مجلة الرسالة/العدد 1/رسالة الأديب في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1/رسالة الأديب في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1933



بقلم الأديب عبد الحميد يونس

وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل وقفة طويلة في كتابه (الأبطال) عند البطل في صورة الأديب وعرفه بأنه (. . الرجل الذي يردد لنا نفسه الملهمة، وأقول الملهمة لأن ما نسميه بالعبقرية أو الصدق أو الموهبة أو صفة البطولة التي لا نجد لها اسماً خليقاً بها تدل على أن الأديب هو الذي يعيش في أعماق الأشياء؛ في الحقيقي، في الإلهي؛ في الخالد الذي يوجد أبداً والذي لا تراه الدهماء، لأنه يختفي وراء الزائل الحقير دائماً أبداً. الأديب هو الذي يذيع هذا الخفي للناس بالقول أو بالعمل؛ وحياته إذن قطعة من قلب الطبيعة الذي لا يعتوره الفناء) ثم استعان بآراء الفيلسوف الألماني (فخته) الذي أذاع سلسلة محاضرات في موضوع (طبيعة الرجل الأديب) قال فيها أن كل الأعمال التي يعملها الناس والأشياء التي تقع عليها أبصارهم في هذه الدنيا ليست الا ثوباً أو مظهراً إحساسياً يجثم وراءها ما أسماه (فكرة العالم الإلهية) وهي (الحقيقة التي توجد في أعماق المظاهر جميعا) وهي بالطبع لا تظهر لعامة الناس لأنهم يعيشون بين المظاهر والماديات. فرسالة الأديب أن يميز لنفسه وللناس هذه الفكرة الإلهية بما فيها من روعة وجمال وقوة وأن يقف إلى جانبها معجبا متعجبا؛ وان يذيعها في الناس حتى يكونوا أنعم بحياتهم وأقدر على فهم وجودهم. عليه أن يسمو بهم فوق رغبات العيش المادي من طعام وشراب وكساء وأن يحررهم (ولو إلى حد ما) من قيود الزمان والمكان.

وأظنك تستطيع أن تتخذ هذا التعريف مقياسا توازن به بين الأدب الحي والأدب الميت. فكما يوجد في هذا العالم أطباء ودجالون يدعون الطب كذلك يوجد أدباء وأدعياء يدعون الأدب. وإذا كنت تحرص الحرص كله على التمييز بين النقود الصحيحة والنقود الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك المادية فالأجدر بك أن تكون أكثر حرصا على التمييز بين الآثار الأدبية الصالحة والآثار الأدبية الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك الروحية.

والأديب يولد ولا يصنع (كما يقول الإنجليز) أي أنه رجل لا يكتسب صنعة الأديب بالتعلم والمران ما لم يكن موهوبا بطبيعته. بيد أن هذه الموهبة كالشجرة ما لم تثقف وتشذب فلن تؤتي أكلها لذيذا شهيا. . .

نخرج من هذا بأن الأديب في مصر هو الأديب في غير مصر وأن رسالته هنا هي بعينها رسالته هناك وكل ما في الأمر إختلاف طرائق التعبير. على أن مهمة أديبنا أشق من مهمة الأديب الغربي لأن الغربيين يعرفون لأديبهم قدره فيبسطون له في الرزق حتى ينصرف إلى الإنتاج الأدبي الصالح بيننا ينكر المصريون أديبهم ويضيقون عليه الخناق وهم إن اعترفوا له بشيء فإنما يكون هذا الاعتراف بعد أن يفارق هذه الدنيا. ولهذا دون شك أثره البالغ في خلق الأديب فهو أما أن يتزلف إلى السلطات الحاكمة أو يترضى الأمراء والزعماء فإذا لم يستطع هذا أو ذاك أخذ يتملق الجمهور! ولا تتهمني بالمبالغة فأمامك تاريخنا الأدبي الحديث فهو حافل بأسماء الأدباء (وأشباه الأدباء) الذين كانوا أقرب إلى المتسولين منهم إلى أي شيء آخر. والذين انحطوا بصناعة الشعر والنثر إلى الدرك الأسفل حتى أصبح الأدب نوعا من (البهلوانية) في التعبير فإذا ألحت عليهم الحقيقة أتخذوا في إذاعتها فنون اللف والدوران والمواربة! وما أقل أولئك الذين عافت نفوسهم التمسح بأذيال السادة أو التعلق بأردان الجماهير! والأديب (بل وشبه الأديب) معذور لأن الجماعة لا تريد إلا من يسليها ويدخل السرور عليها أما الذي يكشف لها عن المثل العليا ويظهرها على الفرق بين حاضرها وهذه المثل فهو أبغض الناس إليها!

