مجلة الرسالة/العدد 100/لوكريسيا بورجيا
مجلة الرسالة/العدد 100/لوكريسيا بورجيا
2 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أقامت لوكريسيا في رومة مدى حين، أداة لمشاريع أبيها البابا وأخيها شيزاري، ومستودعا لدسائس البلاط الروماني؛ وكانت تشعر أنها في هذا المعترك تعيش في نوع من الأسر؛ وقد قالت فيما بعد: (إن رومة كانت سجني). وكان زواجها من جان سفورزا كما رأينا، لبواعث سياسية ترجع إلى رغبة اسكندر السادس في تقوية التحالف بينه وبين لودفيكو سفورزا طاغية ميلانو وعم جان. ولكن لودفيكو لم يلبث أن ارتد عن هذا التحالف إلى محالفة شارل الثامن ملك فرنسا وتحريضه على غزو إيطاليا، والاستيلاء على مملكة نابل اعتمادا على زعم قديم بوراثة عرشها. عندئذ رأى البابا أنه لم يبق حكمة لبقاء هذا الزواج، فاعتزم إلغاءه حتى يستطيع بعد أن تسترد لوكريسيا حريتها أن يتخذها أداة لعقد صفقة أخرى.
ولكن جان سفورزا لم يقبل الانفصال عن زوجته الحسناء طوعا، فهدده شيرازي بالقتل وفر إلى بيزارو؛ ولجأت لوكريسيا حزينة باكية إلى دير القديس سكستوس لأنا كانت تحب زوجها؛ وعمد البابا لإبطال الزواج إلى إجراء مدهش، فانتدب لجنة مؤلفة من كردينالين لتهيئة أسبابه، ورأى الحبران أن يسندا الفسخ إلى أن لوكريسيا ما تزال بكرا عذراء، وأن زوجها جان سفورزا كان عنينا ولم يكن رجلا كاملا؛ وأرغم البابا ابنته على أن توقع إقرارا بأنها ما تزال بكرا عذراء كيوم مولدها. وعلى ذلك أعلن فسخ الزواج؛ ودهشت رومة، ودهشت إيطاليا كلها لهذا الزعم، لأن جان سفورزا كان فتى متين البنية، وكان أرمل توفيت عنه زوجته الأولى بعد أن رزق منها طفلة. وحاول جان أن يثور على هذا القرار وأن يقاوم، ولكنه أذعن لنصح عمه لودفيكو وعمه الآخر الكردينال اسكاينو وكيل الكرسي الرسولي، وارتضى مصيره صاغرا؛ وكان ذلك في ديسمبر سنة 1497؛ وكانت لوكريسيا عندئذ في عامها السابع عشر. وهنا يصيح مؤرخ معاصر هو (جيشا ردينو): (لم يحتمل البابا أن ينافسه في ابنته أحد حتى زوجها!). وثار حول لوكريسيا سيل من أروع الإشاعات والأقاويل.
وحدث في ذلك الحين أيضاً حادث اهتزت له رومة، هو مقتل جان دوق جانديا ابن البابا؛ وكان إلى جانب الطلاق مستقى خصبا لهذه الإشاعات الغريبة التي تصور الأسرة البابوية عرينا من الضواري التي جردت من كل عاطفة بشرية. وكان دوق جانديا أكبر أبناء اسكندر السادس، في الرابعة والعشرين من عمره، وأخاه شيزاري في الحادية والعشرين؛ وكان البابا يعتبر ابنه البكر عميد أسرته من بعده، ويرشحه دون شيزاري لكل مشاريعه السياسية العظيمة. أما شيزاري فقد زجه أبوه إلى الحياة الكنسية، ورقاه بسرعة كردينالاً لبلنسية؛ ولكن شيزاري كان بطبيعته الوثابة المغامرة، وأطماعه الدنيوية البعيدة يزهد في الحياة الكنسية ويتلمس الفرار منها؛ وكان يرى في أخيه الأكبر دوق جانديا حائلا دون أطماعه. ففي ربيع سنة 1497، كان البابا قد عاد إلى التفاهم مع مملكة نابل (نابولي) واتفق مع ملكها الجديد فردريك الأرجوني على أن يتلقى التاج من قبل الكرسي الرسولي، وأن يقطع بعض ولاياتها الجنوبية لدوق جانديا ولد البابا؛ وانتدب البابا ولديه جان وشيزاري للسفر إلى نابل، الأول ليتسلم إقطاعه الجديد، والثاني ليمثله في تتويج ملك نابل. وفي مساء 14 يونيه، قبيل رحيلهما، أقامت لهما والدتهما فانوزا مأدبة عشاء حافلة في قصرها المتواضع؛ وبعد العشاء انصرف دوق جانديا مع أخيه شيزاري، ثم افترق الاثنان في منتصف الطريق، وسار الدوق مع تابع له واختفى في جوف الظلام؛ ولم يعرف قط ما حدث له بعد ذلك؛ ولكن تابعه وجده ملقى في صباح اليوم التالي على شاطئ التقيري (التيبر) جثة هامدة، وانتشلت جثة الدوق بعد ذلك من النهر، وقد أثخنت طعنا، ولم يكشف سر الجريمة قط.
