مجلة الرسالة/العدد 101/النهضة التركية الأخيرة
مجلة الرسالة/العدد 101/النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
وجهت أجدى المجلات الكبيرة في مصر إلى بعض الكتاب هذا السؤال: (إلى أي حد يجب الاقتداء بتركيا في نواحي نهضتها الأخيرة)، فحفزني هذا إلى الكتابة في موضوع تجنبته زمناً طويلاً، لا استهانة به فهو جد خطير، ولكن إشفاقاً مما يثور بالنفس حين تعالجه
- 1 -
الترك العثمانيون إخوان لنا، نشأنا على حبهم، ومنحناهم قلوبنا فتمكن بها ولاؤهم، وشببنا نعدهم على المسلمين الخفاف في زمن تنكست فيه أعلامهم، وجيشهم المجاهد على حين تفرقت الأجناد، وتخاذلن الأعضاد. كنا نعد مفاخرهم مفاخرنا، ومثالبهم مثالبنا، ونرى صلاحهم صلاحنا، وفسادهم فسادنا، ونفرح كما فرحوا، ونبتئس كلما ابتئسوا. وكلما نزلت بهم نازلة نصرناهم جهد العاجز بألسنتنا وأموالنا وأيدينا وسع الأيدي المغلولة، والأعضاد المغلوبة. ولا يزال التاريخ الحديث يدوي بحادثات المدرعة (حميدية)، وحروب طرابلس والبلقان، وقدوم الطيارين العثمانيين إلى مصر، وغير هذا مما يشهد بالحب الصادق، والمودة المخلصة
ولقد نشأت على هذا الحب، لا يطربني إلا ما أطرب الترك، ولا يسوؤني إلا ما ساءهم؛ وفيهم تعلمت الشعر فشدوت به في حروب طرابلس والبلقان، وكتبت في الحرب الأخيرة أعطف عليهم القلوب، وأستحث الهمم على الإمداد بالمال. ولست أمن عليهم بذلك فقد كان فرضاً علي وعلى غيري
ولما قذف جنود الترك الأنجاد بجيش اليونان في البحر كاد الناس في مصر وغير مصر يجن جنونهم فرحاً وزهواً
- 2 -
ثم وقعت هذه الواقعات التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)، فخاجت من الناس الظنون، وتحطمت الآمال وتصدعت القلوب، ووقفوا وقفة من أصيبت آماله في أخ صميم أو صديق حميم، يراه قد ركب رأسه، واشتط في هواه، يقطع أواصر الأخوة، ويصرم حبال المودة، لا يستطيع أن يغضي عن سيئاته وهي وخيمة العواقب، ولا تطيب نفسه أن يسمع به ويذيع عيوبه على مسمع من الأعداء
قومي همُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فوقف يلومه حيناً، ويجادل عنه حيناً، ويرد مقالة الخصماء، ويحذر شماتة الأعداء، ويلتمس له المعاذير، ويتربص به الأفاقة من غيه، والإياب إلى رشده، ويدعو الله أن يلهمه السداد، ويهديه سبيل الرشاد. وها نحن أولاء ندعوا ونرجوا وننتظر
- 3 -
وبعد فما هذه الأحداث التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)؟ نستعرض الحادثات لنرى ما هي:
فأما ذود الترك عن حياضهم، ودفعهم عن استقلالهم، وإيثارهم الموت الحر على العيش الذليل فشنشنة أعرفها من أخزم، عرف الترك بها في كل زمان، وامتازوا بها في كل ميدان، وكان لسلفهم فيها غرر مشهورة، وأعمال مأثورة، يدوي بها التاريخ ويشهد بها العدو والصديق. فلا ينبغي أن يعد هذا من (النهضة الأخيرة). فقد كان السلف فيه خيراً من الخلف. كان ميدانهم أوسع، وعدوهم أكثر، وخطبهم أفدح، وعبثهم أثقل. وتلك، على كل حال، محامد ينبغي أن تتقيلها الأمم، ويتنافس فيها أولو الهمم