والأديب المصري الذي يريد أن يؤدي رسالته على الوجه الأكمل يصطدم بعقبتين كلتاهما صعبة شديدة. فما بالك إذا علمت أنهما متآخيتان، هاتان العقبتان هما (السياسة والتقاليد).

أما السياسة فقد طغت علينا وأفسدت مزاجنا الأدبي حتى اضطربت موازين النقد في أيدي الكتاب ورجال التعليم يجورون في أحكامهم على الأدباء جوراً ظاهراً: والطلاب والقراء في حيرة ليس مثلها حيرة. وأسرفت السياسة في طغيانها اشتدت جنايتها على الأدب حتى أنصرف الأدباء إلى السياسة وأدركوا أن الشهرة الأدبية لن تأتيهم إلا على حساب الشهرة السياسية!

والتقاليد أمرها غريب حقاً فهي من محاربتها للأدب والأدباء تتستر وراء الدين حيناً ووراء السياسة حيناً آخر. تظهر مرة وتختفي مرات. وويل للأديب الذي يتهم بالإلحاد. وويل للأديب الذي يتهم بالخيانة. وويل للأديب الذي يتهم بالإباحية! لو كان موظفاً طرد من وظيفته. ولو كان عالماً جرد من شهادته. ولو كان كاتباً حورب في صحيفته!

على أن الأديب القوي هو الذي يصمد لهذا كله ويمضي في إذاعة رسالته مؤمنا بانتصاره. أو قل بانتصار آثاره تدفعه الفكرة الإلهية التي فيه. فإذا اعترف له أبناء عصره بفضله عليهم وعلى الأجيال المقبلة من بعدهم فذاك. وإلا فقد كتب أسمه في ثبت الخالدين. . .

وأدباء مصر في هذا الزمن هم (الطلائع) التي تتعرض للأخطار وتتلقى عن بقية الجيش السهام تتلوها السهام؛ والطلقات تعقبها الطلقات. فعليهم أن يضربوا المثل الصالح لأبناء الجيل الجديد.

وأني لأعلم أن مهمة الأديب المصري في الجيل المقبل ستكون أسهل من مهمة أخيه في هذا الجيل لان الأخير عليه إلى جانب مهمته الأساسية مهمة أخرى هي (التمهيد) وتعبيد طرائق التعبير من نحت ألفاظ. وإصلاح ألفاظ. ومن خلق قوالب أدبية لم يكن لها في تقاليد الأدب العربي وجود كالدرامة والشعر القصص والمقال الاجتماعي وما يتطلبه هذا كله من التغيير في قواعد النظم والكتابة.

وليذكر أولئك الذين يغرمون بتأليف المجامع اللغوية أن إصلاح اللغة لا يقوم به النحات والعروضيون وأصحاب الأبحاث (الفيلولوجية) وإنما يقوم به الأدباء والأدباء وحدهم لأنهم بطبيعة رسالتهم اقدر على ابتكار الألفاظ التي تتلاءم مع المعاني. والأساليب التي تتفق والأغراض. ثم هم اقدر على إذاعة هذه الأساليب وتلك الألفاظ في الناس. ثم يأتي بعدهم أصحاب النحو والعروض وعلوم اللسان يستخرجون من آثارهم القواعد العامة ويرتبونها ويصنفونها ويضعون المطولات والقواميس فيها!

فليمض الأدباء المصريون (وهم قلة) في تحقيق الرسالة السامية التي وجدوا من اجلها والتي يعيشون لها. والتي يجب أن يموتوا في سبيلها كما يموت كل صاحب رسالة يؤمن برسالته وليكن عزاءهم خلود آثارهم؛ وأحرى بالناس أن يقدروا الأديب الذي لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لهم!. . .