وطار الخبر في رومة بأن دوق جانديا قد قتل، وحزن البابا لمصرع ولده الأكبر أيما حزن، ولبث يذرف الدمع الثخين مدى يومين وهو معتكف في غرفته لا يتذوق طعاما ولا يرى أحدا. من اجترأ على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء؟ ولأي الأسباب؟ كثرت في ذلك الظنون والريب، وتنوعت التهم والبواعث؛ فقيل إن الجريمة من تدبير جان سفورزا انتقاما للتفريق بينه وبين زوجته، وقيل إنها من تدبير عمه الكردينال اسكانيو انتقاما لشرف الأسرة، وقيل إنها من تدبير آل أورسيني ألد خصوم البابا؛ ولكن هذه التهم لم تلق كبير سند؛ أما أولئك الذين يعرفون آل بورجيا فقد ألقوا تبعة الجريمة على شيزاري بورجيا نفسه.
أجل، قتل شيزاري أخاه جان دوق جانديا لأنه يفوز دونه بعطف أبيه، ويخصه أبوه دونه بمشاريعه السياسية، ويعتبره لسنه زعيم الأسرة. وشيزاري لا يطيق أن يرى دون أطماعه عقبة إلا ويسحقها. ولذلك التعليل الظاهر من الوجاهة. ولكن الرواية تذهب إلى أبعد من ذلك، فتقول إن شيزاري قتل أخاه لأنه ينافسه في غرام أختهما لوكريسيا!
أرأيت كيف تميل الرواية دائما إلى تصوير هذا الغادة الفاتنة آلهة للحب الأثيم والفجور في أروع مظاهره؟ كانت لوكريسيا خليلة أبيها، خليلة أخويها! وكان ثمة معارك خفية تضطرم في ذلك العرين بين عباد الجمال والهوى المحرم؛ وكان جان سفورزا زوج لوكريسيا اشد الناس تأييدا لهذه التهم، يؤكد لزملائه الأمراء ولصحبه وللناس جميعا أنه إذا كان البابا قد عمل على تمزيق العلائق التي تربطه بزوجته لوكريسيا، فذلك بسبب الهوى الأثيم الذي تبثه إلى أبيها، وإنه إذا كان شيزاري قد دبر مقتل أخيه وألقاه في التفيري، فذلك بسبب المنافسة بينهما على حب لوكريسيا. وكانت الفضيحة رائعة، والتهم أروع، تجوب إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها، وتجوب قصور أوربا كلها! ويتناولها الرواة والسفراء والشعراء بالتدوين نثرا ونظما باعتبارها من أهم حوادث العصر وأعجب السير.
وهنا يرى بعض النقدة المحدثين الذين يميلون إلى تبرئة لوكريسيا من هذه التهم الشنيعة، أن هذه الخصومة الزوجية هي أصل هذه التهم وهي روحها، وأن هذه التهم قد تلقاها المعاصرون من الأفواه الخصيمة، ثم زادوا عليها وبالغوا في تصويرها، ثم تناقلتها أجيال الخلف، واستمرت على كر العصور مستقى خصبا للشعراء وكتاب القصص.
لم تمض أشهر قلائل حتى وضع مشروع جديد لزواج لوكريسيا، وكان اسكندر السادس يتجه يومئذ نحو مملكة نابل، ويلتمس وسيلة لبسط نفوذه عليها؛ وكان يرى هذه الوسيلة في تزويج ابنه شيزاري من ابنة فردريك ملك نابل؛ ولكن ملك نابل أبى أني يزوج ابنته (لقس ابن قس) بيد أنه ارتضى أن يتخذ ابنة البابا زوجة لألفونسو ولد أخيه غير الشرعي، وعقد الزواج الجديد في قصر الفاتيكان في يولية سنة 1498 وكان الزوج الجديد فتى حديثا لا يجاوز السابعة عشرة؛ وكان جميلا، حلو الشمائل، تصفه الرواية المعاصرة بأنه أجمل فتى في رومة؛ وكانت لوكريسيا عندئذ في الثامنة عشرة؛ ومنح الفونسو دوقية بيزيليا، وغدت لوكريسيا دوقة بيزيليا؛ واشترط أن يقيم الفونسو مدى عام في رومة، وألا تغادر لوكريسيا رومة إلا بعد وفاة أبيها؛ وشغفت لوكريسيا بزوجها الفتى النضر، وعاشت مدى حين في نوع من السعادة والسلام.
