مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/مقالات في الأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/مقالات في الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1912



للفاضل عبد الرحمن شكر أيضاً

1

التخيل والتوهم

ينبغي أن نميز في معاني الشعر وصوره بين نوعين نسمي الأول التخيل والآخر التوهم فالتخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء التي ربما خفيت عن غيره ولكن يشترط في هذا النوع أن تكون الصلة متينة والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود أو أن يبين عن صلة غير متينة أنظر إلى قول أبي العلاء المعري في سهيل النجوم

ضرجته دماً سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان

أو قوله في هذه القصيدة أيضاً:

وعلى الأفق من دماء الشهيدين ... علي ونجله شاهدان

فإن الصلة التي بين الشفق وبين دماء الشهيدين صلة توهم وكذلك الصورة التي في البيت الأول صورة توهم ثم أنظر إلى قول أبي العلاء:

كم قبلة لك في الضمائر لم أخف ... فيها العقاب لأنها لم تكتب

هذا مثال من أمثال التخيل الصريح فإن العاشق مغري بأن يليح لعينه بصورة حبيبته ثم يقبل تلك الصورة الخيالية فالصورة المودعة في هذا البيت صورة طبيعية يعرف صحتها كل من عالج الحب وانظر إلى قول الشريف الرضي:

ما للزمان رمي قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر

هذا أيضاً من التخيل الصريح فإن تفرق شمل القوم مثل تطاير أجزاء القدح المكسور وانظر إلى قول ابن المعتز في الشيب:

(هذا غبار وقائع الدهر)

فأن المشيب يأتي المرء من معالجة الأيام ومصارعتها كما أن الغبار تستثيره المصارعة والمناهضة.

ومن أمثال التوهم البديع قول أبي تمام في المش (فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب)

فإن الصلة التي بين المشيب والابتسام ولا سيما ابتسام الرأي والأدب صلة توهم ليس لها وجود ولكن هذا التوهم الحميد على أن الشاعر قد يجيء به غثاً إذا لم يكن له غير المغالاة حيلة وأحسن هذا التوهم أقربه إلى التخيل الصريح وأقبحه أقربه إلى أحلام المحموم وقد حببه إلى الشعراء مجاراتهم ذوق العامة في المغالاة فإن العامة لا تميز بين المغالاة التي تجوز والمغالاة التي لا تجوز.

قد يكون في الخيال كلفة كما يكون في التعبير صنعة وإنما تكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد وهو كاذب إذا قاربته غير أنه يشابه الخيال الصحيح الخيال السقيم إذا كان وجه التأليف بين الأشياء في الخيال الصحيح بعيداً ولكن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه التأليف صحيحاً وكانت الصلة متينة فإن ظهور الصلة لكل قارئ ليس دليلاً على متانتها فقد تكون الصلة ظاهرة ضعيفة وقد تكون غامضة سليمة وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل والعبقري بالمقلد فإن المتنبي أو شكسبير قد يولع باستخراج الصلة المتينة الغامضة التي بين شيئين يخال القارئ أن ليس بينهما صلة ولكن هذا المذهب غير مذهب الناظم الذي يولع بأن يوجد صلة سقيمة بين شيئين ليس بينهما صلة أو باستخراج صلة ضعيفة بين شيئين. أن ولوع الشاعر باستخراج الصلات المتينة الغامضة التي بين الأشياء دليل على أنه حر الذهن ولكن الشعراء المولعين بذلك غرض لسهام ذوي الأذهان المغلقة ونصب رميات أهل الغبارة ولكني لا أنكر أن الشاعر المولع بذلك قد يسلمه ولعه به إلى المغالاة المقبوحة واستخراج صلات التوهم وأبو تمام والمتنبي والمعري من هؤلاء الشعراء على أن العبقري يعرف بسيئاته أنه عبقري كما يعرف بحسناته لأن أكثر سيئاته أنه واسع الخيال كما أن أكثر حسناته سببها تلك السمعة.

2

الجاحظ والصابي

الفرق بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب الصابي وابن العميد أو الأولين يسلكان من سبل التفهيم والإيضاح أقصرها وأما الصابي وابن العميد فقد كانا من كتاب الدولة وأرباب السياسة يضطر أحدهما إلى الغموض لحاجة من حاجات السياسة فيسلك من سبل التفهيم أطولها وأوعرها كي لا يفهم رسالته من أرسلت إليه كل الفهم أو كي يفهم في أثناء سطورها ما ليس فيها ألم تر كيف عمد ساسة الدول الأوروبية إلى اللفظ المبهم والعبارة الغامضة في بعض الأحايين كأن يريد أحدهم أن يعد وعداً لا يستطيع أن يفي به أو أن يساق إلى إيضاح أمر من حاجة السياسة أن يبقى غامضاً أو أن يريد أن يستخدم المغالطة كي يغطي على صحة رأيك أو أن يخدعك في حق تطالبه به فأسلوب الجاحظ وابن المقفع من هذا الوجه أفصح من أسلوب الصابي وابن العميد وأسلوب الأولين أشبه بلهجة العرب وفصاحتهم فهو خليق أن يسمى الأسلوب الطبيعي أما أسلوب الصابي فهو أسلوب صنعة لأن الفصاحة العربية الصريحة التي تطالعك من مصنفات الجاحظ وابن المقفع قد نضب ماؤها وصار حظ الأديب أن يتكلفها وسبب ذلك اقتعاد الأعاجم دسوت الرئاسة وتغلبهم على العنصر العربي والعصبية العربية في دولة الإسلام فلم تكن اللغة كالماء الآجن لأن الأساليب تتغير فأسلوب الجاحظ غير أسلوب الصابي وأسلوب الصابي غير أسلوب صاحب كتاب قلائد العقيان فالأساليب تسير مع الأيام وتتغير بتغير الزمان والمكان واللغة ليست ملكاً لقوم دون قوم فإن الفرق بين أسلوب الصابي وأسلوب الجاحظ أو بين أسلوب الصابي وأسلوب صاحب القلائد لا يجوز لنا أن نسميه فرقاً بين لغة ولغة كما يزعم زاعم يريد أن تكون لغة مصر غير لغة الشام أو العراق.

