مجلة الرسالة/العدد 1/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 1/العلوم
النوم واليقظة
بقلم الدكتور احمد زكي
الأستاذ بكلية العلوم
النوم، ما أحلاه! أو هكذا يقول المجهود اللاغب قد استنفد النهار طوقه واستفرغ قواه.
النوم ما أعزه وأغلاه! أو هكذا يقول المريض تعذّر عليه القيام وسرى السقام في عظامه بصنوف الآلام. فلا هو بالصحيح الصاحي فتحمله كالناس رجلان، ولا بالغافل العافي فتغمض له عينان!. أمساؤه كأصباحه ونجوم ليله كشمس نهاره!.
النوم، ما أروحه! أو هكذا يقول المكروب أفعم الهّم صدره حتى كاد يصدّعه، وثار الفكر الملحّ برأسه حتى كاد يطير به، يطلب النوم فيتأبى عليه، والنوم كالسائمة الهائمة تشرد عن طالبها، فيحتال عليه بالفكر اقتناصاً، فيفكر ثم يفكر، ولكن في دائرة لا مبدأ لها ولا منتهى!.
النوم كالهواء والماء غلا حتى عز أن يكون له ثمن، منحة الله العظمى، وعطيته الكبرى، لا يستأثر بها غني ولا توصد الخزائن دونها عن فقير. وعَّمت فلم يختص بها الإنسان، فكان للخلائق أجمعين أنصبة منها، حتى النبات له من ذلك نصيب!.
نعم حتى النبات فهو في النهار يعمل كالإنسان سعياً وراء القوت، فيأخذ من الهواء أكسيد الفحم فيهضمه فأما الفحم فيستبقيه غذاء صالحا يزداد به في الجسم بسطة وفي الأفرع إنبساقاً، وأما الأوكسجين فيطلقه في الجو فضلة لا حاجة به إليها حتى إذا جاء الليل كف عن العمل وهجع إلى الصباح ليعود إلى ما كان عليه في أمسه!.
غريب فعل هذه الشمس في الخلائق. تغيب فتنام الأرض ومن عليها، وتطلع فتنشر أشعتها اليقظة والحياة، أو الأصح أن نقول أن نصف الأرض ينام حيث الشمس غائبة بينما نصفها الآخر صاح حيث الشمس طالعة، فالنوم واليقظة دوّاران كالشمس يدوران على الناس من المشرق الى المغرب. وعلاقة الشمس بالنوم ليست مصادفة وليست عادة ابتدعها الإنسان ثم ألفها، ولكنها علاقة اقتضتها طبيعة الحياة وطبيعة الأجسام الحية وطبيعة النوم كذلك. ومن اجل هذا عمت حتى شملت كل ذي حياة. حتى السمك يقل حسه في الليل ويهدأ حيث ه من الماء. . ومن أطرف ما رأيت انهم أعلنوا في لندن منذ أعوام خلت أن الشمس ستكسف بعد طلوع الشمس بقليل. وكنا نسكن بظاهر المدينة فقمنا مبكرين نشهد هذا المشهد الجليل. فذَّر قرن الشمس وخرجت الطيور على العادة من أوكارها تسعى الى الرزق. ولكن ما هي الا أن احتجبت الشمس وجلل الأرض ما يشبه الغسق حتى وجدنا هذه الطيور تعود الى أوكارها زرافات ووحدانا مخدوعة عن صباحها، ولم يكن بعد قد جف نداه.
وهذا نظام كما ذكرنا عام اقتضته ضرورة الحياة، وله شواذ الا أنها لا تكون الا لضرورة من ضرورات الحياة كذلك. فكما نرى بين الناس من يضطره العيش إلى القيام والناس تجوع، والى الهجوع والناس قيام نرى من الحيوانات كالمفترسة ما يلبس رداء الظلام يتحسس فريسة نائمة، ومنها الضعيف الهياب كالحشرات والجرذان يتخذ من الليل نهارا يطلب القوت تحت ستاره في أمان واطمئنان. ومن النباتات أجناس رخصت لها الطبيعة بمثل هذا الشذوذ. فبينما نرى الكثير من الشجر تتهدل أغصانه بعض الشيء وتغمض أزهاره وتنحبس عطورها بمغيب الشمس، نرى القليل كنبات التبغ يسير على النقيض فتتفتح أزهاره في الليل ويفوح طيبه وما كان للطبيعة أن تأذن لهذا النبات في رخصة كهذه لولا أن فيها حياته وبها ضمان إنساله، فأن فَراش الليل ينجذب إلى الزهرة الذكر بشذاها، فيحط عليها طلباً لجناها، ثم يشيل عنها متحملا بلقاحها، فيحط به على زهرة أنثى فيتم إثمارها.
