انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1004/العلم والمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1004/العلم والمال



للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

ليس للعلم في ذاته قيمة، وليس للمال كذلك في ذاته قيمة، وإنما تتغير قيمة كل منهما بالنسبة للآخر، حتى إذا تبدلت ظروف أحدهما فارتفع أو انخفص، ارتفع الآخر أو انخفض تبعاً لذلك

وقد كان للعلم في العهد السابق على الانقلاب الأخير قيمة معينة بالنسبة للظروف الاجتماعية السائدة حينذاك، والتي كانت تخضع إلى حد كبير إلى عامل أساسي عظيم الأثر هو المال. فقد كانت الثروة هي المقياس لجميع الأشياء، حتى إذا تبين للناس أنها المحرك الأول في الحياة، وأنها هي التي تجلب حاجات المعيشة، ووسائل الرفاهية، وأسباب اللهو والزينة، مما كان فتنة الناس وقبلتهم، أقبلوا على المال يقتنونه بشتى الوسائل، شريفة كانت أم غير شريفة، لا يحلفون في سبيل ذلك بشيء، حتى لقد أخضعوا العلم نفسه للماس، فأصبح يباع ويشترى، وتطرق إلى بيعه وشرائه أسباب الفساد والرشوة والمحسوبة، كما تطرق الفساد والرشوة والمحسوبة في كل شيء آخر في الحياة

فإن قلت: وهل يخضع العلم للمال؟ وكيف كان ذلك؟ قلنا: ألم يبلغك نبأ المعلمين الذين يحملون العلم ويتجه إليهم الطلاب يلتمسون عندهم هذه البضاعة، كيف انغمسوا إلى الأذقان في (الدروس الخاصة) يزعمون أنها أجر على التعليم، وحددوا للساعة أجراً أخذ يرتفع إلى أن بلغ قيمة لا يطيقها أوساط الناس وأصبحت ترهق ميزانياتهم. ولم تكن بدعة الدروس الخاصة معروفة من قبل، اللهم إلا في نطاق شديد الضيق، لأن المعلمين كانوا يقومون بمهنتهم خير قيام، ويؤدونها أحسن أداء، ويكفيهم في ذلك أن الدولة قد تعهدت بمعاشهم، وأعطتهم الرواتب للقيام بهذا العمل وتنفيذه. وقد شاعت هذه البدعة حتى بلغت أسوار الجامعة واقتحمتها وأصبحت شيئاً مألوفاً في معظم كلياتها. وهذا أعظم باباً من أبواب الفساد

ولم يقنع المعلمون بالأجر يأخذونه على الدروس الخاصة، فتهافتوا في جميع أنواع التعاليم على تأليف كتب يتجرون في بيعها، ويفرضونها فرضاً على الطلاب، سواء أكان ذلك في مدارس الروضة أم في المدارس الابتدائية والثانوية، أم في كليات الجامعة. وهذا باب آخر من أبواب الفساد وهيأ الجشع لبعض المعلمين أن يتجروا في الامتحانات، فيهبونها لمن لا يستحق في نظير مبلغ معلوم، وفاحت رائحة تزكم الأنوف، وضبطت حوادث كثيرة من هذا القبيل. وهذا باب ثالث من أبواب الفساد

جملة القول: هبطت قيمة العلم بالإضافة إلى المال، وتلوثت أيضاً أقدار العلماء والمعلمين، وهم حملة راية العلم، أصبحنا نجد رجالاً لا يمتون إلى العلم الصحيح بصلة يتصدرون المجالس ويتبوءون أرفع المناصب، ويتحكمون في المصائر، ويحكمون على غيرهم، وهم أبعد ما يكون عن المعرفة وعن صفات العلماء

والآن وقد قام الانقلاب على هدم أقدار الناس الذين يعتمدون على المال فقط، ومن أجل ذلك أصر الموجهون للثورة على تحديد الملكية، فلا غرابة أن تتغير قيمة العلم ومنزلة العلماء مع تغير قيمة المال

وما دامت الثروة قد أوشكت أن تفقد ما كان لها من سلطان ونفوذ وسحر وأثر في النفوس، فسوف يقضي على ألوان الفساد الذي تطرق إلى أبواب العلم

والموقف الذي تقفه مصر اليوم هو أشبه شيء بما كان يجري في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، حين تفشت الديمقراطية وهي حكم الشعب، ثم فسدت هذه الديمقراطية، وانتشرت طائفة من الفلاسفة والمعلمين يعرفون باسم السفسطائيين، يعلمون الناس الخطابة والبيان لحاجتهم إلى هذه الأسلحة في المجالس النيابية. ولكنهم كانوا يتناولون أجوراً باهضة على التعليم، ولم يكن غرضهم العلم لذاته؛ بل تعليم الخصم كيف يتغلب على خصمه بالحجة باطلة كانت أم صحيحة

فما أشبه العهد السابق بعصر السفسطائيين!

