مجلة الرسالة/العدد 1004/الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأوردية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1004/الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأوردية

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



للدكتور عمر حليق

لعل أبرز الظواهر في حاضر الحياة الفكرية في الباكستان هو العكوف عن التقليد الأعمى والانسياق التام في تيارات الثقافية الغربية التي كانت تهيمن على الحياة العقلية في القارة الهندية قبل تقسيمها إلى هند وباكستان

وجدير بالذكر أن أثر الثقافة الغربية مع الإنتاج الفكري في القارة الهندية لم يكن في جملته سيئ النتائج. فقد أولد هذا الأثر اتجاها ملحوظا لتوجيه الحياة العقلية هناك على أساس مناهج البحث العلمي الحديث. بحيث أخذ إنتاج الهند والباكستان يتميز بطابع الدقة وعمت الفكرة التي يلمسها كل من أتيح له الاطلاع على البحوث القيمة التي عالجت مشاكل الساعة سواء في الدراسات العلمية للتراث الإسلامي والهندوس أو في الشعر والنثر الأوردي، أو في الإنتاج الفني الذي أخذ ينمو هناك نمواً سليماً

ولكن الظاهرة الفريدة في حاضر الثقافة الأوردية هي انفراد حفظة الثقافة في الباكستان - إثر ميلاد هذه الدولة الإسلامية - في العكوف عن جعل الحياة العقلية والأدبية والفنية هناك صورة مشوهة للثقافة الغربية وصدى سطحي العمق للتيارات الأدبية والفنية التي تتسرب إلى حاضر الثقافات الآسيوية من أوربا والعالم الجديد

فقد شعر حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان أن الانسياق في التغذي بالصورة المتوهمة للثقافة الغربية قد أخذ يولد في الأوساط الثقافية هناك لونا من التشويش قد يؤدي إلى توجيه الحياة الفكرية في هذه الدولة الجديدة على نمط لا يتمشى مع روائع المجتمع الباكستاني وتراثه الإسلامي وقضاياه السياسية ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية

وثمة أمر آخر دفع الباكستانيين إلى مراقبة تيارات الثقافة الغربية المتسربة إلى مجتمعهم مراقبة نبيهة. . . ذلك هو ازدياد الشعوب إيمانا بأن دعائم الفكر الغربي لم تستطع أن تثبت صلاحها لتوطيد الاستقرار في الغرب نفسه وفي المجتمع العالمي الأكبر

ومما فرض على حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان هذا التحفظ في نشاطهم التوجيهي. . الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية الطارئة التي جاءت في أعقاب التقسيم، وتعرض الدولة الباكستانية الجديدة إلى مشاكل إدارية واجتماعية نشأت عن طبيعة التكوين الجغ لهذه الدولة الناشئة، عن تشرد الملايين من المسلمين الهنود نتيجة للصراع الطائفي الذي صاحب التقسيم، ونزاع كشمير وقضايا الحدود ومياه الري المشتركة بين الهند والباكستان وما إلى ذلك من القضايا الفرعية التي لها صلة مباشرة بوضعية الباكستان الإقليمية

وفي مثل هذا الجو وجد الكتاب والشعراء الباكستانيون أنفسهم منساقين إلى معالجة المشاكل الوثيقة الصلة بحياتهم اليومية، وأن يكتبوا وينظموا في أمور وأحداث هي من صلب الأحوال والأوضاع التي تكتنف دولتهم ومجتمعهم الجديد

ومن الاتجاهات المتولدة عن هذا المناخ العقلي الجديد ما ألم باللغة الأوردية في السنوات الأخيرة من تطور. فالمعروف أن نشوء اللغة الأوردية جاء نتيجة لأثر اللغتين الفارسية والعربية على اللهجات الأصلية في شبه القارة الهندية (وعلى الأخص في السند والبنجاب) عندما خضعت للحكم الإسلامي، فأصبحت الفارسية والعربية بمثابة لغة الاشتقاق للغة الأوردية التي تطورت بدورها فوطدت لنفسها استقلالاً لغة يا سليماً

