مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/محاوره بين الطبيعة وإحدى النفوس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/محاوره بين الطبيعة وإحدى النفوس

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1920



للشاعر الإيطالي الخالد ليوباردي

الطبيعة: اذهبي الآن يا ابنتي المحبوبة إلى الحياة وكوني عظيمة بائسة

النفس: ألم تقدري التعاسة والشقاء

الطبيعة: لأني جعلت العظمة من نصيبك ولا يمكن أن تكوني عظيمة دون أن تكوني شقية، ومما يزيد الأمر تعقيداً أو إشكالاً أنه قد قضى عليك بأن تسكني جسماً بشرياً وكل البشر بالضرورة في الشقاء من ساعة يولدون.

النفس: وبدلاً من أن يكون ذلك كذلك أما كان الأفضل في الرأي والأرجح في العقل أن تحتاطي وتهيئ لهم وسائل السعادة وأسباب الرفاهة وإذا كان ذلك من وراء قوتك فإنه كان يحمل بك أن تكفي عن وضعهم في الدنيا.

الطبيعة: كلا الطريقين ليس في قدرتي لأني أنا نفسي عبدة الأقدار التي سيرت الأمور وأدارت الأحوال على خلاف ذلك ومهما كانت العلة في ذلك فإنه ليس في وسعك ولا في وسعي أن نسبر غورها ونستكشف دخائلها والآن وقد عرفت انك خلقت وقدر عليك أن تحتلي جسماً بشرياً فإنه ليس بي ولا بأي مخلوق آخر من راسخ القوة وصادق القدرة ما نستطيع أن نرد به عنك عوادي الشقاء وطوائح المحن وفوق ذلك فإنه بسبب نلك وسبقك وتبريزك سيكون نصيبك من الشقاء أكبر من نصيب غيرك.

النفس: لحداثة مجيئي إلى الأرض فإن أمامي أشياء كثيرة لاحفظها ومن أجل ذلك لا أستطيع أن أفهمك الآن كل الفهم وكلن اخبريني هل الشرف الشقاء المتزايد هما واحد في المادة والعنصر وإذا لم تكونا كذلك أليس في وسعك أن تفرقي بينهما.

الطبيعة: في أحوال أفنسان والحقيقة إلى حد خاص في سائر صنوف الحيوانات يمكننا أن نقول بأن هذين الشيئين - النبل والشقاء_هما في التجربة والواقع شيء واحد لأنه كلما سمت المواهب وحفلت القرائح وأرهفت الخواطر سهل إدراك أحوال الحياة وشوؤنها ووضح الشقاء المرتبط بالوجود وبذلك يضير ذلك الشقاء نفسه واضحاً مجسماً وفي الوقت نفسه فإن تلك الحدة في الإدراك تقضي إلى توسيع نطاق حب النفس ونزيد التوقان إلى ظل السعادة الرطيب ونواحيه المصقولة المخضلة ذلك التوقان الذي ينتهي باضرام الأ وإيقاظ الألم في نفوسنا لعجزنا عن إدراكها ولعدم تحملنا مثالب الحياة وشرورها التي لا تدفع ولا مرد لها وكل ذلك قد أركز من الأولية والبدء في تركيب الأشياء المخلوقة الأبدي الذي من فوق قوتي تعديله وتبديله. ط

، اكثر من ذلك فإن مضاء عقلك باقترانه إلى خيالك المتوثب يقلصان من ظل سلطتك على عواطفك، وأن الحيوانات الوضيعة إنما تستعمل مواهبها وقواتها إلى الوصول إلى الغايات التي تجعلها نصب عيونها ولكن الإنسان يترك ملكاته طليقة مرخية العنان وقوته العملية بقدر ما معطلة مشلولة بتأثير الفكر والخيال اللذين يحشدان على تفكيره الشكوك الكثيرة ويقيمان عقبات عدة في سبيل تنفيذ مقاصدهم وبلوغ مآربهم وإن أقلهم مقدرة في رنة الأفكار وتحليل الأغراض وأبعدهم من الانكاب على هذه العادة هم الأكثر مضاء في عزائمهم والأكثر توجهاً إلى أغراضهم ومطالبهم بينما الأفراد نظراؤك النازعون في التفكير في نفوسهم والذين قوتهم معرقلة موقوفة بسبب ضخامتها هم في الغالب عاجزون عن إدراك الغايات العملية مقصرون عن شأوها وهم هدف لتكسر العزم وتضعضعه سواء في الفكر أو في العمل وهذا من أبلغ أسباب فشلهم وخيبتهم.

