مجلة الرسالة/العدد 1000/بمناسبة العدد الألفي للرسالة
مجلة الرسالة/العدد 1000/بمناسبة العدد الألفي للرسالة
الرسالة في حياة الأدب
للأستاذ حامد حفني داود
في أوائل القرن التاسع عشر تخلصت مصر من نير العصرين المملوكي والتركي، وانسلخت من حياة قاسية انحط فيها الأدب إلى الدرك الأسفل، واستقبلت عهدا جديدا في تاريخ أسس دعائمه على الكبير.
وزخر العهد الجديد بالإصلاحات الكثيرة التي تناولت مرافق الحياة في مصر، وأخذ ركب الحياة يمضي في ثوبه الجديد. ولكن الحياة الأدبية في ذلك الوقت لم تنل حظا كبيرا. فعلى الرغم من الإصلاحات العلمية وعلى الرغم من التعليم المدني الذي بعثه محمد علي في فجر النهضة المصرية فإن الأدب المصري كان يعاني لونا من التفكك وضربا من الجمود.
وقد شاهد العهد الجديد تغييرا كاملا في الحياتين السياسية والاجتماعية، ولكن الشجرة الأدبية لم تؤت أكلها أو ترسل ثمارها بالسرعة التي كنا ننتظرها، لأن سياسة التعليم في ذلك الوقت وبالتالي حياة الأدب لم تكن جميعها منبعثة من منبعها الطبيعي، وإنما كانت إصلاحات عامة يصدرها الحكام وحدهم، ويحس لها العلماء والأدباء ليسيروا سيرا مدرسيا بحتا لا يتجاوز جدران المدرسة أو يعدو قوانين التعليم العام. أما الأدباء المطبوعون والشعراء الموهوبون الذين يستطيعون أن يعبروا عن ميولهم وميول الشعب ويرسمون حياتهم وحياة الشعب؟ والذين كان في مكنتهم أن يضعوا لبنة متينة تمثل مرحلة من مراحل الحياة الأدبية في ذلك الوقت - فلم يفتح الباب أمامهم ولم يعطوا الحرية الكافية ليصوروا الأدب المصري الرفيع كما ينبغي.
وما كاد عقرب الزمن يطوي وراءه نصف قرن بعد محمد علي حتى اشتد الفارق بين الأدب الشعبي والأدب المدرسي. ثم أخذ الزمن يمضي وأخذت الأحداث تتقلب، وعاشت المدرسة في بيئة وعاش المجتمع في بيئة أخرى وازدادت الألسنة تبلبلا حين جمدت الثقافات الأدبية في موطن واحد هو المدرسة، استعصت على الحياة وامتنعت عن التفاعل بها.
وتقدم الزمن ووقعت (الثورة العرابية) وتدخلت أصابع الأجنبي لكبحها وقتلها. وشاء الله له أن تموت وتقبر في مهدها، ولكن جذورها النفسية وآثارها الأدبية لم تمت، فقد نبهت العقول الراكدة والنفوس النائمة إلى الواجب الوطني، في الوقت الذي شعرت الأمة بضرورة التقريب بين الطبقات، وحثت على محو الفوارق الاجتماعية التي لا يقرها الإسلام ولا تعترف بها المبادئ الإنسانية.
وقد كان لهذا الشعور العميق الذي شاع بين طبقات الشعب وعم أرجاء البلاد بعض الأثر في حياة الأدب. وكثيرا ما تكون الأحداث السياسية والثورات الوطنية مادة خصبة للبناء الأدبي ووقودا صالحا يشمل جذوة الحياة الأدبية بعد خمودها الطويل. وقد ساعد على ذلك أن لاقت الثورة الأولى نفوسا صافية وقلوبا واعية وأرواحا أدبية وثابة تتأثر بما حولها وتعبر عن آلام الشعب وآماله. ثم أنعكس شعاع هذه الثورة في الحياة الأدبية: انعكس في الخطابة فكان عبد الله النديم وأترابه، وغزا دولة الشعر فكان البارودي وكانت مدرسته وهي أولى مدارس الشعر المعترف بها في عصر النهضة، ونال الحياة الفكرية ما نال الخطابة والشعر من تجديد، وظهر ذلك واضحا في شخصية الشيخ محمد عبده وأستاذه الشريف جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق ومجدد القرن الرابع عشر.