وأما عكوف الحكومة التركية الحديثة على إصلاح البقعة التي أبقتها الأحداث في أيديها، وتركتها النوائب من الميراث العظيم - عكوفهم على الإصلاح والتعمير والتنظيم فأمر محمود، وسعي مشكور، وفرض تأخر عن وقته، إذ حالت دونه الخطوب الكارثة، والمصائب المتوالية؛ وهم في هذا الإصلاح ليسوا مبتدعين ولا سابقين، فهم يحتذون على مثال الأمم التي سبقتهم في الغرب والشرق. هم في ذلك مأمومون لا أئمة، ومقتدون لا قدوة. والأئمة في ذلك أمم أوربا، عنها أخذوا وبها اقتدوا. وعملهم في هذا التقليد، عمل حميد. والله يهيئ لهم في ذلك رشداً، ويهديهم إلى الخير أبداً
- 4 -
وبعد ذلك أمور نجمل الكلام فيها واحدة واحدة، ثم نلق عليها نظرة جامعة لنتبين أين مبدؤها ومنتهاها، ومصدرها وموردها، ونرى مكانها من الاختراع أو المحاكاة، وسنعترف لهم في هذا بحسناتهم، ونأخذ عليهم سيئاتهم، أخذ الصديق الناصح لا العدو الشامت، آملين أن يزدادوا من الإحسان، وينزعوا عن الإساءة
ونحن إذا خاصمنا القوم في هذه الأمور فليس خصمنا الأمة التركية جميعها بل الحكومة التركية، يشاركنا في رأينا كثير من رجالات الترك الذين حملت كواهلهم أعباء الحرب الأخيرة، ومهدت أعضادهم لهذا النصر المجيد، ويشاركنا كثير من العلماء وأولى الرأي، وكثير من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً
ونبدأ بمسألة الخلافة، إذ جعلوها فاتحة هذه الأمور، ومفتاح هذه النهضة، قانعين بالقول الموجز واللمحة الدالة في هذا الموضوع الواسع:
مهما يقل القائلون في صحة الخلافة العثمانية وفسادها، وجدواها وضررها، ومهما يفتن المجادلون في تبيان ما جلبت على الدولة من مصائب، ورمتها به من عداوة أوربا، فلا ريب عندي أن الخلافة ما أضرت بالدولة العثمانية قط بل نفعتها أحياناً.
ما حاربت أوربا العثمانيين بما كانوا دولة الخلافة، بل بأنهم دولة مسلمة شرقية. وقد ثارت الحروب منذ نشأت الدولة قبل أن يلقب الخليفة العباسي في مصر بيزيد الأول بلقب (سلطان الروم)، وقبل أن يفتح السلطان سليم مصر ويحمل إلى استنبول الخليفة المتوكل على الله. ولم يكن مكان الترك في الخلافة الإسلامية واضحاً في معظم أطوار حروبهم، بل استقرت لهم الخلافة عند المسلمين ودول أوربا أثناء هذا الجلاد المديد، والحروب المتوالية، إذ اعترف المسلمون أن رأسهم هو هذه الدولة القوية المجاهدة، واعترف الأوربيون في العصور الأخيرة أن للترك أن يتكلموا عن المسلمين كما يتكلم الروس عن المسيحيين. فلم تكن الحروب نتيجة الخلافة، بل كانت الخلافة نتيجة الحروب، وهي على هذا لم تكن واضحة ولا ادعاها العثمانيون صراحة إلا في العصور الأخيرة. . . لو أن أوربا شنت على الدولة العثمانية غاراتها من أجل الخلافة فلماذا قضت على الدولة التيمورية في الهند، ودولة الأشراف السعديين في المغرب وغيرهما؟ ووالت غاراتها على المسلمين في المشرق والمغرب
والحق أن انتحال الخلافة نفع الدولة العثمانية حين ضعفها، وكساها هيبة وجلالاً في الشرق والغرب؛ وقد أدرك ذلك السلطان عبد الحميد فاجتهد أن يمكن هذه الخلافة في نفوس المسلمين كافة ليرهب بهم أوربا
وإن يكن المسلمون قصروا في الدفع عن الدولة، وإمدادها بالمال والجند، فماذا عسى أن تستطيع الأمم المغلوبة على أمرها، الذليلة في أسر أعدائها. وقد خاف الأوربيون أثناء الحرب الكبرى أن يلقوا الدولة برعاياهم المسلمين فاحتالوا لذلك حيلاً شتى: كان الفرنسيون يأخذون جنود أفريقيا يوهمونهم أنهم سيدافعون عن الخلافة والإسلام، ولم يستطع الإنكليز، بعد تمرد الرديف المصري وإبائه أن يحارب الترك، أن يرسلوا إلى القتال جندياً من المصريين، فاحتالوا عليهم وأخذوهم عمالاً وراء الجيش. وقد تطوع كثير من المسلمين لنصرة الدولة في الحرب والسياسة، ولو كان أمر المسلمين بأيديهم لكان لهم موقف آخر. وقد سمعنا من كبار الساسة الترك وغيرهم أن إنكلترا أشفقت من أن تقف بجانب اليونان جهرة، وتنصرهم بكل قواها في الحرب الأخيرة، حين ثار المسلمون الهند وطلبوا منها الإبقاء على دولة الخلافة، وأن هؤلاء المسلمين على ضعفهم عاونوا على إنقاذ البقية الباقية من الدولة العثمانية. ولا تنس معاونة أمثال السيد السنوسي وطوافه في الأناضول وكردستان لتأليب الناس وإثارتهم للجهاد. وقد رأيت بعيني صورة الغازي مصطفى كمال باشا في قلعة سنوسية أهداها إليه السيد أحمد فلبسها تبركاً
ثم هذه الخلافة العثمانية على وهنها وغموضها كانت في هذا الزمن العصيب علماً ينظر إليه المسلمون إن لم ينحازوا إليه، وتنضوي إليه آمالهم إن لم تنله أيديهم، وتعتز به نفوسهم وترى في خفقانه ذكرى الماضي العظيم، وتباشير المستقبل العزيز
ولقد كان إلغاء الخلافة في هذه الخطوب المكفهرة كحل رباط حزمة من القصب في ريح عاصف بلغت من المسلمين أسوأ مبلغ، وبلغت أعداءهم أبعد غاية. لا ينكر هذا إلا جاهل بطبائع الأمم أو غبي عن تاريخ المسلمين. وأحسب أن الإنكليز - مثلاً - كان يهون عليهم أن يبذلوا ملايين الجنيهات ليبلغوا الغاية التي بلغهم إياها الكماليون بغير ذل ولا كد
ولا ريب أن الترك حين دفعتهم نشوة الظفر على اليونان إلى إلغاء خلافة الإسلام قد أخروا دولتهم من صف الدول العظيمة إلى صف الدول الصغيرة، فهم اليوم في صف دول البلقان، وإن دول العالم العظيمة كانت تتمنى أن تشتري مكانة الترك بين المسلمين بالجهد الطويل، والمال الوفير، طيبة نفوسهم بما بذلوا وما نالوا
يقال إن للثورة آثارها، وللمحنة أعذارها، وما كان إلغاء الخلافة ضرورة اقتضاها الإصلاح، ولكن إفراطاً أدت إليه الثورة. ونحن نقول مهما يكن السبب فذلك شر أصاب المسلمين لا محالة، وإن عجز عن إدراكه الثائرون في غبار الثورة، فقد أدركه البعيدون يقيناً، وبكوا من أجله طويلاً. على أن عمل الكماليين من بعد دل على أن إلغاء الخلافة لم يكن نزوة ثورة، بل كان الحلقة الأولى في سلسلة مصنوعة، والخطوة الأولى في خطة موضوعة. ويعتذر بعض المعتذرين بأنه كان لابد للنهضة الأخيرة من جمهورية، وكان لابد للجمهورية من إلغاء الخلافة، وهذا عذر أشبه بالذنب. ويعتذر آخرون بأن الصلة بين الروس والترك وحاجة هؤلاء إلى معونة أولئك اضطرتهم إلى إلغاء الخلافة، فهل يرضى الكماليون أن يعد عملهم في الخلافة وما بعدها خطة أملاها الروس عليهم؟ ما أحسبهم يرضون من أصدقائهم أن يقفوهم هذا الموقف ليدافعوا عنهم: وهذا بعد لا يخفف المصيبة التي أصابت المسلمين بإلغاء الخلافة
له بقية
عبد الوهاب عزام