ولكن هذه السكينة لم يطل أمدها. ذلك أن اسكندر السادس ألغى فرصة جديدة للعمل السياسي؛ وكان ملك فرنسا الجديد لويس الثاني عشر يتوق إلى التخلص من زوجته جان دوقة بري، والتزوج من الدوقة حنه أرملة سلفه شارل الثامن لكي يستطيع أن يضم إمارتها بريطانيا إلى مملكته؛ وكان لابد له لإجراء الطلاق من مرسوم بابوي؛ فرأى اسكندر السادس أن يجيز هذه الرغبة، وبعث ولده شيزاري إلى فرنسا، ليلقي صيغة الطلاق، فاستقبله ملك فرنسا أعظم استقبال، وأنعم عليه بلقب دوق فالنتنوا؛ وعندئذ خلع شيزاري ثوبه الديني، وزوجه لويس الثاني عشر من أميرة فرنسية هي شارلوت دالبير أخت ملك نافار؛ وبذلك وثقت أواصر التحالف بين فرنسا والفاتيكان، وكلاهما خصم لمملكة نابل وكلاهما يدعي فيها حقوقا.
وهنا فكر شيزاري في التخلص من زوج أخته الجديد إذ غدا يراه عقبة في سبيل مشاريعه؛ وشعر الفونسو دوق بيزيليا بحرج مركزه في الفاتيكان إزاء تطورات الحوادث على هذا النحو، وخشى بالأخص غدر شيزاري وعدوانه، ففر من رومة والتجأ إلى ال كولونا في جينازارو، تاركا زوجه الفتية حاملا تبكي فراقه؛ واستمر يكاتب لوكريسيا ويتوسل إليها أن تلحق به، ولوكريسيا مستسلمة إلى حزنها لا تجرؤ على تلبية دعوته. فلما رأى البابا يأس ابنته، فكر في وسيلة للجمع بينها وبين زوجها، لا تؤذي كرامته في نفس الوقت، فعين ابنته حاكمة لسبوليتو؛ وسافرت لوكريسيا إلى سبوليتو مع أخيها الأصغر جوفروا؛ وهنالك لحق بها زوجها؛ وأقاما هناك مدى حين حتى هدأت العاصفة؛ ثم عادا معا إلى رومة؛ ولم تمض على عودتهما أيام قلائل حتى وضعت لوكريسيا غلاما سمى رودريجو باسم جده البابا رودريجو بورجيا (31 أكتوبر سنة 1499).
واحتفل البابا بمولد حفيده في حفلات شائقة، وغدت لوكريسيا كأنها ملكة رومة يحف بها الحب والعطف والإجلال أينما حلت؛ وأقطعها والدها حكم عدة مدن وجهات من أملاك الكرسي الرسولي.
ولكن القدر المروع كان جاثما يتربص. ففي مساء 15 يوليه سنة 1500، بينما كان الفونسو دي بيزيليا زوج لوكريسيا يصعد درج الفاتيكان المفضي إلى الجناح البابوي، إذ فاجأه عدة رجال مقنعين وأثخنوه طعنا بالخناجر حتى خر صريعا يتخبط في دمه؛ ثم فر الجناة دون أن يراهم أو يظفر بأثرهم أحد.
ولكن الفونسو لم يمت على الأثر؛ بل استطاع أن يجرجر نفسه حتى الجناح البابوي؛ وهناك تلقاه البابا ولوكريسيا في دهشة وانزعاج؛ وأغمى على لوكريسيا وأصابتها الحمى؛ وحمل الجريح إلى إحدى القاعات، ولزمته زوجته تعني به، وأقام البابا حرسا خاصا على غرفته؛ وأخذ يتماثل إلى الشفاء سريعا.
ولم يك ثمة ريب في مدبر هذه الجريمة الشنعاء؛ فقد كان شيزاري؛ وكان يرى بعد أن رزقت أخته بهذا الغلام، أنه لا سبيل إلى فسخ زواجها، وأنه لا سبيل إلى التخلص من الفونسو غير الجريمة، ولما لم تحقق هذه الجريمة الأولى غرضها، قرر شيزاري أن يعيد الكرة، فدخل ذات يوم إلى حيث يرقد الجريح ومعه ميشليتو وصيفه وساعده الأيمن في مشاريعه السوداء؛ وأبعد أخته عن غرفة زوجها، وأمر ميشليتو فأجهز على الفتى الجريح خنقا.
