مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/حديث القمر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/حديث القمر

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1912



عرضت لأديبنا المفضال السيد مصطفى صادق الرافعي فترة من الفراغ في صيف هذا العام أراد أن يقضي فيها حق نفسه وأن يغتنم بها أنفاس الراحة مما يعاني في إنجاز كتابه الفريد (تاريخ آداب العرب) الذي لا يزال يقول عنه أنه دين عليه للأمة حتى يؤديه فهجر الكتابة والكتب ولكنه ما تنسم أنفاس الطبيعة حتى استحالت في قلبه الكبير معاني من الشعر أو من السحر فنفثها في ألفاظ، أفتن للقلوب من الألحاظ، وصورها في جمل، أطرب للنفوس من الأمل، وألم فيها بكل ما يضرب له قلب الإنسان حتى كأنها صنعة كل قلب وقد سماها (حديث القمر) وقدمها للطبع والرافعي هو الأديب الفذ الذي يستطيع في هذا العصر أن يعارض أبدع أساليب المتقدمين في الكتابة والبيان وأن يربي عليهم بما وهبه الله من قوة الخيال التي لا يقصر بها عن معارضة أرقى كتاب المتأخرين في أمم الشعر والجمال لعهدنا وقد جرى في حديث القمر على نمط من الكتابة يمزج فيه الشعر بالفلسفة والخيال بالحقيقة ويلقي منه إلى القلب والروح ما وحت إليه الطبيعة من الجمال والجلال وما نظن هذا الكتاب إلا محدثاً انقلاباً كبيراً فإنه على صغره يعي ما يستوعبه القلب من الحياة وأكبر فوائده فيما نرى لطلبة الإنشاء المتين البديع الذين يريدون أن يكتسبوا ملكة صحيحة من النقد وصحة النظر وسمو الفكر وقوة الخيال وهي صفات لا يكون الإنشاء بدونها ولا تعطيهم كتب المختارات وغيرها شيئاً منها فإن هذا (الحديث) فيما رأينا مكتوب على طريقة لتربية الخيال والفكر كالطريقة التي تضع بها كتب التربية العلمية للنفس فلا يقرؤه الطالب حتى يخرج منه بروح جديد وهي طريقة في تعليم الإنشاء لم يطرقها أديب إلى اليوم مع أنها الطريقة الطبيعية ولا تزال الطبية تضن بحقائقها إلا على رجالها الأفراد فكلما ظهر أحدهم بحقيقة منها رأيناه وكأن في يده شهادة من الطبيعة أنه رجل من نوابغها. ونحن ناشرون اليوم هذه المقدمة الساحرة التي بين فيها الرافعي أغراض كتابه وهي وحدها بكتاب كامل.

غرض الكتاب

هذه مقالة صرفت فيها وجه الحديث إلى القمر وبعثت إلى الكون في أشعة الفجر كلماتها.

ولقد كان القمر بضيائه كأنه ينبوع يتفجّر في نفسي فكنت أشعر بمعاني هذا الحديث ك يشعر الظمآن اللهف قد بلغ الريّ وتندي الماء على كبده فأحس بروحه تتراجع كأنما تحدرها قطرات الماء.

ونشرت على خيوط القمر ليلاً من ليالي الجمال دونه شباب الشاعر الغزل يمتد مع ألحاظ فاتنته الحسناء كلما استطار في آفاقه ابتسامها.

وكنت أرى الطبيعة وقد شفت لعيني كأنها أخرجت حقائقها لتغسلها من ظنون الناس وأوهامهم بهذا الضياء الساكن المرتعد كأنه عرق يرفض من جبين السماء وقد تخشعت من جلال الله وخشيته إذ يتجلى عليها. فما فرغت من تصوير الأثر الذي تركته تلك الرؤية في نفسي حتى رأيت هذه المقالة في يدي وكأني أحملها رسالة تعزية من الطبيعة إلى العالم.

كتبتها وأنا أرجو أن تكون الطبيعة قد أوحت إلي بقطعة من مناجاة الأنبياء التي كانت تستهل في سكون الليل فيعيها كأنه ذاكرة الدهر. وأن تكون قد بثت في ألفاظي صدى من تلك النغمات الأولى التي كان يتغنى بها أطفال الإنسانية فتخرج من أفواههم ممزوجة بحلاوة الإيمان الفطري. وتذهب في السماء متهادية كأنها طائرة بروح من اطمئنان قلوبهم وتسيل في ضوء الصباح وظل الشمس ونور القمر كأنها في جمال الطبيعة أفكار طيور مغرّدة تدور على ألسنتها.