ولم يكد يمضي الزمن بالثورة العرابية ولم تكد تأخذ مكانها في سجل التاريخ حتى تمخضت عن مولود هو (ثورة 1919) وقد أعادت هذه الثورة إلى الحياة المصرية سالف رونقها وأجرت في شرايينها دماء الثورة الأولى والدعوة إلى المثل. وهكذا تقدمت الحياة المصرية خطوة إلى الأمام بعد الثورة الثانية. وارتقى التعليم المدني تبعا لذلك فغادرة ميدان المدرسة إلى ميدان أرقى وأجل هو الجامعة المصرية القديمة. وقد كان الغرض الأول من إنشائها تثبيت مكانة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية.
ومنذ ربع قرن تطورت الجامعة المصرية القديمة إلى وضعها الجديد الذي بدأت خطوطه الأولى في جامعة فؤاد الأول. ولكن الحياة الأدبية الرفيعة التي كانت تدب في مصر في ذلك الوقت ظلت مختنقة بين جدران الجامعة. أما المجتمع الخارجي الذي كان يتمثل في النوادي والمجالس الأدبية - فلم يكن مقياسا صحيحا يمثل ما اعتور الأدب من تطور في ذلك الوقت، وإن كان في ذاته يعتبر امتدادا طبيعيا لنوع من الحياة الأدبية الشعبية في تاريخ مصر. ولعلك تعجب أن نضطرب هذا التطور بين الجامعة والمجتمع وأن تختلف البيئتان في رسم هذا الاتجاه وتحديد ذلك النما!!
كان ذلك منذ ربع قرن حين كانت الجامعة وكان الجامعيون يعيشون بين جدران الجامعة ويدرسون الأدب للجامعة ولأنفسهم قبل أن يدرسوه لخدمة المجتمع وأهله أو قبل أن يتحملوا عبء هذه الرسالة ويكلفوا أنفسهم مشقة عرضها على المجتمع في صورتها الجديدة , وهي الصورة التي كانت تساير الزمن ونساير الحياة الجديدة الناهضة في العالم كله.
أعنى: كانت هناك حلقة مفقودة بين (الأدب الرفيع) في الجامعة و (الأدب الشعبي) في المجتمع. واستمرت هذه الفجوة السحيقة والهوة الضخمة بين الأدبيين ردحا من الزمن أعني خلالها الأدب المصري لونا من التفكك وضربا من الجمود الذي ذكرناه.
ويوم تفقد الحلقة بين الأدب الرفيع وأدب الشعب تقع الطامة الكبرى على المجتمع وعلى القومية وعلى الدين وتصبح الحياة ضرباً من الترهات والتفكك والحواجز السخيفة التي لا تحتمل، وتصير الأمة أشبه بأمتين متباينتين متنافرتين في أمة واحدة.
وقد كان من رحمة الله على مصر أن هذه الفترة لم تطل حين قيض لها بالأمس جماعة من الأدباء حملوا لواء الحياة الأدبية. ونقد هؤلاء صفوف الأدب وأخذوا يقربون بين الأدب الرفيع وأدب الشعب ويرسمون من المثالين مثالا واحدا صادقا يصور التطور الصحيح ويتجانس مع الزمان والمكان.
وقد كان الأستاذ الزيات في مقدمة هؤلاء النفر الذين قربوا الخطى ووحدوا الصوف ووسعوا الميدان الأدبي وأفسحوا المجال الصحفي للمطبوعين المقبورين والموهوبين المنسيبين. كما كان في رسالته عون الشباب المتوثب المكافح المناضل العامل على رفع القواعد من المدرسة الأدبية المصرية. وهو من هؤلاء النفر الذين يقدرون الشيء لذاته. فليس أكرم الأدباء في نظره أشهر ولا أسنهم ولا أغناهم ولا أعظمهم جاها وشأنا، وليس أتفههم عنده أخملهم ولا أصغرهم ولا أفقرهم ولا أحقرهم مكانة ورتبة. إنما أكرمهم عنده بأدبهم وأعلمهم. وهكذا لم يشأ الأستاذ الزيات أن يتخذ من المقاييس اللاإرادية مقياسا يقيس به الأدباء والعلماء لقد أبى الأستاذ في رسالته إلا أن يكون الناقد الحصيف الذي يحسن الاختبار ويصل إلى الأعماق في النقد، ذلك لأنه يأبى إلا أن يجعل من الإرادة والإرادة وحدها مقياسه النزيه. أما هذه المقاييس التي تقوم على صفات عريضة لاحظ للإنسان فيها ولا قدرة له على توجيهها فهي مقاييس زائفة تافهة في نظرة لأنها لا تمثل الحقيقة المجردة ولا نستقيم مع النقد النزيه، ويماثل ذلك قوله تعالى في محكم كتابه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالتقوى وأمثالها جانب إداري في حياة الإنسان. ولذلك صح أن تعتبر مقياساً التفاضل الأخروي.