إنك إذا قرأت رسائل الصابي كنت كلما انتهيت من جملة نسيت أولها أما لعظم ما بين أولها وآخرها وأما لأنه يدخل الجملة في الجملة ويخرجها من حيث أدخلها فلا تعرف أين يبتدئ وأين ينتهي وألفاظ الصابي أكثر من معانيه فهو يريق المعنى على فناء واسع من اللفظ فيغيض ماؤه والمعاني كالبخار إذا حبست البخار زدته قسوة وإذا أفسحت له في الفضاء أضعفته. إذا أجاد الصابي ذقت في كلامه حلاوة الصنع وإذا أجاد الجاحظ ذقت في كلامه حلاوة الطبع على أن للطبع صنعة ولكنها صنعة ذوق وسليقة لا صنعة رصف وتنميق وصنعة الطبع ليست بأقل حلاوة من صنعة الرصف والذي يستخدم صنعة الرصف لا يسلم من التكلفة والفساد والإطالة المقبوحة وإضلال المراد وذكر مالا يراد منه كأن يسلك أديب في عقد واحد جملاً كثيرة لا تقرب القارئ من طلبته قيد فتر أو أن يكيل كاتب لقارئه من المترادف شيئاً كثيراً.

إن بين من يكلف بالفصاحة ومن يتكلفها فرقاً واسعاً والجاحظ كلف بالفصاحة ولا يتكلفها لأنها تؤاتيه إذا شاء والصابي كلف بالفصاحة ولكنه قد يتكلفها ولا أحسب سبب ذلك أنه جاء بعد الجاحظ ولكن مذهبه إدخال الجملة في الجملة ومط الكلام كما تمط الجلد هذا ابن رشيق صاحب كتاب العمدة متأخر من المتأخرين في الزمن ولكن مذهبه في كتاب العمدة أشبه بمذهب ابن المقفع والجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم من الفحول من حيث السلاسة وتوفية المعنى نصيبه من اللفظ وقصر اللفظ عليه وانتظام جمل الكلام ففصاحته فصاحة ذوق وطبع لا فصاحة رصف ووضع فلو أن الأديب ليس له بد من عبارة أهل زمانه وبلده وأسلوبهم في الكتابة لكانت عبارة كتاب العمدة مثل عبارة كتاب القلائد ولكنها ليست كذلك فإن فصاحة كتاب قلائد العقيان فصاحة رصف ووضع وهي أكثر سبهاً بفصاحة الصابي وابن العميد والثعالبي منها بفصاحة الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق ولكنها أكثر تصنعاً من فصاحة الصابي واقل حلاوة فعبارة الصابي في منزلة بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب القلائد فالصابي وابن العميد والثعالبي كانوا يملكون من عنان مطيتهم ما لم يملكه صاحب القلائد ومن حذا حذوه وهكذا كل من عالج صنعة الرصف والوضع خيف عليه أن تغيب عنه حلاوة الطبع.

كان ابن رشيق ينقم من أهل زمانه صنعة الرصف ويغريهم باستخدام صنعة الذوق والطبع استدناء للفصاحة العربية وتطلباً لذلك الأسلوب الطبيعي أسلوب ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة ويزجرهم عن ذلك الأسلوب المتقطع المتكلف المخنث أسلوب السجع والمترادف والبديع الذي كانت تملأ به الأدباء رسائلهم من رصف وإطالة يضل القاريء فيها ما ينبغي من المعنى ولكن هذا الفساد كان قد تمكن من اللغة وأخذ من أذواق الناس مأخذاً بليغاً فلم يكن لأبن رشيق عون على إصلاحه وأعظم من استخدام صناعة الرصف والوضع من الأدباء وغالى بها الصابي وابن العميد والثعالبي فكانوا يجيئون بالجزل الجيد من الكلام وكان لكلامهم نصيب من بداوة النثر أي سلامته من الكلفة ورجولته تلك البداوة التي تطالعك من مصنفات ابن المقفع والجاحظ والمبرد وغيرهم من الفحول ولكن لم يكن يعرف الصابي وذووا مذهبه أن سيأتي بعدهم أدباء ينهجون نهجهم وليس لهم من سلامة الطبع وبداوة القول ورجولته ما كان لأسلافهم فيستخدمون المحسنات البديعية استخداماً يجعلها مساويء فن مجيء هذه المحسنات عفواً حسن لا بأس به ولكنهم جعلوا يدخلونها في كلامهم كما تدخل الجرذ في مصيدته أي بالخديعة والدهاء ويجذبونها إليه كما تجذب القط من ذيله إذا تشدد فيضطرب انسجام كلامهم ويعوج أسلوبه.