وكتبتها وآنا آمل أن تكون الطبيعة قد ألقت في معانيها بذوراً من عناصر التحول الأخلاقي تزكو في هذه القلوب الحيوانية التي لو نقلت إلى جوانح البهائم لعاشت بها. . . وهذه النفوس التي تذل لأحقر من في الأرض ولا تثور إلا على السماء. وهذه العقول التي تحاول أن تكتب للروح تاريخاً أرضياً يبتدئ وينتهي في التراب فتكون الحقيقة الإلهية التي لا يدركها الإنسان بسبيل من الوهم الإنساني الذي لا يدرك الحقيقة.

وكتبتها وأنا أطمع أن تكون الطبيعة قد نفخت فيها نسمة الحياة للعواطف الميتة المدرجة في أكفان من الحوادث الدنيئة. فإن هموم العيش لا تميت من عواطف القلوب إلا تلك التي لا تعرف كيف تستمد الحياة من روح الطبيعة وإنما يكون استمدادها من مادتها فتحيا بخبر وتموت بخبر وقد تمضي كالوحش الذي يرميه الصائد ولا يضميه فينفر حاملاً جنبه وفي جرحه الموت والحياة معاً.

وكتبتها أتناول ألفاظها من تحت لساني وأكشف من قلبي معانيها وأنفض عليها ألوان الطبيعة التي تصور أحلام النفس وخيالاتها. وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصور الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس. وإحساس ينتهي إلى الذوق. وذوق يفيض الإحساس والإلهام على الكتابة جميعاً فيترك فيها حياة كحياة الجمال لا تداخل الروح حتى تستبد بها ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فنكون له كأنها فكرة في ذاته.

وكل علوم البلاغة إنما تدور على شرح أمثلة بليغة وغير بليغة فما من كاتب يحاول أن يستفيد تصوره من هذه العلوم على أن ينزلها في ذلك منزلة الأصول والضوابط إلا انتهى إلى ملكة علمية تتصل منه بعقل جامد كأنه غلاف لفظي نسجته القواعد والأمثال. فإلى أن يعقد الموت لسانه لا تكون قيمة عمره قد أربت من البلاغة على ثمن كتاب من كتب علوم البلاغة. .! ولا غرفان من ضلال العقل أن يعمل المرء لمقدمات متسلسلة ينتج بعضها بعضاً وليس لمجموعها نتيجة.

وحسب مثل هذا عقاباً (بليغاً) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعاً فيها وهو موقن باليأس منها وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه حتى أن نفس الأثيم الذي انسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه.

البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلّطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوي الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة. وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل.

فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصور المريض، وشرد الخيال فذهب كخيال المجانين وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الانحلال بآفات الاجتماع وأمراضه فيكون طابعها في الاصطلاح مرضاً من نفسها. ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة.

وما البليغ إلا ذلك الذي يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجهلها - في غير صورها ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها. وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها.

فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم.

وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها.

وهذه نبذة من الفصل الأول.

أيها القمر

الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار رشاش من النور والندى يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعباً وترحاً، وهذه لعباً وفرحاً، والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب.

والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي يملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى، بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس. فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته متلهفة ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر بل هو جزء من الموسوعات الكبرى التي يدن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنه من أقصى الحلق. . . بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب.

والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل. ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كان الآمال بينهما أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسه. والعاشق فيقلبه. ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. ولبس السكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.

والآن وقد لمعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها، إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً.

أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت، ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء. هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافٌّ كأنه مصنوع من جلود الكتب وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه وهي أطهر شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.

ليس كل من عصر عينيه فقد بكي. إن البكاء لأشرف من ذلك وكما يكون الضحك أحياناً حركةً في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت. كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسي. لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع.

وما أن لقيت باكياً إلا رأيت وجهه مقبلاً علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.

ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظاً كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها. وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها. وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.

أريد أن ابكي بكائي الطبيعي أيها القمر لأنه يخيل إليّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي. وإني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلا حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار. واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار، فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.

للحديث بقية.