مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/روح الإسلام
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/روح الإسلام
الأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير علي
لما ظهر محمد كان العالم لا عهد له بما يسمى الحقوق الدولية. فكانت الحرب إذا نشبت بين القبائل المختلفة أو الأمم المتنوعة، كانت نتيجتها أن القبيلة أو الأمة الفائزة تبطش بالأمة المغلوبة فتذبح رجالها وتسبي نساءها وتأسر عجزتها وصبيانها وتغنم أسلابها وتنهب متاع دورها وأثاث قصورها وتغصب عقارها وأموالها.
إن الرومان الذين استغرقوا ثلثمائة وألف عام في تكوين مجموعة قوانينهم ونظام شرائعهم لم يفطنوا قط إلى هذه المسألة الخطيرة. أعني واجبات السلوك الدولي، وفررائض المعاملات الإنسانية، فكان لا باعث لهم على الحرب والقتال إلا الرغبة في إخضاع الأمم المجاورة. وكانوا إذا انتصروا ففازوا بغرضهم من إخضاع الأمة المهزومة تحكموا فيها وضربوا على أيديها وساموها الخسف والضيم وتصرفوا فيها تصرف السيد في المسود. والأرباب في العبيد. كانوا إذا أبرموا عهداً مع المغلوب ثم بدا لهم أن ينكثوه لفائدة أو منفعة لم يترددوا في ذلك طرفة عين. وكانت حقوق حرية الشعوب المهزومة لا قيمة لها عندهم ولا تزن في نظرهم مثقال ذرة فلما دخلت النصرانية في العالم الروماني لم تحدث لأدنى تعبير أو تبديل في آراء مشرعي الرومان عن مسألة الواجبات الدولية بل بقيت الحرب على ما كانت عليه قبل من فظائع التخريب والعسف. والتدمير والحيف. ولضيم والإذلال. والإبادة والاستئصال. وذلك أن المسيحية أخلت نفسها ونفضت يدها من مسألة المعاملات الدولية والواجبات الإنسانية المتبادلة بين شعب وآخر - وبذلك تركت أربابها وأتباعها يتعسفون مجاهل الضلال في أسود ياجير الجهل والعماية.
والعجب العجاب أن ترى العلماء والمفكرين من فطاحل العصور الحديثة بدلاً من ان يعتدوا هذا عيباً في نظام المسيحية وخللاً في جهاز شريعتها سببه أن هذه الديانة كانت قد تركت عند هلاك مؤسسها في حالة نقص بين لم تستكمل أصولها ولم تستنم قواعدها - حاولوا تبريرها وتحبيذها! ضلة منهم وسفهاً مصدره الأهواء الزائغة والمحاباة الباطلة. وهذا لعمرك مذها جائر يقضي بأن ما يعد صواباً بالنسبة للأفراد يعتبر خطأ بالنسبة للأمم والعكس بالعكس. وهكذا بقيت الديانة وواجبات الآداب التعاملية بمعزل عن نظام القوانين والشرائع. فأصبحنا نرى الدين مع ادعائه أنه المنظم لما بين الأفراد من العلاقات والروابط لا يعترف بأن هنالك علاقات وروابط بين المجاميع المختلفة المؤلفة لجملة الإنسانية. وبذلك انحط الدين عن المنزلة اللائقة به وأصبح لا يعدو كونه تظاهراً بفيضان الوجدان والشعور أو طريقة لتبادل التقاريظ والاطراءات في مواطن الجمل ومواقف المناظرة - وإن كان (أي الدين) ربما ارتفع أحياناً إلى مرتبة الفلسفة الأخلاقية.
إن الأساس الذي عليه تقوم الحقوق الدولية وواجبات السلوك بين مختلف الأمم هو معاملة الشعوب كالأفراد والاعتراف بأن لهؤلاء من الحقوق مثل ما لاولئك وأن النظام الحقوقي للاثنين واحد. لأنه كما أن من الأفراد تتكون الشعوب فكذلك من الشعوب تتكون الإنسانية - فحقوق الأمم واوجبات المتبادلة بينها لا تختلف بوجه ما عما هو عليه كائن بين الفرد والفرد.
لا أنكر أن نهضة الكنيسة اللاتينية في غربي أوروبا وما اقتضى ذلك من توسيع سلطة الأساقفة بمدينة روما ومد نفوذهم قد أوجد في عالم النصرانية اللاتينية شيئاً من المسؤولية الدولية. وكلن هذا كان مقصوراً على اتباع كنيسة روما - أو كان في الأحايين القليلة يتناول عالم المسيحية الإغريقية على سبيل الامتنان والتفضل. أما سائر شعوب الأرض فكانت تحرم ثمرات هذه المسؤولية. حتى أصبح الدين يتخذ ذريعة للاعتداء على الأمم المستضعفة وحجة مبررة لاضطهادها واهتضام حقوقها فباسمه كان يرتكب في هذه السبيل كل جريمة وتقترف كل جناية. إذ كانت الكنيسة تصادق على كل فظائع السطو والاستلاب. وتؤمن على مظالم العسف والاغتصاب. وإذا أفرط الجبار المستبد في الظلم والحيف استطاع أن يخرج من ذنوبه ويتخلص من آثامه بتوسيط الكنيسة بينه وبين رب العباد. وتشفيعها في جرائمه يوم الحشر والمعاد. وكذلك كان الطاغية الغشوم لا يعدم من الكنيسة شفيعاً لدى الرحمن. وممهداً وموطئاً بحابح الجنان. فمن مذابح شارلمان التي أتاها بترخيص الكنيسة ومصادقتها إلى قتل أو أسر شعوب أمريكا الأصليين الأبرياء تمتد سلسلة متوالية من الاعتداءات على حقوق الأمم وواجبات الإنسانية، فهذا الاستخفاف بالأساسي من قواعد المروءة وأصول البر والتقوى هو أيضاً كان الدافع إلى الاضطهاد من كان من أتباع المسيح قد جرؤ على إيتان شذوذ في الرأي والتفكير عن سنة الكنيسة.