هكذا يقول لنا بور كارت مدير التشريفات البابوية في مذكراته. بيد أن شيزاري لم ينكر الجريمة بعد أن حققت غايتها؛ وكان يقول إن الفونسو كان يزمع قتله فسبقه هو إلى القصاص. ولم يفه البابا بكلمة احتجاج أو تذمر خشية بطش ولده الأثيم.
أما لوكريسيا الزوجة الثاكل، والأم الأرمل، فلم تستطع البقاء في رومة، وذهبت بإذن أبيها تجرجر أذيال الحزن والعزلة في قصر نيبي على مقربة من سبوليتو، وهنالك فعل النسيان فعله سريعا، فلم يمض عام حتى استعادت الأرمل الفتية كل بهجتها، وعادت مسرعة إلى رومة تخوض غمار هذه الحياة العنيفة الباهرة التي كأنما خلقت لها.
وفي يوليه سنة 1501، غادر اسكندر السادس رومة على رأس حملة عسكرية ليتم الاستيلاء على بعض المناطق والحصون المجاورة للولايات البابوية والتي يزعم للكنيسة حقا في انتزاعها، وهنا وقع حادث فريد من نوعه ومغزاه. ذلك أن اسكندر السادس انتدب ابنته لوكريسيا للقيام بالشؤون البابوية أثناء غيابه، ويقول لنا بور كارت إن قداسته (عهد بالقصر كله، وتصريف الأمور الجارية إلى ابنته السيدة لوكريسيا، وفوض إليها أن تفتح كل الرسائل التي ترد لقداسته، وأن تستعين في المسائل الصعبة برأي كردينال لشبونه) وفي ذلك ما يدل على تقدير خاص من البابا لمواهب ابنته ومقدرتها على الاضطلاع بمهام الأمور. والواقع أن لوكريسيا بورجيا كانت فتاة وافرة العقل وافرة الذكاء، تتبع سير الشؤون العامة بدقة، وتفهم بالأخص آراء والدها واتجاهاته المختلفة؛ وكانت عند ثقة أبيها حيث قامت بمهمتها زهاء شهرين بفطنة وذكاء.
ثم عاد البابا إلى رومة، واستأنف بلاط الفاتيكان حياة البذخ والحفلات الشائقة، وكانت لوكريسيا يومئذ قد ناهزت عامها الحادي والعشرين، واكتملت زهرة شبابها وجمالها.
وهنا، وفي تلك الفترة، تقدم لنا الروايات المعاصرة، أغرب الصور وأروعها عن تلك الحياة الأثيمة الفاجرة التي كانت تنتظم وراء جدران الفاتيكان، وتخوض لوكريسيا بورجيا غمارها إلى جانب أبيها الحبر المتهتك وأخيها الطاغية الفاجر.
ومن ذلك تلك الحفلة الراقصة الشهيرة التي تفيض في تفاصيلها روايات العصر وتسميها (مرقص الكستنة) والتي كانت مسرحا لأسفل ما يتصور الذهن الخليع من مناظر التهتك والفحش.
ويقول لنا بور كارت في مذكراته إن تلك الحفلة الشهيرة كانت في مساء 31 أكتوبر سنة 1501؛ وفيه استقدم البابا خمسين غانية من أجمل نساء رومة؛ ومثلن جميعا عاريات أمام البابا وابنه شيزاري وابنته لوكريسيا، وقمن بأفحش المناظر الراقصة والجنسية التي يمكن تصورها؛ ومن ذلك أنهن كن يركضن عاريات على أربع وراء حبات الكستنة التي كان يلقيها البابا وابنه وابنته تحت الأضواء الساطعة، وتعطى الجوائز للسابقات، كما تعطى لأبرعهن في عرض افحش المناظر والأوضاع.
هذا ما يرويه بور كارت مدير التشريفات البابوية في مذكراته الشهيرة بإفاضة مثيرة تحمر لها الوجوه وتندى الجباه حياء وخجلا، وهذا ما ترويه معظم الروايات والتواريخ المعاصرة مع فرق في بعض الوقائع والتفاصيل.
كانت هذه الحفلات والمناظر الشائنة تتكرر وراء جدران الجناح البابوي في الفاتيكان؛ في تلك الأبهاء الشهيرة التي أنشأها اسكندر السادس، وأفاض عليها أقطاب الفنانين والمصورين أروع بدائعهم، والتي ما زالت تعرف حتى اليوم (بجناح آل بورجيا) وتعرض لأنظار السائح المتجول، فيحمله التأمل والخيال إلى تلك الأيام والذكريات المرحة البعيدة.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي