مجلة الرسالة/العدد 1009/أدب التاريخ أو التاريخ الشعري
مجلة الرسالة/العدد 1009/أدب التاريخ أو التاريخ الشعري
للأستاذ خليل رشيد
ليس الغرض من مقالنا بيان فضل التاريخ وما يحدثه من أثر طيب بتربية الذوق الأدبي. إنما غرضنا الحديث عن فن أدب التاريخ أو كما يسميه صديقنا المرحوم النقدي عضو مجلس التمييز الشرعي ببغداد، بضبط التاريخ بالأحرف.
وسأقدم لك لوحة فنية من مبدعات هذا لفن الخالد بخلود التاريخ، وقد أضفت إليها ريشة الفنان برد الفن ولبوسه، وأسبغ عليها قلم المؤرخ أبدع روائعه. وسأقدم لك جهبذا من جهابذة هذا الفن وغريدا تغنى على فن الشعر، وصدح في رياض الأدب منذ نصف قرن أو تزيد قليلا، هو الحاج مجيد المشهور بالعطار نور الله مرقده.
والحاج مجيد سريع النكتة، حاضر البديهة، شاعر بما يريد أن يقول، يغذي شعره عصارة فكره ودم قلبه. عميق الفكرة، متين القول، سلس الأسلوب، فإذا حلق في سماء الفكر خرت التواريخ أمامه صاغرة ليختار الجيد الجميل منها، ويرجع بغنيمة الظافر المنتصر، وقد ضمن التاريخ نكتة أدبية رائعة، تبهرك إعجاباً بعظمة الفكر وسرعة الخاطر. في شعره جزالة القديم ورقة الحديث، وفيه دقة المعنى وروعة التصوير. وليس هذا النوع من الأدب سهل المأخذ، بل هو صعب جموح، يخضع لقواعد ونظم قد لا يخضع لها غير أدب التاريخ من الفنون الأدبية الأخرى منها: ما يحسب من التاريخ على الطريقة المألوفة في علم الخط لا ما يكتبه المؤرخ حسب رأيه، فالمعتل بالياء سواء كان اسماً كموسى، أو فعلاً كرمى، أو حرفاً كإلى لا يحسب آخره في التاريخ ألفاً، وإنما يحسب ياء، فالأول كقول أحد الفضلاء في تاريخ وفاة أحد العلماء الأعلام:
مضى الحسين الذي بحسد من ... نور علوم من عالم الذر
قدس مثوى منه حوى علماً ... مقدس النفس طيب الذكر
أوصافه عطرت فأنشقتنا ... منهن تاريخه شذى العطر
والثاني كقوال عبد الغفار الأخرس، يؤرخ وفاة السيد عبد الرحمن النقيب وفي الشاهد للثالث أيضاً:
يوم به قيل أرخ ... مضى إلى ربه النق سنة 1291هـ
وفي الثالث قول عبد الباقي العمري، يؤرخ تعيين المشير رشيد الحوزكلي لبغداد:
بشرى لبغداد فقد أرخوا ... إلى رشيد أب قطر العراق
سنة 1269هـ
وقد أهمل المد في آب. . والصحيح عدم إهمالها.
ومنها: اختلافهم في بعض ما يكتب، كالتاء التي تكون في الوقف هاء، كفاطمة. والهمزة الواقعة في آخر الكلمة، كهمزة، جاء. وداء. ورجاء. وأمثالها. . والألف من لفظ الجلالة، والألف التي يوضع لها علامة المد.
أما التاء التي تكون في الوقف هاء فقد عدها جماعة من الأدباء هاء والصحيح أنها متى تحركت بانت تاء. وتعد بأربعمائة؛ وإذا وقف عليها كانت هاء وعدت بخمسة، وكذلك الهمزة من جاء وأمثالها، عددها واحد عند الحساب كأختها الألف كما قول عبد الباقي العمري يؤرخ دار العلامة الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني.
