مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/قانون الحب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/قانون الحب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1921


حب الوطن

هذا بحث جديد نقتطفه من كتاب ممتع شعري النزعة رائع الأسلوب. هوكتاب (قانون الحب) وضعه كاتب من مشهوري كتاب فرنسا المعاصرين. وهومسيوجافير، قصر الجزء الخامس منه على (حب الوطن) وأفاض في هذا الموضوع وتناول الوطنية من جميع نواحيها. فخرج كتابه سفرا جديدا في موضوع لم يسبق لكاتب أن جمع شتاته بين جلدتي كتاب.

الوطن - هوتلك الشخصية الإنسانية السامية الثابتة المستكملة التي أرسلتها القوة الإلهية لتكون رادعا للنزعة الأنانية مطهرة لمساويها. ذهابة بدناآتها.

إن الفرد منا مدين بكل شيء للبان أمه. والإنسان الاجتماعي مدين بكل ما ملك لسلطان وطنه. وليس البون الذي يفصل بين الهمجي وبين المتحضر إلا دليلا بيناً على فضل أمنا الأولى - وطننا المقدس - على كل فرد منا. فكل ما لدينا من الخيرات المادية والاجتماعية والخلقية والذهنية إنما استمددناه من سلسلة مستطيلة من حقب الحياة الاجتماعية، من تلك الأجيال التي كدت وناضلت وتألمت وانتصرت، لتخلف لنا أثرا أهليا وتنفي عن سلالتها والأجيال المنحدرة بعدها ذلك التخبط الذي عانته هي وأحست آلامه. بل إن حريتنا ليست إلا نسيجا من آلام الملايين من المخلوقات التي ناضلت لتحبونا به قويا متينا كاملا. بل إن الدعة التي ننعم اليوم بها لم تقم إلا على أكداس من أولئك الشهداء الذين سالت دمائهم في سبيل الظفر بها لأجلنا. وإن فنوننا وعلومنا وخيرنا ليست إلا ثمار تلك المتاعب ونتاج تلك المجهودات التي بذلها أولئك الأسلاف العاملون الذين يضطجعون اليوم في مساكن الآخرة. أولئك الذين ارتضوا الموت معذبين متألمين في سبيل إسعادنا بثمرات أعمالهم.

فأي رجل من الحمق والبلاهة بحيث يجرؤ أن يقول أنه غير مدين بفضل ما لوطنه. إن أمنا الأولى تتخلى عن العناية بنا منذ اليوم الذي يوحي فيه إلينا شعورنا بالحياة أننا قد صرنا أقوياء، وأن أسرتنا لتكف عن عوننا منذ اليوم الذي نبح فيه قادرين على أن نخلق نحن أسرة مثلها. وننشئ عشيرة على غرارها: ولكن ليس في العالم كله رجل متحضر يستطيع في أي مرحلة من مراحل العمر أن يجد غناء عن وطنه.

إن روح الوطن لتنفذ في جميع هذه العناصر التي تحوطنا والتي نعيش عليها فالأرض التي تطؤها نعالنا ليست إلا دقيق عظام الموتى. والهواء الذي ننشقه يحمل إلى شواطئ أرواحنا عبق فيض الوطن. بل إن شمس وطننا وسرحاته وأوديته وجباله وأنهاره وسهوله ليست إلا دروسا ومعاهد وابتسامات ومباهج لا نجدها في أفق غير أفقنا وأرض سوى أرضنا.

إن تلك المناظر التي نجلوبها أعيننا واللغة التي تصب في أسماعنا والمشاعر التي نستسر في نفوسنا. كل أولئك هو (الوطن) الذي بذل نفسه لنا ويوحي إلينا أننا لا نستطيع بذرة واحدة من ذرات أرواحنا أن نستكفي عن حنانه ونستغني عن عاطفته وعناقاته الجميلة الناعمة.

ليس في العالم شعب لم يرجف ولم يثب إحساسه على ذكر كلمة (الوطن) ولم.