء؛ ولكنا نقصر كلمتنا عن التاريخ العربي بعد أن بزغ الإسلام على الجزيرة العربية وأرسل نوره الوهاج إلى آفاق المعمورة فبدد ظلامها، وأضاء جوانبها. مستعرض المراحل التي مر بها تدوين ذلك العلم وما وجه إلى طريق تدوينه وجمع أخباره من نقد وما أبدى عليه من ملاحظات. لقد مر تدوين التاريخ بعد الإسلام على وجه التحديد في أوائل العصر العباسي الأول بمرحلتي الأولى تدوين الأحداث حسب الترتيب الزمني الذي لها، وربطهم بالسنين وروايتها بطريقة السلسة؛ وممن سار على هذه الطريقة المؤرخ المشهور ابن جرير الطبري. حاكاه فيها - خلفه العظيم ابن الأثير بعد أن اسقط سلاسل الرواة. ومن قبلهما ابن اسحق والواقدي. . الأول في السيرة والثاني في ألفتوح. والمرحلة الثانية هي التدوين على غرار الأسر أو الدول والأشخاص كتاريخ الخليفة عمر بن الخطاب أو الدولة الأموية أو الطولونية حيث يترجم المؤرخون للخليفة أو الحاكم ويستعرض ما حدث في عهده من الأحداث وقد يتطرف إلى ذكر بند عن حالة البلاد المجاورة في ذلك العهد ومن الذين ساروا على هذه الطريقة كل المؤرخين الذين كتبوا عن الأمم والأشخاص والبلدان كابن طيفور صاحب تاريخ بغداد ويوسف ابن الداية والكندي والعتبي وغيرهم.

وفي هاتين المرحلتين لوحظ على تدوين التاريخ أن الأخبار كانت تروى في المرحلة الأولى على علاتها دون بحث أو تمحيص وفي الثانية يسقط منها ما لا يرضى الأسرة الحاكمة أو الدولة أو الخليفة. ولوحظ أيضاً أن التدوين في المرحلتين لم يعد النواحي السياسية والحوادث التاريخية المرتبطة بحروب الخليفة مع غيره أم المتعلقة بشخصه؛ حتى ليكاد القارئ يظن أن تاريخ الأمة العربية كان جملته حياة ولاة وخلفاء، ووحدة منازعات ومخاصمات، لا تاريخ أمة ولا حضارة شعب. ويبدو ذلك جلياً في استعراض المؤرخين للأحداث السياسية الجارية في أزمانهم وإبرازهم ما يتصل منها بالقادة والخلفاء، وإهمالهم النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعب. ومما لا ريب فيه أن التاريخ ليس هو الجانب السياسي المحض للامة، ولكنه الوحدة القائمة على تفاعل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد ظل هذا التشويش يسود تدوين التاريخ إلى أن ظهر الفيلسوف الاجتماعي المؤرخ العلامة ابن خلدون في القرن الثامن وألف مقدمته فألقى أضواء متألقة على تدوين التاريخ، ولم يفته أن يطلع على المراجع التاريخية التي ألفت في العهود السابقة لعهده وما نقله المؤرخون من الأخبار التي لا سد لها من الحقيقة فهاجمهم وأنكر عليهم تخبطهم ورسم لهم الطريقة المثلى وابرز المطاع المأخوذة على بعضهم إذ قال: وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز وهو معرف عند الإثبات ومشهور بين الحفظة والثقات.

وكان أهم ما أخذه ابن خلدون على المؤرخين القدامى اعتمادهم في الأخبار على مجرد النقل دون تحكيم أصول العادة وطبيعة العمران ومبادئ الاجتماع.

إن الأخبار إذ اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسية وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبورها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ومع أننا لا نوافق ابن خلدون في كل ما جاء في مقدمته وخصوصاً في تحامله على العرب نرى أن طريقته في تدوين التاريخ كما جاءت في المقدمة هي الطريقة العلمية. ويغلب على ظننا أنه كتبها بعد أن انتهى من تأليف كتابه لأنه لم يجر على المنهج الذي رسمه لنفسه فيها.

ولا نريد أن نضرب الأمثال على تخبط المؤرخين القدامى في الحوادث فقد سرد أبن خلدون عدداً منها وناقشها مناقشة علمية، ولكنا نورد حادثتين على سبيل التمثيل لا الحصر يؤيدان ما ذهبنا إليه؛ هما: فتك المنصور بابي مسلم الخرساني وتنكيل الرشيد بالبرامكة وفيهما يتضح التخبط في تعدد الأسباب واختلاف الآراء.

وهناك ناحية أخرى لها أهميتها البالغة وهي الشعوبية المدمرة التي أطلت برأسها في العصر الأموي ثم استعمل في خطرها في العصر العباسي فلم تترك خليفة من الخلفاء العرب أو قائداً من عظام قوادها إلا حاولت أن تغض من قدره وتحط من شأنه باختلاق الأكاذيب وابتداع الأقاويل التي لا ظل لها من الحقيقة. لذلك أرى أن تمتد رسالة اللجنة المؤلفة لتوحيد مناهج التاريخ إلى النظرة الفاحصة في تاريخ الأمة العربية والعمل على إعادة كتابته من جديد. ولا بأس من أن نمهل اللجنة حتى تفرغ من مهمة توحيد مناهج التاريخ المدرسية.

وعلى الإدارة الثقافية وأعلام الفكر في دنيا العروبة أن يوجهوا عنايتهم إلى التراث العربي المجيد المبعثر في شتى المراجع ومختلف المصادر تختلط فيه الحقائق بالأساطير، ويختلف، فيه مؤرخي الإفرنج، ويوجه إليه المستشرقون غمزات النقد والتجريح، فينقوه من الشوائب ويصفوه من الرواسب ويخرجوه إخراجاً جديداً في إطار جميل تبرز فيه جوانب العظمة وأمجاد الماضي ومناهل العلم وأنوار الحضارة مع توجيه النظر إلى المآثر الغر والأيام الخالدة في تاريخ العرب والإسلام التي تهز المشاعر وتحرك العواطف، ليقف العربي المسلم على مجد أمته حين اتسعت رقعتها وترامت أطرافها فضمت معظم أجزاء آسيا وأفريقيا وجزر الروم ثم وثبت على أوربا فأنشأت حضارة في الأندلس استضاءت بنورها دول أوربا وظلت تدرس في جامعات الغرب حتى عصور متأخرة. ويبقى بعد ذلك أن نقرر أننا لا نريد أن يفهم القراء من دعوتنا هذه مفاخرة العرب لغيرهم من الأمم بالماضي أو الاعتزاز بعظام نخرة وقبور دارسة؛ بل نهدف إلى أن يطلع الشباب العربي والإسلامي على الماضي ليربط العرب والمسلمون بين ماضيهم وحاضرهم فيستلهموا من الماضي العزة والبطولة ويعلموا أنهم ليسوا اقل شأناً من اعظم الأمم المعاصرة، مثل هذا الشعور إذا نفذ إلى مسار النفس ملأها ثقة وطمأنينة، وحفزها للوثوب والنهوض، ولدى الأمة العربية اليوم من الوسائل ما يمكنها من أن تنهض بحاضرها على ضوء ماضيها المجيد.

كامل السوافيري