بنورك يا شهاب الدين أرخ ... أضاء مقامك المحمود حسنا
سنة 1252 هـ
أما الألف الساكنة مع واو الجماعة فإنها تحسب لأنها تكتب. . . وكذلك واو عمرو، وأما الألف التي على الهاء من هذا فإنها تحسب أيضاً لأنها تكتب منفصلة من الذال ومتصلة، والانفصال خط الأكثر، والاتصال خط المصحف، وكذلك الألف التي يبدأ بها لفظ الجلالة. . أما المد فقد استقر الرأي أنه مع احتياج الكلمة إليه، في الاستقلال يحسب، وإذا استقلت الكلمة بدونه وأمنت اللبس فلا يحسب، فالأول كالمد في آل. فإن الكلمة لا تستقل بدونه لأنها تلتبس بأل وأمثالها. . وأما المد في آب ومنه قول الشيرازي في وفاة الخليعي:
بشره بالخير واعذر من يؤرخه ... فللخليعي لما آب أفنان
سنة 1127 هـ
والثاني كالمد في لفظ الجلالة، فإن الكلمة لا تلتبس بغيرها، لشهرتها واختصاصها. . وأما المد الواقع في آخر الكلمة الدال على معنى مقصود. كهاء وتاء وباء وأشباهها فهو يحسب عند الجميع.
ومنها: إفراز مادة التاريخ أرخ أو يؤرخ أو أرخت أو أرخوا ومثالها، أو ما يفيد معنى هذه لألفاظ. . ومثل ذلك كقول بعضهم في تذهيب قبة الإمام علي عليه السلام:
يا طالبا عام إبداء البناء لها ... أرخ تجلى لكم نور على نور
سنة 1155 هـ
وقول الشيخ حسن الشامي في ولاية حسن باشا لمصر:
ولسان الحال يؤرخه ... كملت مصر بجمال حسن
سنة 1014 هـ
وقول العمري عبد الباقي يؤرخ وفاة العلامة شهاب الدين الآلوسي صاحب روح المعاني:
حور الجنان به حفت مؤرخة ... جنات روح المعاني قبر محمود
سنة 1820 هـ
وربما تزيد مادة التاريخ أو تنقص، فيجوز الإكمال أو التنقيص بنكتة أدبية. . فالأول كقول بعضهم في تعمير مسجد صاحب الجواهر:
تم بأقصى اليمن تاريخه ... شيد على أسس التقى ركنه
سنة 1351 هـ
أشار بأقصى اليمين إلى إضافة خمسين، وفيه النكتة الأدبية. . والثني كقول بعضهم أيضا في تزيين قبة الإمام علي عليه السلام بأمر أحمد خان النواب:
فأنخ والق عصاك وادع مؤرخا=الخير وفق أحمد النواب
سنة 1198 هـ
إشارة إلى إلقاء واحد من المجموع وهي نكتة أدبية لطيفة.
وقد تفنن الأدباء في هذا الفن. فمنهم من نظم القصيدة وجعاً كل شطر من شطراتها تاريخاً كما فعل النحلاوي بمدح الشيخ عبد الغني النابلسي. . ونمهم من جعل معجم كل شطر منها تاريخاً كما فعل عبد الباقي العمري في مولد حفيده وسماها الجوهرة. . ومنهم من جعل من معجم كل بيت ومهمله تاريخاً كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي. . كما عرفنا عليه أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي ص 458 فقال (وشعره على طول معالجته له، وقوة طبعه فيه، أسبه بشعر الحريري وأضرابه، وبخاصة تلك القصائد التي تكلف فيها لتاريخ الشعري، فقد غالى في ذلك وأسرف، حتى كان يضمن البيتين ثمانية وعشرين تاريخا، أو ينظم القصيدة، فيلزم كل شطر من شطراتها تاريخا، كقصيدته في تهنئة إبراهيم باشا في فتح مكة.
تعجبني لباقة الأستاذ الزيات ولفتته الأدبية في تعريف الأدباء وتحليل نتاجهم الأدبي. هو كصيدلي بارع، يزن الدواء بمقدار. .
