مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/أساليب الكتابة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/أساليب الكتابة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 3 - 1912



إلى محمد حسين هيكل

للفاضل إبراهيم عبد القادر المازني

نعيت على كتاب البيان اختلاف أساليبهم وفخامة تراكيبهم وعدولهم كما زعمت عن مذاهبه السهولة إلى جفوة الأعراب وخشونة البادية وقلت أن اللفظ السهل يخف محمله على السمع ويسهل جريه على اللسان ووروده على الطبع وأنه ما ملكت القلوب ولا استرقت الإفهام واختلبت الألباب بمثل اللفظ الواضح المشرق الذي يجلي عن نفسه ويشف ظاهره عن باطنه ويمهد له وطاء الطبع قبل أن تمتلئ منه العين وهو كلام ليس فيه مساغ للطعن أو مجاز للشبهة وقد كنت ألومهم معك وأعذرك منهم لو كانوا أثاروا كما زعمت مدفون الألفاظ واستخرجوا مهجور الكلام ولم تذهب أنت إلى ما هو أبعد من ذلك حيث جعلت النزول إلى درجة البسطاء والانحطاط إلى مرتبة العوام فرضاً على الكاتب واجب الأداء وقد نسيت صانك الله أن لكل مقام مقالاً ولكل طبقة كتاباً ولكل صحيفة قراء فإن كان ظني صادقاً وكان قد غاب ذلك عنك فأعلم وأنت المجرب العارف والعوان لا تُعلّم الخمرة أن ما تدعوننا إليه لا يقدمنا خطوة وإن كان يؤخرنا عشراً لأن في الناس العالم والجاهل والكاتب لا يستطيع أن يولج المعنى أفهامهم على السواء مهما تبذل في أساليبه وتسفل في تراكيبه والرجل لا يكتب ليقرأ كل الناس ولقد رأيت لك كلمة في البيان في الجمال والحب وأثرهما في الحياة فهل حسبت أن كل قراء البيان قد قرأوها أو أن كل الذين طالعوها فهموها على قرب منالها وسهولة أسلوبها وإذ كنت خبيراً بأسرار الجمال وكنت عارفاً بموارد الكلام ومصادره خبيراً بمحاسنه ومساوئه فهلا ذكرت أن اللفظ المهذب والديباجة الأنيقة موقعاً في القلب ومخالطة للنفس وهل كان عمر بن أبي ربيعة يبلغ من معشوقاته مثل ما بلغ لو كان قال لهن أحبكن وسكت وبماذا فتن الناس بشار وهو أعمى مشوه الوجه؟ أليس بحلاوة لفظه ورشاقة معناه وهل ترى للجاحظ إلا لفظاً منضداً وسياقاً مطرداً وحبكاً جيداً وكلاماً منسجماً وهو مع ذلك من أكابر الكتاب ومشاهير المترسلين فإن قلت ذاك زمان وهذا زمان قلنا لك أن البلاغة في كل زمان نصفها لفظ لأن اللفظ جسم وروحه المعنى فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للكلام وهجنة عليه لا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ واللفظ الرث يفسد المعنى والشائق من الألفاظ يزينه ولو كان مبتذلاً. أنظر إلى قول جرير (ويروي للمعلوط السعدي):

إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا

غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا

هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته بسيطاً وانظر قول بشار:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ... ذُرى منبر صلى علينا وسلما

فهذا كلام فخم جزل وهو أذل على القوة وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار ثم انظر إلى قول لبيد:

ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح

فهذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق وكذلك قول النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة ... تَمد بها أيد إليك نوازع

فإن ألفاظه ليست جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد أنت في قدرتك علي كخطاطيف عقف وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف على أن المعني ليس جيداً ولا غنى بالكاتب الذي يحاول أن يملك أعناق المعاني ورقاب الخواطر ولا الخطيب الذي يريد أن يضع لسانه حيث شاء عن الإقتداء بالأولين والاقتباس من المتقدمين واحتذاء مثال السابقين فيما سلكوه من طرقهم ونهجوه من سبلهم والمقلُّ من الألفاظ يعجز عن ذلك واللفظ أصلحك الله زينة المعنى وأن يكن المعنى عمادَ اللفظ فليس ينبغي أن تكون الألفاظ غير مشاكلة للمعاني في حسنها ولا المعاني غير مشابهة للألفاظ في جمالها وما مثل المعنى الرائع في اللفظ المبتذل إلا كمثل المليحة الحسناء في طمر خلق وبراعة الشكل وظرف الهيئة نصف الجمال ونصفه الثاني حسن المُجَرَّد فليست عناية الكاتب باللفظ إلا كعناية الغادة بثيابها واللفظ أغلى من المعنى ثمناً وأعز مطلباً فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل في الكتابة الأدبية على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف ألا ترى لو أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر وفي الإقدام بالأسد وفي المضاء بالسيف وفي العزم بالسيل وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة لم يكن للمعنى قدر. وعلى قدر تفاوت اللفظ يتفاوت حسن المعنى انظر إلى قول المتنبي في استعطافه المشهور:

وكيف ينم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب

وقول الآخر:

فإن انتقم منه أكن مثل رائش ... سهام عدو يستهاض بها العظم

وقول قيس بن زهير:

فإن اك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني

وقول الحرث بن وعلة:

قومي هُم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لا عفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي

وقول العديل:

وأني وإن عاديتهم أو جفوتهم ... لتألم مما علّ أكبادهم كبدي

وقول النميري:

فإنك حين تبلغهم أذاة ... وإن ظلموا لمحترق الضمير

فقد جاؤا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك ومن جهة الإيجاز في اللفظ وهذا مثال آخر قال النابغة:

إذا ما غزا بالجيش حلقّ فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب

جوانح قد أثبتن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غائب

وقال أبو نواس:

يتوخى الطير غدوته ... ثقة باللحم من جزره

وقال مسلم بن الوليد:

وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل وقال المتنبي وقد خرج إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وصار كأنه المبتدع لهذا المعنى:

وذي لجب لاذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم

تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم

فأما كون الناس ليسوا كلهم أدباء فلا ينبغي أن نكلفهم فهم مالا يعرفون فصحيح ولكن الذنب في ذلك ليس للكاتب الذي يصور ما يتمثل له من الخواطر على الأسلوب العربي الصحيح بل للذين لا يعلمون النشء علوم اللسان ويقفونهم على أخبار العرب ويروونهم أشعارها وأمثالها وللذين لو شاؤا لمهروا فيها وملكوا عنانها وتوسطوا باحتها. (متلو)