ويبدو أن اللغة الأوردية في الباكستان أخذت اليوم تقوم بنفس الدور الذي قامت به اللغتان العربية والفارسية منذ قرون. فبعد أن توطد الاستقلال الثقافي للغة الأوردية، وبعد أن تثبت الكيان لدولة الباكستان أخذت الأوردية تؤثر تأثيراً مباشراً في اللهجات المحلية في القطاعات التي تؤلف الأمة الباكستانية

فلقطاع البنجاب مثلاً تقليد عريق في الأدب مدون باللغة البنجابية - تقليد أصوله في التراث والثقافة الإسلامية التي عاش عليها شعب البنجاب حقبة من الزمن. وتمتاز اللغة البنجابية بغزارتها في الإنتاج الأدبي إجمالاً، في الشعر الغربي والأدب الشعبي على وجه الخصوص. وللمناطق الشمالية الغربية من الباكستان لغتها المحلية الخاصة - لغة البوشنو - وللتراث الإسلامي في تلك المناطق دعائم متينة

ولقد وجدنا أن تيارات الثقافة الغربية كانت قبل تقسيم شبه القارة الهندية تجتاح الحياة العقلية هناك، وأن ذيول التقسيم قد فرضت على المثقفين الباكستانيين رغبة ملحة في صيانة حياتهم العقلية من عناصر التشويش في التقليد والانسياق الأعمى، وفي توجيه هذه الحياة نحو مشاكل الساعة والظروف والأوضاع الطارئة. ولذلك لم يكن لهؤلاء المثقفين بد من أن يمعنوا في صيانة الدعائم التي يعيش عليها مجتمعهم - لا في مجال السياسة فحسب، بل في أصول الفكر وعناصر الثقافة العامة. فأخذوا يعملون في يقظة ونباهة على صيانة الثقافة الأوردية من التيارات الضارة التي كانت تتعرض لها - سواء جاءت هذه التيارات من الغرب البعيد أم من الهند القريبة. وهذه النزعة (القومية) في حاضر الثقافة الأوردية جاءت نتيجة لعوامل منطقية فرضتها طبيعة الأوضاع وفلسفة الحكم وأسس التطور الاجتماعي الذي يعمل أولو الأمر في الباكستان على تحقيقه بوحي من الإسلام وتراثه. ولذلك لم يجد حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان صعوبة في تعميمها - على صورتها الجديدة - في المناطق والقطاعات التي في لغاتها المحلية قسط واف من التراث الإسلامي - كما هو الحال في لغتي البنجاب والبوشنو

ولكي يضمن الباكستانيون اطراد النمو في نهضتهم اللغوية الجديدة - بعد أن اختاروا العكوف عن التأثر بالاستعارة المشوهة من ثقافات الهندوس والأوربيين والأمريكان - اتجهوا إلى تعزيز الروابط اللغوية والثقافية مع الشعوب الإسلامية الأخرى، وما رغبتهم في إحلال اللغة العربية مكانة رفيعة في الباكستان إلا تحقيقاً لهذا النحو وتعزيزاً لهذه النهضة

وكان من نتائج هذا التنظيم الفكري أن أخذ الأدب الأوردي في الباكستان ينمو ويزدهر فلا يقتصر على إحياء الذخائر القديمة في قالب مجدد أو أن يعالج الحياة الجديدة في إطار الإبداع الفني، بل أخذ يستمد الإيحاء من التراث الأدبي والفني العريق الكامن في الثقافات المحلية التي تعيش عليها الجماعات ذوات التقاليد الاجتماعية الزاهية التي تؤلف قطاعات الباكستان الشرقية والشمالية والغربية. فقد ترجمت عشرات من مقطوعات النثر والنظم من هذه اللغات المحلية إلى اللغة الأوردية، وأخذت الأوردية تتغذى بالصور الفنية الرقيقة التي خلدها شعراء الغزل والأدب الشعبي في البنجاب، وقصائد البطولة والرجولة التي يتميز بها شعراء البوشنو - بطولة مستمدة من طبيعة الإقليم وأسلوب الحياة الذي يسود في مناطق الحدود في الشمال والشمال الغربي

