مجلة الرسالة/العدد 101/ذكرى المولد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 101/ذكرى المولد

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935


ذكرى مولد الرسول هي ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق؛ فكأن مولده كان البعث الأول الذي طهر النفس وعمر الدنيا وقرر الحق للإنسان، كما أن البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ الآخرة ويعلن الملك لله

كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادة، وعبودية الشهوة، وسلطان القوة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه؛ إنما كان حيواناً شهوته الغلب، مادياً غايته اللذة، أنانياً شريعته الهوى؛ ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وفي المادية حيث اتخذ إلهه من خشب أو حجر، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية الإملاق والضرر. فلما أتى النبي العربي فتح في غار حراء، باباً إلى السماء، تنزلت منه الملائكة والروح على هذا الهيكل المنحل والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة ومعنى الخلود وحقيقة الله. وحينئذ شعر سليل الأرض أن له أسباباً إلى السماوات رثت على طول غفلته، وأن له حياة خيراً من هذه الحياة استسّر علمها في جهالته؛ فتشوف إلى الأفق البعيد، واستشرق إلى السمت العالي، وأرسل نظره وراء النظر النبوي من فوق الجبل، في صمت حراء المفكر، وفي سكون الوادي الملهم، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق

كانت العقيدة قبل محمد أن تموت الروح أو يموت الجسم، وأن يحكم الله أو يحكم الإنسان، وأن يظهر الدين أو تظهر الدنيا، أما تقرير الصلة بين المعنى والذات، وبين المصباح والمشكاة، وبين الحياة الأولى والحياة الأخرى، وبين الإرادة السفلى والإرادة العليا، فذلك هو القصد الإلهي من رسالة محمد، والتنفيذ المحمدي لإرادة الله

وكان العالم قبل يوم محمد يرسف في عبودية عقلية تقتل التفكير، وعبودية جسمية تعقل التصرف؛ فلم يكن للأسرة نظام، ولا للقبيلة قانون، ولا للأمة دستور، ولا للعقيدة شريعة؛ إنما هو طغيان عاسف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة: فالأب يملك على بنيه الموت والحياة بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف، والملك يخضع نفوس الشعب باسم الدين، والكاهن ينسخ عقول الناس بقوة الجهل، والناس أجمعون عدا هؤلاء الأربعة أتباع وأوزاع وه فلما بعث الرسول الكريم رحمة للعالمين بعث الحرية من قبرها، وأطلق العقول من أسرها، وجعل التنافس في الخير، والتعاون على البر، والتفاضل بالتقوى، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة، وعدل بين الحقوق بالمساواة، ودخل بين النفوس بالمحبة، حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته، والفقير أن بيت المال ثروته، والوحيد أن المؤمنين جميعاً اخوته؛ ثم محا الفروق بين أجناس الإنسان، وأزال الحدود بين مختلف الأوطان، فأصبحت الأرض كلها وطناً مشاعاً، والعالم كله أسرة متحدة، لا يهيمن على علائقها إلا الحب، ولا يقوم على مرافقها إلا الإنصاف، وليس فيها بين المرء وخليفته حجاب، ولا بين العبد وربه واسطة

يا رعى الله ذكراك المقدسة يا غار (ثور)! لقد كنت مبعث الحرية، كما كان غار (حراء) مبعث الروح! فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي!!

وكان العالم قبل مولد محمد يعاني تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتقلب الأثرة وتحكم السفاهة؛ فسطوة اليد تسرف على العدل، وعصبية الدم تبغي على الحق، وسلطان المال يجني على الإنسانية، وسورة الترف تتعدى على المروءة؛ فالتجارة بخس وتطفيف، والعهود نقض وتسويف، والناس يعيشون عيش الوحش، تنافر وتدابر واحتيال واغتيال وشهوة!! فلما ظهر البطل العظيم والإنسان الكامل كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق: كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل، وتعليماً لآداب النفس بالعمل، وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة؛ ثم فعلت شخصيته ودعوته في نفوس رويت بالدماء، ونغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، فألفهم على المودة، وجمعهم على الوحدة، ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً، ومن سنته دستوراً، ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض، ومدنوا العالم، وهذبوا الناس

ذلك ما تلقيه ذكرى مولد الرسول في روع المؤمن العقول الذاكر! فليت شعري ماذا يجد في نفسه وفي قومه من روح محمد وحرية محمد وخلق محمد! ألسنا نعيش اليوم صوراً كقطع الشطرنج، وأتباعاً كعبيد الأرض، وهمجاً كهمج الجاهلية؟ وهل كان ذلك يكون لو أننا اتخذنا من أحكام الله منهاجاً، ومن كلام رسوله علاجاً، ومن حياة السابقين الأولين قدوة؟

إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وسلطان الجهالة، فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!

أحمد حسن الزيات