مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/رأس العائلة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/رأس العائلة

ملاحظات: رأس العائلة Отец семейства هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1885. نشرت هذه الترجمة في العدد 61 من مجلة البيان للبرقوقي الذي صدر بتاريخ 1 أكتوبر 1921



للروائي الكبير أنطون تشيخوف

جرت العادة بأن ستيبان ستيبانتش زيخلين إذا خسر كثيرا في لعب الورق أو سكر سكرة طافحة وابتدأ ينتابه سوء الهضم - أن يصحوا من نومه وهو في أشد حالات الضيق والغم. فتراه منقلب السحنة ضيق الصدر منفوش الشعر وعلى وجهه الأكلح أمارة السخط كأنما أبرمه شيء أو أغضبه أمر فيرتدي ثيابه متمهلا ويجرع (ماء فيشي) متأدا ثم يبدأ يجول في غرف البيت.

ـ (أريد أن أرف من الحيوان الذي دخل هنا ولم يغلق الباب!) يقول ذلك وهو يبرطل غضبا ويحبك ثوبه على نفسه ويبصق بصاقا عاليا (خذوا هذه الورقة الملقاة! لماذا ترمي هنا؟ عندنا أكثر من عشرين خادمة والبيت أقذر من حانة. من هذا الذي يدق الجرس؟ أي شيطان هو؟).

ـ فتجيبه زوجته قائلة (هذه أنفيسة القابلة التي أتت بابننا فيديا إلى الدنيا).

ـ دائما داخلة خارجة. . . هؤلاء الشباحين المتملقين!.

ـ لا أحد يستطيع أن يفهمك ياستيبان ستيبانتش. أنك أنت الذي طلبت حضورها والآن تغضب وتصخب.

ـ أنا لست غاضبا بل أنا أتكلم. وأنت يا عزيزتي ألا يمكنك أن تجدي عملا تعملينه بدل أن تجلسي هكذا ويداك في حجرك تتربصين مشاكسة وشجارا. لعمري إن النساء فهمهن فوق عقلي! فوق عقلي! كيف يستطعن أن يقضين أياما طوالا لا يعملون شيأ؟ إن الرجل يشتغل كالثور. . . كالحيوان. . . بينما زوجته وشريكة حياته تجلس كالعروس الحلوة، لا تعمل عملا سوى أن ترقب فرصة للمشاكسة مع زوجها من باب التسلية! لقد آن أن تتركي هذه الأعمال الصبيانية المدرسية يا عزيزتي. إنك لست تلميذة الآن بل ولا سيدة غضة الشباب، أنت زوجة وأم؟ تولينني ظهرك؟ آه! إن سماع الحقائق المرة لا يساغ!.

ـ من الغريب أنك لا تتكلم عن هذه الحقائق المرة إلا عندما تشعر بألم في كبدك.

ـ حسنا إنك تثيرين شجارا.

ـ هل سهرت الليلة البارحة؟ أم لعبة الورق؟ ـ وماذا علي إذا فعلت؟ هل هذا من شأن أحد غيري؟ أيجب علي أن أقدم حسابا عن أعمالي لأحد؟ إن ما أخسره هي أموالي أنا على ما أظن إن ما أصرفه وما يصرف في هذا البيت جميعه إنما هو مالي أنا - أنا. أسامع ما أقول؟ مالي أنا) وهكذا على هذه النغمة. ولكن ستيبان ستبانيتش لا يتجلى عدله وفضله ووقاره وحلمه إلا في وقت الغداء. ويبتدئ الفصل عادة بالحساء. فيتناول زيخلين أول جرعة منها ثم يقطب وجهه فجأة ويضع الملعقة مدمدما: تبا لهذا! لم يبق إلا أن آكل في المطعم!.

ـ فتبادر زوجته بسؤال جازعةماذا هل هناك شيء؟ أليست المرقة طيبة؟

يجب أن يكون للإنسان ذوق خنزير يستطيع أن يأكل مثل هذه الحثالة أنها ممتلئة ملحا، ورائحتها مثل رائحة الخرقالقذرة. . . رائحة حشرات لا بصل. . . أن هذا الشيء محزن ومهيج يا أنفيسا أفانوفنا مخاطبا بذلك القابلةكل يوم أدفع مبالغ طائلة. . . . وأحرم نفسي كل شيء. . . وهذا ما يقدمونه طعاما لغدائي لعلهم يريدون مني أن أترك الوظيفة وأطبخ الطعام!.

ـ فتجيبه القابلة خجلة مترددةإن الحساء لذيذة جدا اليوم.

فيرد عليها زيخلين ناظرة إليها بطرف عينه نظرة غضبأتظنين ذلك؟ كل إنسان وذوقه طبعا. والظاهر أنني وإياك مختلفان جدا في أذوقنا فأنت مثلا راضية عن أخلاق هذا الصبي. ويشير إشارة منفعلة إلى ولده فيديا. إنك مسرورة به. أما أنا. . . فشديدة الاستياء منه؟.

فيديا هذا صبي عمره سبع سنوات بوجه أصفر سقيم ناحل. فما يطرق سمعه هذا حتى يكف عن الأكل ويرخي بصره إلى الأرض ووجه يزداد اصفرارا.

ـ نعكم إنك مسرورة به أمات أنا فصاحت عليه. ولا أعرف أينا المخطئ أو المصيب، ولكني أستطيع أن أقول بصفتي أبا له أني أعرف ولدي أكثر منك. انظري إليه كيف يجلس. أهذه جلسة الولد المتربي تربية حسنة! اجلس معتدلا فيرفع فيديا ذقنه ويميل برقبته حاسبا أنه قد اعتدل في هيئته. وتزدحم الدموع في عينه.

