مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرف أدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرف أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1912



المشاهد

1

لامرتين على جبل الكرمل

ساح لامرتين في الشرق عام 1832 والتقى في سياحته بشاعر عربي على جبل الكرمل، هنالك حيث هبط الوحي على أنبياء أرض الرسل والأنبياء، وتنزل الإلهام على شعراء صومعة النساك وروضة الشعراء.

قال لان في رحلته فجلس - أي الشاعر العربي - إلى جانبنا على الحوض فتحادثنا ملياً. ولكن الشمس مالت إلى الأفول وكان لا بد لنا من الافتراق. فقلت له: إننا هنا شاعران قد أدنت الصدفة ما بيننا على بعد الدار، لنلتقي على هذه البقعة الساحرة، فوق هذه التربة الطاهرة، في ساعة هي أجمل الساعات. وقد أرسل الله إلينا ملكاً من ملائك الجمال في محضر منا، فهل لك في أبيات ينظمها كل منا بلسانه. تخليداً لهذا الاجتماع. وما قد أحدثته في نفوسنا هذه المناظر الشيقة والمشاهد البهجة

قال فابتسم وأخرج من نطاقه دواته وقلمه القصب. وهي أبداً في نطاق الكاتب العربي كالسيف في نطاق الجندي. ثم تراجع كل منا خطوات ليخلو بنفسه ويتفرغ لشأنه. فانتهى من نظم أبياته قبل أن انتهيت ببرهة وها أنا ذا أنقل أبياتي وأبياته

أما ذلك الملك الذي أشار إليه لامرتين فهو فتاة كاعب وصفها الشاعر نثراً فأبدع أيما إبداع. وأني بقلمه في ذلك الوصف بما هو جدير بريشة المصور وكان قد نزل في بيت أهلها بحيفا يوماً ثم صعد إلى دير جبل الكرمل. فأتته وأمها وشقيقها يزورونه. فجلسوا جميعاً على حوض ماء. وقد كانت قصيدة الشاعرين في وصف تلك الفتاة على ذلك الحوض، وهذه ترجمة قصيدة لامرتين:

سقاك الحيا يا حوض أعذب ما سقى ... ففيك قرأت الحسن سطراً منمقا

حباك الفضاء اللازوردي لونه ... فجلاك كالمرآة تلمع أزرقا

أراك إذا فيأت ليلى عشية ... سكنت كمن يصغي إليها محدقا

وترسم في أعماق قلبك وجهها ... كما لاح طيف النجم في اليم مشرقا فما حفلت عين بما فيك من حصى ... حكي الدر أو عشب هنالك أورقا