زد على ذلك أنه لسمو مداركك يسهل لديك أن تبزي رفقاءك في عمق المعرفة وفسحة الخطوة في العلم وأن تفهمي ما تجسر دونه افهامهم وتكل عن إدراكه أفكارهم ولكن على رغم كل ذلك فإنك ستجدين أنه من الصعب المستحيل عليك أن تخرجي إلى ميدان العمل أشياء كثيرة ضئيلة في المظهر قميئة في الصورة ولكنها أشد لوازم شؤون الحياة وفي الوقت نفسه ترين هذه الأشياء نفسها وقد أتقنتها بغير عناء وإجهاد قوم أقل منك في مراتب العقل والملكات إن لم يكن في أخلاقهم ما يبعث على الاحتقار ولازدراء وهذه العوائق والعثرات وأمثالها تحدق بالارواح الكبيرة وتول بينها وبين النجاح وجزاء هذه الأرواح على تحمل كل هذه النكبات والدروس القاسية هو الشهرة الواسعة والاشادة بالذكر وما تناله من لشرف لعظمتها وبقاء ذكرها مخلد الرونق دائم الريعان.

النفس: ولكن من الذي يصوغ لي عقود الثناء ويكيل لي التمداح ويخلع على حلل الشرف الذي تتحدثين وهل كل ذلك سيأتي إلي من السماوات العلى أو منك أو ممن؟

الطبيعة: سيقوم بذلك البشر إذ لا أحد غيرهم يستطيعه.

النفس: ولكني اتوسل إليك أبتهل في أن تتبصري وتفكري معي وقد سنح بخاطري أنه من حيث أتى سأعجز عن القيام بأعمال لازمة لأحوال البشر وشؤونهم وهذه الأعمال نفسها يستطيع - كما تزعمين_أن ينهض بها أفقر الناس ذهناً وأضاء لهم عقلاً وأسخفهم فكراً فإن نتيجة ذلك هي أني بدلاً من أن تنظم لي الأماديح ويحاز على بالشرف والتبجيل أكون رديئة للذام والسباب والتجريح والطعن أو على الأقل يتجنبونني ويفرون مني كإنسان غير صالح للحياة بينهم.

الطبيعة: لم أوت علم الغيوب وقراءة المستقبل بدقة مطلقة فليس في مقدروي أن أتنبأ بصدق بكل ما يمكن أن يجول في ظنون الناس ويطوف بخواطرهم من ناحيتك أثناء إقامتك في الأرض ولكن من طريق القياس على تجاربي الماضية يمكنني أن أحكم أنه من المتوقع والمحتمل أن نفوسهم ستغتلى بالحسد لكِ وتتلظي بالحقد عليك فإن ذلك نصيب النفوس النبيلة المنازع الشريفة الغايات أو يدرون صفاءك ويغيمون جوك بالسخرية والاستهزاء أو بالاطراح والاهمال وان الحظ نفسه سيتهضمك وتخونك الصدف فيما تخون.

وعلى رغم كل ذلك فإنه بعد موتك - كما حدث لكاميونز أو كما حدث من أعوام قلائل لآخر يسمى ملتون - يثني عليك وينوه بذكرك ويحلق به إلى السماوات لا أقول من كل الناس وإنما من الفرق القليل الذي يملك هبة الفهم والقدرة على التمييز والحكم - وربما تجاليد الإنسان الذي كنت تسكنينه عى الأرض تنزل في قبره وتحفظ ملامح وجهه منقوشة على بعض المواد النفسية ليستعز بها الناس ويصف كثير من الكتاب حوادث حياته وتحفظ ذكراها حتى يصير لواء شهرته منشوراً في الآفاق وكل هذا محتمل الوقوع إلا إذا حيل بينك وبين إظهار مواهبك وإبداء أي برهان كاف على قيمتك بسبب لؤم القدر أو بسبب إفراط مواهبك في الاعتلاء والسمو كما حدث في حالات كثيرة أعرفها أنا والقدر.