فلما جاء سقراط كان أول همه أن يكافح تلك الجماعة، فكان يقوم بالتعليم دون أجر، مع أنه كان فقيراً، يمشي في الأسواق حافي القدمين. وعلة الرغم من صلته بكثير من الأغنياء كان يرفض أن يمد يده إليهم

ثم كان ينشد في تعليمه الحق الخالص، لا يبغي تزييفاً أو نفعاً أو شهرة أو تغلباً على خصم. وذلك سخط السفسطائيون عليه، ودبروا له المحاكمة المشهورة في التاريخ، والتي انتهت بالحكم عليه بالإعدام. ولكم الروح التي بثها سقراط هي التي أثمرت وسرت ونجحت، فكان أفلاطون ثمرتها، ثم أر سطو من بعده، واستتبت قواعد العلم على أسس صحيحة بعيدة عن السفسطة

وجدير بمصر اليوم أن تكافح جماعة السفسطائيين الذين ألبسوا الباطل أثواب الحق، ونشروا أسباب الفساد، وهبطوا بالعلم والتعليم درجات ودرجات

فلا أجر على التعليم إلا ما تدفعه الدولة

ولا تجارة في الكتب

ولا مساومة على الامتحانات

ولم تكن هذه المفاسد كلها مجهولة في السنوات الماضية، فقد كتب كثير من أحرار المفكرين في الصحف ينادون بمكافحتها والقضاء عليها، واجتهد بعض وزراء المعارف أن يلتمسوا لها حلاً فأمروا بمنع إعطاء الدروس الخاصة، وأصدروا المنشورات التي تحرم على المعلمين القيام بها. فكانت تلك المنشورات حبراً على ورق، وظلت تجارة الدروس شائعة رائجة

ولجأ بعض الوزراء إلى إلغاء الامتحانات أصلاً، ونقل التلاميذ من عام دارس إلى عام آخر بمجرد الحضور، واكتفاء بتقارير المدرسين. ولم يحل هذا الإجراء المشكلة، بل زادها تعقيداً على تعقيد

ولم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تصلح حال العلم والتعليم في وسط موبوء، كله مفاسد وشرور ومحسوبة وشذوذ، ولذلك كان طلب الإصلاح في تلك الظروف من المحال

فلما أجتث الرأس الفاسدة، والحاشية التي كانت تبث الفساد في كل ركن من أركام الحياة، لأن معظم أفرادها من العامة بل وسفلة القوم، ونحن نعني ذلك لأن الحاشية كانت من الخدم! ويحضرني بهذه المناسبة وصية لابن سينا في تعليم الرجل أبناءه: هي (ألا يتركهم في أيدي الخدم حتى لا يتطرق إليهم الفساد، ولا يتخلق بأخلاقهم) نقول لقد مضى عهد الخادم الجهل الذين كانوا يتصدرون الدولة ويعدون بحكم مناصبهم قدوة لغيرهم، وأصبح الطريق مفتوحاً لمن يتصف بخصلتين أساسيتين هما: العلم والخلق، وذهب إلى غير رجعة من يسلك الطريق بالمال

غير أن انهيار أصحاب المال لا يكفي وحده في إصلاح الحال؛ فأنت تعرف ولا ريب سلطان العادة على النفوس. وقد درج الكثيرون فيما سبق على كسب المال من طريق العلم والاتجار فيه، وتزييف الكتب ودفعها إلى السوق، متسترين باسم الألقاب العلمية التي حصلوا عليها بأسباب غير شريفة. وهؤلاء وأولئك لن يعفوا عن باب اعتادوه وكان يدر عليهم الذهب. وسوف يكون موقفهم كموقف الأحزاب السياسية التي رفضت الدعوة إلى التطهير حتى أرغمت عليه

لذلك نحن في حاجة إلى تطهير جبهة العلم من الأدعياء السفسطائيين بحركة جريئة تجتث الرؤوس الفاسدة، وقد تعفنت من الفساد، ولا يرجى معها إصلاح

إن قوة الأمة تقاس بانتشار العلم الصحيح بين أبنائها، لا بمقدار ما يملكه أفرادها من مال. وجدير بمصر وهي في فجر ثورتها أن تعول على الطريق الجدي الموصل حقا إلى تقويتها، وهو العلم. ولن يتيسر ذلك إلا بالإصلاح هيئات التعليم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل الخالص لوجه العلم والابتعاد عن فتنة المال كما كان الحال في صدر الإسلام، حين كان العلماء يقومون بتعليم الناس حسبة لوجه الله، لا يتناولون على تعليمهم أجراً. بل إن فقهاء الدين أصحاب المذاهب كأبي حنيفة وأبن حنبل، لم يعرف عنهم التكسب بالفقه، بل كان للواحد منهم صناعة يعتمد فيها على معاشه، مثل أبي حنيفة الذي كان بزازاً

فأين علماء اليوم من علماء الأمس؟

عاش علماء الأمس فقراء طول حياتهم، فخلد اسمهم على الزمان، وظلت آثارهم باقية حتى اليوم، وتنعم علماء اليوم في رغد من العيش وفيض من الثروة، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا أمتهم معهم

فليبتعد العلماء عن فتنة المال حتى ينزهوا العلم عن الشوائب، وحتى يكونوا قدوة صالحة للطلاب وعاملاً في بناء مجد مصر

ليبتعدوا عن هذا كله قبل أن تمتد إليهم يد الثورة فتحرقهم

أحمد فؤاد الأهواني