وما ينظر الرائي السماء مصعداً ... إلى الأفق بل يرنو إلى الماء مطرقا

لك الله كم حسناً حويت ورونقاً ... روى الماء عن ليلاي فيك فأصدقا

فعينان أبهى زرقة وملاحة ... من الزهو ينمو في حوافيك مونقا

وأغنتك هاتيك الثنايا ضواحكا ... عن اللؤلؤ المكنون يلقى وينتقى

وثغر كأن الورد باكره الندي ... فجال على أوراقه وترقرقا

وجيد تراه يشبه العاج ناصعاً ... على أنه كالغصن مال على النقى

وفرع كخفق الموج فيك خفوقه ... يكلل منه الزهر فوداً ومفرقا

وأبديت كالمرجان في الماء دملجا ... تحلى بأحلى معصم حين أحدقا

رفعت يدي دون النسيم وقد سري ... مخافة ذاك الظل أن يترنقا

وقد خلت أني حين أبسط راحتي ... ظفرت بدر فيك لاح منسقا

وأرشف من ماء هنالك ريق ... جلا الحسن عذباً في حواشيه ريقا

ولكن ليلى أعرضت نحو أمها ... تضاحكها حباً وترنو تأنقا

فسرعان ما أمعنت فيه فلم أجد ... سوى الحوض أمسى راكد الحس ضيقا

تذوقت منه قطرة بعد قطرة ... فألفيت مالا يستطاب تذوقا

وكنت أرى حسناً فأصبحت لا أرى ... سوى حشرات أو نبات تفرقا

فرحماك يا بنت المشارق أن لي ... فؤاداً بربات الجمال تعلقا

لحسنك من سر على النفس ماله ... على الماء لما أن حكاك فدققا

فقد رسمت فيها لحاظك صورة ... مدي الدهر لا تمحى وتزداد رونقا

عذيري من تلك اللحاظ كأنما ... هي النجم في عرض السماء تألقا

إذا رمقت فالصبح أو حال دونها ... خمار فهذا ليل من قد تعشقا

2

عبرة في نظرة

الجزيرة معرض عام يقام أصيل كل يوم. يعرض فيه كل جميل جماله وكل غني ماله، وتبسط فيه الأرض زينتها والطبيعة محاسنها، وهو يتسع لأبناء النعيم كما يتسع لأبناء الهموم. فإن الطبيعة ما برحت تجمع بين مضاحكة الجذلان ومؤاساة المحزون وهي لا كالبشر، يجد فيها المسرور ألهيته والمغموم سلوته وتبدو لكل ناظر كما يحب أن يجدها. فلقد يراها الشجي كاسفة آسفة على حين يراها الخلي مقهقهة ضاحكة، وقد تبرز لهذا في صدار الحداد وهي لغيره بارزة في حلة العرس. وما بها من ختل أو نفاق وإنما هي مرآة النفوس وصدى خواطر الأفكار.

ولقد ألفت أن أتردد إليها بين حين وحين. فأجوس بين أنحائها وأتظلل بأفيائها وأمتع النظر بين أرضها وسمائها. وخضرتها ومائها. فخرجت إليها أصيل يوم من أيام هذا الربيع القائظ. فإذا المركبات كما عهدتها تترى بكل نبيل أو جميل. من مشمخر شامس أو مزور شاوس ينظرون إلى السابلة نظرة قادم من المريخ أو عطارد كأنما أولئك أبناء نوع غريب من البشر. أو كأنما الناس قد انقسموا إلى فصيلتين. فصيلة تدور على الدواليب وفصيلة تدوس على الأقدام.

فأعرضت عنهم. فإن هؤلاء الحمقى إنما يتيهون علي بعيني لا بأعينهم. ويتأنقون لأراهم لا ليروا أنفسهم. فمالي لا أغمض طرفي عنهم. وأدير بصري عن جيادهم وبراذينهم. لئلا يظنوا استحساني لها أو إعجابي بها. استحساناً لهم أو إعجاباً بهم؟؟

قلت صعروا خدودهم أيها الأغنياء فما ذهبكم بجاعلكم أكبر قدراً عندي من تراب المناجم. وأني لأحسد بقعة الأرض على ما بها من تبر كما أحسدكم على ما لديكم من نضار. كلاكما واحد. والتراب قد يخصب فيثمر وأنتم تربة مجدبة لا تثمرون. إن أنتم إلا صناديق من اللحم والعظام.

ونظرت إلى بنات حواء المتباهيات بميراثهن منها. وما أجدر الخجل بمكان الصعر من خدود أكثرهن. فقلت كفاك يا عين تخدعيننا بجمال وراءه من الدنس ما يشين طهارة الملائكة ويعيب جمال الحور.

ثم نظرت إلى النيل فإذا مراكب طافية. فوق لجة ضافية. تحت سماء صافية. بين طبيعة متثائبة غافية. فنسيت الناس وذكرت قول البهاء زهير:

حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات

هات زدني من الحديث عن النيل ... ودعني من دجلة والفرات ولياليّ في الجزيرة والجيزة ... فيما اشتهيت من لذات

بين روض حكي ظهور الطواويـ - س وجو حكى بطون البزاة

حيث مجرى الخليج كالحية الرقطاء ... بين الرياض والجنات

فقلت لقد صدق وأجاد. فهذه الجيزة عن يميني والجزيرة عن يساري. وهذا الروض في الأرض. والسماء في الفضاء لا تزال كما وصف. والنيل في مجرى الخليج يجري كما كان. وها هي مراكبه مصعدة منحدرة. فكل شيء في قول البهاء باق على عهده إلا قائله:

هي الدار ما حالت لعمري عهودها ... ولا افتقدت من زيها غير ناسها

وكذلك نرى كيف تقصر حياة الفرد في خلود النوع. فكم أينعت هنا زهرة بعد زهرة. وجرت قطرة على أثر قطرة. وهبت نسمة خلف نسمة. وأقفر روض فأزهر روض. وأقوت دار فقامت دار. ومات رجل فنشأ رجل. تغيرت الأجزاء والكل باق لم يتغير. ولعلي جئت بعد ذلك القائل لأقول:

أيها النيل كم سقيت ثغوراً ... وزهوراً على الربي باسمات

كوثر الأرض أنت في مصر هيها - ت تجاري في الطيب والنفحات

قد سوا ماءك الطهور قديماً ... وأنابوا إليك بالصلوات

كم عروس زفت إليك وأنت البا - رد الصدر من غرام البنات

فتعوضت عن زلالك منهم ... بدموع الآباء والأمهات

كنت تروي من أصبح اليوم ظمآ - ن ببطن الثرى لماء الحياة

كم توالى الورى وأنت كما كنت ... م قديماً تجري بغير التفاف

إنما العيش ما استطال حياة ... لممات وألفته لشتات

وبعد سبعة قرون. ربما أعاد الزمان تمثيل هذا المنظر على ملعب الطبيعة فتراءى بنيله ومراكبه وروضه وجوه وشاعره. فماذا عسى ذلك الشاعر سيقول؟؟