تناول غداؤك! امسك ملعقتك جيدا انظر إلي. سأريك كيف تأكل أيها الولد الملعون؟ إياك أن تجهش؟ انظر إلي جيدا.

ويجتهد فيديا أن ينظر إليه ولكن وجهه يرتعد وعيناه مغرورقتان بالدموع.

آه. . . أنت تبكي؟ أمع خبثك هذا تبكي اذهب وقف في ركن الغرفة يا حيوان؟

فتتدخل زوجت قائلةولكن. . . دعه يتمم أولا غداؤه

لا غداء له؟ مثل هذا الشرير لا يستحق طعاما!

فيترك فيديا كرسيه ويذهب إلى ركن الغرفة وهوز ينتحب ويرتعد.

ـ ويستمر أبوه قائلاأتظن أنك تنجو من يدي بمثل هذا؟ وإذا كان لا أحد يهتم بتربيتك، حسنا فسوف أبدأ أنا. . . وسوف لا أدعك تبكي مرة أخرى على المائدة! أيها المجنون! يجب عليك أن تؤدي واجباتك؟ أتفهم ما أقول؟ قم بواجبك؟ إن أباك يشتغل فعليك أن تشتغل أيض1ا؟ لا أحد يأكل خبز الكسل والبطالة؟ كن رجلا؟ رجلا.

ـ فتكلمه زوجته بالفرنسية قائلةأستحلفك بالله أن تدعه الآن. كف قليلا عن شجارك الدائم معنا ولو أمام الغرباء. . . إن القابلة كلها آذان إليك وسوف يعرف أهل القرية بشأنها.

ـ فيرد زيخلين بالروسية قائلاأنا لست خائفا من الغرباء. أن إن إنفيسا أفانوفنا ترى أني أتكلم الحق. ماذا، هل تريدون مني أم أكون مسرورا بهذا الصبي؟ أتدرون كم يكلفني؟ أتدري أيه الولد الشقي كم أنفق عليك؟ أم هل تحسب أني أصك النقود عندي أو أتقاضها بلا مقابل! كفى عويلا؟ اخرس! ألا تسمع ما أقول؟ أتريد أن أجلدك بالسوط أيها الولد الشرير؟ نا ـ أنا. .

ويعول فيديا عويلا عاليا ويبتدئ في النشيج.

وهنا ترمي زوجته المنشفة وتقوم عن المائدة قائلة (غن هذا شيء لا يطاق لا تدعنا نتناول غداؤنا أبدا بسلام! عن الأكل يقف في زوري.) وتضع منديلها على عينيها وتغادر الغرفة.

ـ فيفتر زيخلين عن ابتسامة مغتصبة (إنها غضبت الآن. . . من أقل شيء. . . دائما هكذا يا إنفيسا أفانوفنا. لا أحد يروقه سماع الحق في هذه الأيام وكل هذا ذنبي على ما يظهر.).

ويعقب ذلك سكوت بضع دقائق. وينظر زيخلين حوله فيجد أن الطعام باق لم يمسه أحد، حتى الحساء على حاله. فيتنهد تنهدا عميقا فيحدق في وجه القابلة المتورد الحائر.

ـ (لماذ1الا تأكلين يا إنفيسا؟ أغاضبة أنت أيضا؟. . . لقد فهمت. . . أنتم لا تحبون قول الحق. ولكن صفحا، فهذه طبيعتي، لا أستطيع أن أكون مرائيا، غني أقذف دائما بالحقيقة الجافة) ويتنهد (ولكني أرى أن وجودي بينكم يضايقكم. لا أحد ياكل أو يتكلم ما دمت هنا، حسنا، كان يجب أن تخبروني بذلك وأنا أترككم. . . سأترككم الآن.).

وينهض عن كرسيه ويمشي نحو الباب بتؤدة، وعندما يمر يفيديا وهو واقف يبكي يقول له (لقد عفوت عنك بعد كل الذي فعلته) ويرفع رأسع بعظمة ويقول (سوف لا أتدخل في امر تربيتك مرة أخرى. لقد نفضت يدي منك! إني اعتذر بصفتي أبا يريد من قلبه مصلحتك الحقيقية على ما سببته لك ولهم من الكدر. وأخبركم في الوقت نفسه أني أخلي نفسي من كل مسؤولية نحو مستقبلك. . . .).

ويعول فيديا بصوت أعلى من قبل. فيغادره زيخلين سائرا بجلال إلى غرفة نومه فإذا صحا من نومه بعد الغداء بدا يحس تأنيب ضمير، ويخجل من مقابلة زوجته وولده وإنفيسا، ويشتد كدره وغمه كل ما تذكر ما حدث في وقت الغداء، ولكنه يستكبر أن يعترف بخطاه، وليست عند الرجولة الكافية ليكون صريحا، فيستمر على عبوسته وصخبه.

فإذا صحا في اليوم التالي عاوده سروره وابتهاجه وأخذ يصفر بفمه وهو يغسل وجهه، ثم يذهب إلى غرفة المائدة للفطور فيجد هناك ابنه فيديا الذي يقف جازعا يائسا ناظرا إلى وجه ابيه.

فيحيه زيخلين بانشراح ويجلس إلى المائدة قائلا (كيف أنت أيها الرجل الصغير، ما عندك من الحكايات لتقصها علينا؟ تعال أيها الولد السمين أقبل أباك قبلة).

فيمشي فيديا بوجه هادئ ممتقع حتى يصل إلى أبيه فيلمس خده بشفتين مرتعشتين، ثم يقفل راجعا ويجلس في كرسيه دون أن ينبس بكلمة.