وعلى الرغم من تحفظ المثقفين الباكستانيين في تأثرهم بالتيارات الفكرية الأجنبية الخاطئة، فإن إقبالهم على ترجمة روائع الآداب العالمية تشهد لهم بحسن الاختيار وسلامة الذوق

أما طابع الأدب الأوردي الجديد فهو اليوم يتميز باتجاه عام لمعالجة شؤون الناس والحياة في جلد وتعمق، وفي إطار العناصر الفنية المكتسبة من هذا التمازج الجديد بين تراث الثقافة الأوردية والذخيرة الفنية من التقاليد الطريفة الزاهية للمناطق التي تؤلف المجتمع الباكستاني

وهذا الطابع الجدي ملموس في فن القصة القصيرة والقصة الطويلة، وفي الشعر والنقد الأدبي

وقد أتى على الأدب الأوردي حين كان العنصر الرئيسي المهمين على إنتاجه يكاد يقتصر على مشاكل اللاجئين والصراع الطائفي الذي عصف بالناس وبعواطفهم في ذيول التقسيم. ويبدو أن نجاح أولى الأمور والشعب في الباكستان في احتضان هؤلاء المنكوبين والتخفيف من محنتهم، قد ترك أثره في انطباعات الأدباء والشعراء. فأصبح تطرقهم إلى هذه المحنة أقل غزارة مما كان عليه قبل بضع سنوات

أما اليوم فقد تطور فن القصة وعلى الأخص القصة القصيرة في الباكستان على يد نفر من الكتاب الناشئين الذين نافسوا قدامى الكتاب منافسة شديدة. طمعوا الأدب الوردي بنوع سليم من القصة التي تحمل في ثناياها أشياء أهم من التسلية أو إثارة الغرائز

وفي مجال القصة الطويلة لا يختلف الباكستانيون عن غيرهم في معظم الشعوب الشرقية التي لم يرسخ فيها هذا النوع من الإنتاج، فالأدب الأوردي كثير من الآداب الشرقية العريقة ليس في تراثه ذخيرة من القصص الطويلة على النحو الذي عرفته الآداب الغريبة، ولا يزال إنتاج القصة الطويلة في الباكستان مبعثر الجهد ضئيل القيمة في الناحية العددية والفنية

أما الشعر فقد أخذ يقتدي بألوان العروض والمواضيع التي تعالج عادة في الشعر الأوردي الحديث وأخذ الغزل القديم يفقد مكان الصدارة التي كان يحتلها في الحياة الأدبية وبعض الشعراء الناشئون ستطرقون إلى الغزل التقليدي في مستهل حياتهم الأدبية إلا أن قرضهم للشعر يتطور فيها بعد ويتخذ طابع التجديد في أبواب العروض وفي مواضيع النظم وفي الصور الفنية التي تحتويها العقائد

أما أدب المقال والنقد الأدبي والدراسات التحليلية فينزعهما ثلاثة من فطاحل الأدباء: مولانا عبد الجق، ومولانا سيد سليمان ندفي، وميرزا محمد سعيد، ويشاركهم في ذلك الأديب الكبير الشيخ إكرام الذي يتوخى في دراساته وتحليله توجيه الإنتاج الفكري في باكستان ليعزز المبادئ والأهداف التي تكتنف هذه الدولة الناشئة بتوطيدها في ذلك الجزء من العالم الإسلامي

ويضاف إلى هؤلاء نفر من الجامعيين في معاهد (البنجاب) (والسند) و (دكما) و (لاهور) المنهمكين في تزويد المكتبة الأوردية بالبحوث والدراسات العلمية في مختلف ألوان الثقافة الجامعية

ومدارس النقد الأدبي في الباكستان تدين بالاجتهاد لطائفة من الكتاب والشعراء الذين استهلوا حياتهم الأدبية بقرض الشعر أو إنشاء المقالات ثم ما لبثوا أن انصرفوا عن ذلك إلى معالجة النقد لا لأنهم فشلوا في الإبداع الفني فلأكثرهم إنتاج فني مرموق المكانة ولكن لرغبتهم في تخصيص اجتهادهم لخدمة النهضة الثقافية في الباكستان وتوجيه الموهوبين من كتاب الجيل الجديد وشعرائه لبناء نهضة أدبية سليمة الدعائم عميقة الفكر رفيعة في إبداعها الفني