3

سارتور ريزارتوس

لنا صديق أديب، خلع عليه السعد برداً قشيباً بعد أن درجه الزمن في برد من القطوب والشحوب. فكان كأنما ولد فيه من جديد أو كأنما تقمصت روحه بدناً غير بدنه. وكان - أطال الله بقاءه - قد أيس أهابه من أن يلامس دثاراً مفصلاً قبل ذلك الدثار الأخير. الذي لا يضن به الدهر على غني أو فقير. وقد كان لا يروقه منا أن ندعو له بطول البقاء ويتمثل قول المعري:

تدعو بطول العمر أفواهنا ... لمن تناهى القلب في وده

نفرح أن مد بقاء له ... وكل ما يكره في مده

فأما الآن وقد خلع أطماره الأولى على البؤس ونضى عنه معها تلك الحياة الرثة ليلبس حياة أبناء الزي والجديلة. فأحسب أنه قد اقترن أجل الحلة بأجله. نبات يطلب البقاء لأجلها أن لم يكن لأجله.

وقد أرسل إلينا هذه الدعوة.

حضرة الصديق

أتشرف بدعوتكم لحضور الاحتفال بتدشيني في أهابي الجديد وذلك مساء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير المبارك! في المنزل. . . . . أبقاكم الله رافلين في سرابيل الصحة والعافية. الداعي

فلبينا الدعوة سراعاً. وكيف لا نلبيها وهذا مشهد لا تراه العين مراراً؟؟

أذاعوا أن الشمس سيعروها الكسوف يوماً من الأيام. فأهرع المنجمون من كل فج إلى مصر. يقلبون في أسطر لاباتهم عيوناً ويسدون إلى ذكاء آماق المجاهر والمقربات.

ثم قفلوا إلى بلادهم وقد حسبوا أنهم آبوا بالغنم الكبير. والعلم الوفير. فهل ترى مشهد أم الضياء في أزرها السوداء. أغرب في مجرى الطبيعة من ظهور صديقنا الأسود في ذلك الكساء الوضاء!!

ثم استقربنا المقام. وكان صديقنا يدور بيننا في ثيابه الأولى. فما هو إلا أن غفلنا عنه فتسرب إلى غرفته ثم برز لنا في حلته الطريفة. فكان كأولئك الممثلين الذين يدخلون في أسمال المتسولين. ثم يأوبون من باب آخر في طيالسة الملوك والسلاطين. فأنكرناه وما عرفناه. فقال عجباً! أكذلك تنسون صديقكم القديم!! ثم ضحك ضحكته التي نعرفها. فصحنا جميعاً نعم نعم. عبد الكريم! عبد الكريم!

وما ابتدع صاحبنا بحفلته بدعاً فذلك أمر عرفته الأمم منذ كانت. فلا ترون الملوك يقيمون الملأ ويقعدونه لوضع تلك القلنسوة التي يسمونها تاجاً وتلك العباءة التي يدعونها طيلساناً وتعصية العصا التي يجعلونها صولجاناً؟؟

هذا والقلانس والطيالس عندهم كثيرة. والعصى والسياط بحمد الله في أيديهم وأكثر! ولكن الناس لا يفتأون يتخذون بدعة الكبير سنة وسنة الفقير بدعة. وما هم في ذلك بمنصفين.

وبعد أن شربنا نخب اللابس والملبوس. وباركنا للعريس والعروس قلت أهنئه وأرجو أن لا يكون هذا آخر ما أقول له من هذا الطراز:

عبد الكريم أأنت حيث أراكا! ... أني حسبتك في الثياب سواكا

الله أكبر هل غدوت بسحرها ... جنا نراك كما يشاء هواكا

لو كنت مبدل لون جلدك أبيضا ... ما كان يدهشني كثوبك ذاكا

أني لأصبح برهمياً مؤمناً ... بتناسخ الأرواح حين أراكا

ليس الذي سوى ثيابك خائطاً ... بل كان ربا ثانياً سواكا!!

أنت الدليل على أناس أنكروا ... حشر الجسوم وآثروا الإشراكا

فاطرح رداء البؤس والبس بعده ... برد النعيم وطف هنا وهناكا

قد طال أسرك في الديار فلا تخف ... فالآن نلت من الشقاء فكاكا

عباس محمود العقاد