لنعد لمجرى الحديث عن أديبنا الحاج مجيد، فهو أديب عرفته الأوساط الأدبية في القرن التاسع عشر بالعبقرية والنبوغ وسعة الفكر والخيال والدين، ويكاد رحمه الله يختص بأدب التاريخ، وهذه الملكة الفنية عنده من السهولة بمكان. وقد حدثني عنه صديقي الأستاذ اليعقوبي، عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف، أحاديث من الغرابة بمكان، بحيث يؤرخ في بيت واحد من الشعر تواريخ عدة، لا يستطيعها غيره من الأدباء، وغير من أرشدنا إليه الأستاذ الزيات:
عاش شاعرنا وقضى باكورة شبابه والشيء الكثير من شيخوخته بين الزاغ والدياغ، وما تتطلبه مهنة العطارة وتقتضيه، كي يحصل على قوته ويوفر لأهله الخبز الحر الذي يستسيغه ويستطيبه من كده وكدحه. وهو من المؤمنين بحكمة المثل القائل: من عجز عن زاده اتكل على زاد غيره. . وكان رحمه الله مثالاً صادقاً من أمثلة المسلم الصحيح، ذا نسك ودين، كما ينبئ بذلك قوله:
ما شاقني قرب الحمام وإنما ... أشتاق قرب الواحد المنان
لأشم ريح العفو عند لقائه=وأذوق طعم حلاوة الإحسان
وقوله مناجيا ربه:
أمحصلاً ما في الصدور بموقف ... لا عذر فيه لنا من العصيان
أتقيم فينا العدل يحكم وحده ... وأمرتنا بالعدل والإحسان
ومن ظريف ما يروى عنه رحمه الله أن شاعرنا مكثراً استحسن بيتين لشاعرنا فشطرهما. فصار البيتين والتشطير أربعة أبيات، ثم شطر الأربعة أبيات فصارت ثمانية، ثم شطر هذه أيضاً فصارت ستة عشر بيتاً، ثم شطر الستة عشر بيتاً، فصارت اثنين وثلاثين بيتاً، كتبها وقدمها إلى صاحبنا العطار.
فلما رآها نظر إليه وقال، صديقي الشيخ! أتسكب أربع قرب من الماء على قدح صغير من عصير الليمون؟ فعل الله بك وفعلب. . .
ولسنا الآن بصدد هذا كله، وإنما نحن بصدد الحديث عن أدب التاريخ. . وإليك بعض أعاجيب هذا الشيخ في هذا الباب: هذان بيتان أرخ فيهما زواج السيد أحمد بن السيد مرزا القزويني، محتوية على ثمانية وعشرين تاريخا وهي:
أكرم بخزان علم أم وارده ... منكم لزاخر بحر مد آمله
زفت إلى القمر الأسنى بداركم ... شمس لوار وزان البشر حامله
وهذان بيتان آخران، أرخ فيهما مقام الإمام علي عليه السلام في الحلة، على نفقة العلامة السيد محمد القزويني ره، وهي:
بباب مقام الصهر مرتقباً نحا ... أخو طلب بالبر من علم براً
مقام برب البيت في منبر الدعا ... أبو قاسم جر الثنا عمها أجراً
1316 هـ
والتواريخ هذه على النمط التالي:
(1) صدر الأول (2) عجزه (3) صدر الثاني (4) عجزه (5) مهمل البيت الأول (6) معجمه (7) مهمل صدر الأول مع معجم عجزه (8) معجم صدر الأول مع مهمل عجزه (9) مهمل البيت الثاني (10) معجمه (11) مهمل صدره مع معجم عجزه (12) معجم صدره مع مهمل عجزه (13) مهمل الصدرين (14) معجم الصدرين (15) مهمل صدر الأول مع معجم صدر الثاني (16) معجم صدر الأول مع مهمل صدر الثاني (17) مهمل العجزين. . . (18) معجم العجزين (19) مهمل عجز الأول مع معجم عجز الثاني (20) معجم عجز الأول مع مهمل عجز الثاني (21) مهمل صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (22) معجم صدر الأول مع معجم عجز الثاني (23) مهمل صدر الأول مع معجم عجز الثاني (24) معجم صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (25) مهمل عجز الأول مع مهمل صدر الثاني (26) معجم عجز الأول مع معجم صدر الثاني (27) مهمل عجز الأول مع معجم صدر الثاني (28) معجم عجز الأول مع مهمل صدر الثاني.
فجعل كل شطر برمته تاريخاً، والحروف المعجمة من كل شطر شطرين تاريخاً، ومثلها الحروف المهملة؛ فيتجمع من ذاك ستة عشر تاريخاً، وكذلك المعجمة مع المهملة، والمهملة مع المعجمة، فيتجمع اثنا عشر تاريخاً. فيكون المجموع ثمانية وعشرين تاريخاً.
ونحن نكتفي بهذا القدر من هذا البحث، وعن هذا لشاعر، لقلة المصادر الموجودة لدينا عنه، وقلة من كتب عنه، أظن أن في بحثنا هذا الكفاية بعض الشيء عن هذا البحث وعن هذا الشاعر، وأخذ الفكرة عنه، ومن الله نستمد المعونة والتوفيق
العمارة - العراق
خليل رشيد