وفي ضوء هذا النهج السليم قرب الزيات بين الحياتين ووحد بين الأدبين حين جعل من الرسالة منبراً عاماً يعتليه الأدباء لذواتهم وشخصياتهم لا لمناصبهم ومراتبهم، يعتلونه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وميولهم ونزعاتهم يعرضون ما لديهم من بضاعة الأدب والعلم والفن. ثم يطرحون ذلك كله أمام القراء الذين أقبلوا على الرسالة يتدافعون ويتزاحمون حين أدهشهم جلالها وأعجبهم اتساع صدرها وتمثيلها لجوانب الحياة الأدبية كلها. والقراء هم الحكومة النزيهة بين الرسالة وكتابها. فهم وحدهم الذين يستطيعون بإخلاص أن يسجلون ذلك في بريدهم الأدبي. وهم وحدهم يستطيعون أن يعلنوا ويثبتوا للأصلح (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وهكذا ظلت (الرسالة والرواية) عشرين عاما منذ حرجت إلى الناس تحمل عددها الأول وهي تؤدي في صدق وأمانة رسالة الحرية الكاملة في الأدب العربي المصري الحديث ولا تزال تؤدي هذه الرسالة إلى اليوم وستؤديها ما شاء الله لها أن تبقى. وهي في ذلك كله تعرض على الملأ الكتاب الأحرار المخلصين للحقائق المجردة، وترسم أمام الناس صورا صادقة لتطور المقالة الأدبية والشعر الحديث والقصة الحديثة. وهي إلى جانب هذا وذاك تعتبر سجلا لطيفا يصور التاريخ الأدبي المصري وما يعتريه من نماء وتطور أسبوعا فأسبوعا. ولولا عنصر الصدق الذي امتازت به في أداء رسالة الأدب لعصفت بها يد الزمان ولحطمتها معاطب الحدثان.
نعم إنها ظلت تناضل مع الزمن وتصورا لحياة الأدبية المصرية في غير تكلف ولا تعسف. كما استطاعت بفضل عناصر: الصدق والدقة والإحاطة أن تصبح مرآة عامة تنعكس عليها آداب مصر والعراق وآداب الأقطار الشقيقة، وأن تستجيب لذلك كله لما وجدت من القراء في الأقطار الشقيقة من يمد لها الطريق ويعينها على أداء رسالة العربية وآدابها. فالرسالة - في نظر المنهج العلمي الحديث - هي الأدب الحي المعاصر. . . والأدب الحي المعاصر هو الرسالة:
واليوم شاءت الأقدار أن تحتفل الرسالة بعددها الألفي، وأن تختم به عهدا قديما في حياة مصر، وأن تفتتح به عهدا جديدا حبيبا إلى النفوس، وهو عهد الحرية والفضيلة، عهد العدالة التي حطمت صخرة الطغيان وخلصت مصر من ربقة الظلم والإثم والبهتان. ولعل من أجمل الصدف وأحلاها في حياة الأقدار أن تفتتح الرسالة الألف الثانية من أعدادها في مفتتح هذا العهد الجديد. ذلك العهد الذي لا تزال الأعناق نشرئب إليه احتراما وتعظيما وتحملق العيون فيه إكبارا وإجلالا وتكريما، وقد خشعت له أصوات المردة وارتفعت فيه صيحات الحق، بعد أن ظل الناس زمنا يجأرون بالشكوى فلا يلتفت إليهم ويهيبون بالإصلاح فتداس حقوقهم وتحطم آمالهم.
ما أجمل أن تفتتح الرسالة ألفها الثاني في ذلك العهد الجديد وما أحراها أن تسهم فيه بنصيبها في الإصلاح والتطهير والتجديد، وأن تكتب عن ذلك كله وقد حمل صاحبها لواء الكتابة الإنشائية عشرين عاما كاملة. فما كان الأدب الحر في أي عصر إلا سلاحا ماضيا يدافع عن الأبطال المجاهدين وسيفا مصلتاً فوق رقاب الطغاة المتمردين. ألا إن حاجة الأمم إلى الكتاب وعذبات الأقلام ليس بأقل من حاجتها إلى القادة والقواد العظام.
حامد حفني داود