وقد أثمر هذا الجهد نتائج طيبة، فاستطاع الشعر مثلاً أن يتخلص من رخاوة مدرسة (طاغور) وابتعادها عن شؤون الساعة وانسياقها في مشاعر عواطف صلتها بالأدب الحي واهنة ضعيفة. ولم تقتصر هذه الثورة (الشعرية) على موضوع القصيد بل تعدته9 إلى فن العروض، فأنطلق الشعراء في استنباط بحور جديدة على نحو ما يمارسه بعض الشعراء المحدثين في حاضر الأدب العربي، وازداد النظم بالشعر المنثور إلا أن كثير من أئمة العروض في الأدب الأوردي لا يزالون يلجئون إلى جزالة اللفظ ورصانة التعبير ليسبغوا على الشعر لوناً من القوة. وللشعر الرمزي في الباكستان أتباع ومريدون يغرمون بالإيجاز في الكلم والبراعة في اختياره على نحو ما تتطلبه الرمزية

وقد تزعم الأديب البنغالي الكبير (نصر الإسلام) الثورة على مدرسة طاغور، فقد لمس فيها رخاوة وخنوعاً لا يتمشى مع مطالب الحياة العقلية الإسلامية، ودعا نصر الإسلام إلى أن تكون صلى الأدب بالحياة السياسية والاجتماعية وثيقة متينة، ودواوين هذا الشاعر البنغالي تطفح بالقوة والنظرة العميقة فضلاً عن جزالة اللفظ ورقة الموسيقى ومهارة الصياغة وبلاغة التعبير

وفي الشعراء المجددين في حاضر الأدب الباكستاني شاب يجمع في القصيد بين الروعة الفنية والنظرة الواقعية للصور والمواضيع التي يعالجها في شعره - هذا الشاعر هو (عبد الحسين) الذي يمتاز نظمه بالتعابير المستحدثة والنغمة الرقيقة والبلاغة المبسطة التي قال عنها ابن المقفع (إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها)

والتجديد في الأدب الأوردي في شرق الباكستان وغربيها لم يتعمد القضاء على تراث الماضي والذخيرة النافعة الكامنة فيه، بل إن النهضة الفكرية إجمالاً توخت استيحاء التراث القديم والكشف عن نفائسه. وهذا الاتجاه ملموس في البنغال الشرقية أكثر منه في المناطق الأخرى

وحركة بعث الذخائر الأدبية القديمة لا يقتصر على تراث الإسلام الذي اندثر تحت سيادة الهندوس الثقافية في تلك البقاع الإسلامية بل شمل أكثر نفائس الأدب الشعبي الذي سبق انتشار الإسلام. وقد تخطى هذا الإحياء حدود نشر القديم وتبويبه وتحريره في لغة الجيل فطعمت اللغة الأوردية بأكثر من ألفين وخمسمائة كلمة جديدة من مشتقات عربية وفارسية وجدت سبيلها إلى الأدب الشعبي القديم عن طريق الإسلام، وارتأى حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان إحياءها وتغذية النهضة الأدبية بها

وإذا جاز للباحث عن حاضر هذه النهضة الثقافية في الباكستان أن يحصر أسسها في عنصر متميز، فإن هذا العنصر هو ازدياد الثقة بالنفس والشعور بالمسئولية في مجتمع اختار التراث الإسلامي نبراساً له واتخذ معاول العلم الحديث أسلوباً للتعبير عنه ولتعزيزه وتوطيده

وليس أدعي إلى الإيمان بمستقبل الثقافة الأوردية في الباكستان من أن يكون نبراسها هذا التراث العتيد وأن تكون معاولها واتجاهاتها متماشية مع مطالب الجيل الجديد

نيويورك

عمر حليق