أما جوهر النوم وكنهه فقد حار فيهما العلماء كما حاروا في كل شيء يتصل بالمخ وتوابعه من حيث الصحة والمرض ومن حيث الإدراك والتفكير. ولا غرابة في ذلك، فالإنسان أمتاز من الكائنات بخلقه، والمخ أعقد ما في هذا الخلق، وبه ساد الخلائق، وبه تحكم فيها وورث الأرض، وبه سيرث أجرام السماوات. غير انه مما لا شك فيه أن النوم يعطل في الإنسان التعقل والتفكير، وكذلك الإحساس، وتلك جميعها من مظاهر اليقظة. ولا تدوم فترة ما بين اليقظة والنوم أكثر من دقيقة أو دقيقتين، وعندئذ يدخل الرجل الصحيح المعافى في النوم كما يجب أن يكون، وتنقطع الصلة بينه وبين هذا العالم ساعة أو ساعتين، تكون فيها صحيفة ذهنه بيضاء من كل شر أو خير، فهو كالميت وليس ميتا، ثم تقرب الصلة بعد ذلك بينه وبين العالم الحي، وهنا تتدخل الأحلام. وليس النوم ذو الأحلام بالنوم العميق، ولا أدل على ذلك من أن أحلام النائم تتأثر بما يحدث حوله، فقد يقع كتاب في الغرفة فيتمثل للحالمكأن بيتاً ينهد، أو جبلاً ينقض. كذلك تتشكل أحلام النائم وفقاً لما يحدث في جسمه، كأن تتوعك أمعاؤه أو تتخم معدته فتضيق أنفاسه فيرى أن لصاً مجرماً أخذ بتلابيبه وضيق عليه الخناق، أو أنه أُلقي به في اليم فسد عليه الماء منافس الهواء. فالرؤى على هذا نوع من الكرى بين الوسن الخالص واليقظة الخالصة، ولا تكون راحة الجسم فيها تامة، ولو جمعته بالحور الحسان على أرائك من خز وجمان. وكما كان الدخول في النوم تدرجا كان الخروج منه تدرجا ولا يستغرق هذا التحول أكثر من دقيقتين.
ومع أن الإنسان يتعطل تعقله وحركته إذا هو نام الا أن أعمال جسمه الأخرى التي لا تتصل بمراكز المخ الرئيسية لا تتعطل ولا تكاد تتأثر الا قليلا، فالقلب يدق ولا تقل دقاته الا يسيراً، والمعدة تفرز العصارات الهضمية، والأمعاء تتحرك حركاتها الدودية، ويجري امتصاص الطعام فيها بمقدار ما يجري في الصحو. والدورة الدموية تجري كعادتها، إلا أن مخ النائم يقل دمه، بينما يكثر الدم مقابل ذلك في الأعضاء والأطراف لاتساع أوعيتها. ففقر الدم في المخ نتيجة من نتائج النوم، وكثيرا ما يكون سببا من مسبباته. ألا ترى أنك إذا أكلت فأثقلت جاءك النعاس فلم تستطع لسلطانه دفعاً؟ وسبب هذا أن المعدة تجذب الى نفسها أكثر الدم ليعينها على الهضم فيقل نصيب المخ منه. كذلك تقل حرارة الجسم في النوم تبعاً لنقص نشاطه، فأن كل عمل من أعماله نتيجة تفاعل كيميائي يصحبه احتراق بعض مادته. فإذا قل نشاط الجسم قل احتراقه فقلت حرارته. وإذا نحن قدّرنا نتاج احتراق الجسم في الأربع والعشرين ساعة بنحو 3000 سعر حراري وجدنا انه ينتج من ذلك القدر 600 من الأسعار في ثماني الساعات التي ينامها، وينتج 750 منها في ثماني الساعات التي يستريح فيه غير نائم، والباقي وقدره 1650 ينتجه في ثماني الساعات التي يكد فيها ويعمل. ولقلة دخل الجسم من الحرارة أثناء النوم يتغطى المرء حين ينام بكل موصل رديء للحرارة كالألحفة ونحوها ليقلل خروج الحرارة منه فيتم بذلك توازنه الاقتصادي. ومن أجل ذلك أيضاً يختل هذا التوازن على الأغلب والناس نيام، فيصابون بأزمة داخلية يعبرون عنها بالبرد.
وقد وضع العلماء نظريات عديدة في أسباب النوم لا داعي للإلمام بها لأنهم لم يجمعوا على إحداها. وقد حاول قوم في عصر المحاولات الغربية (الذي نحن فيه) أن يستغنوا عن النوم بالمران، فكانوا كمن يحاول أن يستغني عن الشراب والطعام. ويختلف القدر اللازم منه للإنسان بإختلاف عمله وحركته وخموده، كذلك يختلف على ما هو معروف بأختلاف الأعمار، فالطفل الرضيع ينام أغلب يومه، ثم تقل حاجته منه حتى تبلغ في الشباب ثماني ساعات، ثم تزيد في القلة. فقد تنزل في الشيخوخة إلى ثلاث ثم تنعدم بالطبع عند نفاد الزيت واحتراق الفتيل.