النفس: انى - يا أمي - وإن كنت عاطلة عن المعرفة مجردة من العلم لأعرف حق المعرفة أن أقوي رغبة قد رميت بذورها في نفسي بل الرغبة التي أبدأ بها شاعرة ولها منتبهة متيقظة هي الرغبة في السعادة واني وإن كنت أجاريك في أني قد أكون طامعة في المجد وصعب العلى جديرة بالطموح إلى احتبار المفاخر واقتناء المآثر سواء كان ذلك خيراً أو شراً فإنه من الثابت الذي لا يدفع والأكيد الذي لا ينقض أني لا أتطلع إلى ذلك ولا أرغب فيه إذا كان لا يورثني السعادة أو على الأقل إذا يقذني إلى طريقها ويهديني سبيلها والآن طباقاً لما قلت فإن بوارع الصفات التي جدت على بها ونوادر المواهب التي منحتني إياها يجوز أن يكونا. . . . لأدراك الؤدد وبناء العلى ولكن من الواضح الجلي أنهما لا يسوقان إلى السعادة بل على عكس ذلك يقضيان إلى الشقاء وفوق كل ذلك فإنه يبدو لي أن تلك الصفات لا لتنليني الفخر إلا بعد موتي وإذ مت وطواني القبر فأي مغنم أصيبه من ذلك وأي هزة فرح تعروني من وراء ما تقدمه لي الأرض من المزايا والفوائد. وفي الختام فأنت نفسك تعترفين أن ذلك الخيال الموهوم من الفخر الذي يشترى بهذا الثمن الغالي من الشقاء والبأساء قد لا يتاح لي نواله أبدا ولو بعد الموت، وكون كل هذه الأشياء بهذا الوضع ومما ومما تبيتنه من معاريض كلامك أرى تفسي مضطرة إلى أن أعتقد أنك لا تضمرين لي الحب والولاء كما زعمت في مفتتح خطابك بل أنك في الحقيقة تحنين ضلوعك على مقتي وكرهي وإن كرهك لأشد وأبلغ من الكره الذي قد تضمره لي البشر والحظ أثناء إقامتي في الأرض وذلك لأنك لم تتريثي في أن تقدمي إلي هذه الهدية المشؤومةرمثل هذا النبل في الأخلاق الذي إنما نظرت عند إهدائه إلى مصلحتك الخاصة والذي قد أثبت أنه هو نفسه الحاجز المنبع القائم بيني وبين أعظم رغبات نفسي - الرغبة في السعادة.

الطبيعة: يا طفلتي إن نفوس البشر مقدر عليها التعس والبؤس وذلك على الرغم من مني ولكني بين ذلك الشقاء الطامي الذي هو نصيب كل مخلوق ولا عاصم منه وبين كل المسرات الفانية الزائلة فإن المجد هو أشد ما يستهوي نفوسهم وهو أعظم الخيرات التي يمكن أن تغدق عليهم وأنه أحق شيء بمجهوداتهم ومساعيهم ولذلك قد حبوتك بكل الصفات التي في استطاعتي منحها لتجتني ثمار هذا المجد وتهتصري أغصان ذلك الفخر وليس ذلك لكرهي لك وإنما من رغبة طيبة صادقة صريحة غير مؤتشبة في منفعتك.

النفس: حدثيني هل بين مخلوقاتك العديدة الوضيعة واحدة أقل مني حيوية واستعداد وقابلية للشعور.

الطبيعة: هذا مؤكد وأن تلك السلسلة من الأحياء التي تبدأ بالنبات إلى ما فوقه لتوجد مخلوقات بقدر ما أقل من الإنسان إحساساً وحيوية فإني قد أفردت الإنسان بغزارة الحياة ووفرة الشعور وذلك لأنه أكمل المخلوقات الأرضية.

النفس: ومن ثم - إذا كنت تضمرين لي صادق الحب فدعيني أسكن في أقل المخلوقات كمالاً وإذا عجزت عن ذلك فجرديني من تلك المواهب القاتلة التي تخالينها تشرفني واجعليني جديرة بسكني أضأل البشر عقلاً وأشدهم رقدة احساس.

الطبيعة: هذا في استطاعتي القيام به ومن حيث أنك تردين هبة الخلود التي قدرتها لك فأنا أميل إلى فعل ذلك معك.

النفس: عوضاً عن ذلك الخلود اصنعي معي معروفاً واجعلي لك على يدا وارسلي لي الموت العاجل.

الطبيعة: سأشاور القدر في ذلك. . . . .