ولما ظهر المذهب البروتستانتي لم يحدث أدنى تغيير في هذه الحالة، بل إن ما وقع من الحروب وضروب الاضطهاد بين أرباب النحل النصرانية المختلفة يصح أن يؤلف منه تاريخ قائم بذاته فقد قال هالام في تاريخه: إن جريمة الاضطهاد هي الجريمة الأساسية الدولية التي كان يرتكبها أرباب الملل الجديدة من أهل المسيحية حتى أنك إذا قرأت أخبارهم لم تلبث أن تثور عليهم أو تحنق على مسلكهم فيتحول انتصارك لهم مقتاً لهم وعطفك عليهم اشمئزازاً منهم.
على أنه مهما بلغ من اختلاف النحل النصرانية الجديدة في ما بينهم أو بلغ من شذوذهم عن كنيسة روما من حيث المسائل الفقهية والنقط المذهبية فلقد أتفقوا جميعاً ضد الشعوب الخارجة عن دائرة المسيحية في إجماعهم على الامتناع من تبادل الحقوق والمصالح مع أولئك الشعوب قاطبة فهذا جروشياس مؤسس القانون الدولي في أوروبا قد استثنى الأمم الإسلامية من امتياز تبادل الحقوق والمصالح مع الأمم الأوروبية.
أما روح الإسلام فعلى عكس ذلك، مناف للاحتجاب والاحتجاز مناقض للانفراد والاعتزال. فإن محمداً بالرغم من ظهوره في عصر جاهلية الأمم وانغماس العالم في ظلمات الضلال قد وضع من مبادئ العدالة ما لم يفطن لبعضه زعماء أي ملة أخرى، وسن من القوانين الممتازة بفرط التسامح وسعة النظر ما لم يكد يوجد في أي دين آخر. فلقد قال ذلك المؤرخ النابغة الذي أشرنا إليه آنفاًإن الإسلام إنما كان يعرض دينه عرضاً ولا يفرضه فرضاً وإذا كان يمنح الأمم المقهورة إذا احتضنته مزية مساواة الأمة الفاتحة أعني المسلمين في كافة الحقوق والمصالح ويخلصها من كل ما كان جميع الأمم القاهرة قد اعتادت ضربه على المقهورين من الشرائط القاسية. والفرائض العاتية منذ بدأ العالم إلى مظهر محمد ﷺ.
وبمقتضى الشرائع الإسلامية كان كافة الخاضعين لدولة الإسلام من أهل الديانات المخالفة يمنحون حرية الضمير والفكر والعقيدة وفي الآية لا إكراه في الدين أوضح دليل على ما قد امتاز به الإسلام من فضيلة الرفق والبر والرأفة والتسامح وبعد ذلك كله يقوم أهل العناد والمكابرة فيرمون الإسلام بالبطش والفتك والقسوة. ونرى أناساً قد بلغ من فرط ظلمهم وجورهم ولجاجهم في الباطل وتعاميهم عن الحق أن ينسبوا التعصب والجبروت والعسف الذي ينطق بأمثال الآيات الآتية:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
صل من قطعك واحسن إلى من ساء إليك
أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك
وليذكر القارئ أن هذه الآيات والأحاديث ليس مما يصدر عن صاحب مبدأ غيور متحمس لكنه ضعيف غير ذي بأس أو فيلسوف خيالي ينشر من المبادئ ما لا طاقة له بتنفيذه قد يديه الأحزاب المعاكسة والقوات المعاندة ولكنها كلمات رجل في غلواء قوته وعنفوان شبابه على رأس حكومة قوية محكمة النظام قادر على تنفيذ مبادئه بحد سيفه المشهور.
ونحن ما زلنا نرى في عالم السياسة والديانة أن الأفراد والأحزاب لا تحض عل خلة التسامح والرفق والتجاوز إلا وهي حالة الضعف والعجز. حتى إذا ما اجتمع إليهم من الحول والطول ما يستطيعون به محاربة الأحزاب المعارضة ذهب ما كانوا يدعون من حب التسامح والتجاوز واستبدلوا به القسوة والاضطهاد. فلا رقى قسطنطين عرش القياصرة زال الخطر عن المسيحية وأمنت شر المسيئين والمعتدين، ولكن منذ هذه الساعة ابتدأت المسيحية خطة من العسف الطغيان والبطش والاضطهاد لا يدانيها في الفظاعة إلا خطة اليهود من قبل. قال المؤرخ ليكي: لم تكد الكنسية المسيحية تكتسب السلطة المدنية في حكم قسطنطين حتى سلكت أسوأ مناهج السقوة والقهر والإكراه سواء ضد اليهود والوثنيين والخوارج. فتولت التنكيل بهم على أشنع آلات العذاب - تحرقهم على جمرات نيران بطيئة الالتهام، وتنضج جلودهم على جذوات أفران متمهلة الضرام، لتربهم بذلك مبلغ ما وصلت إليه المسيحية من الرأفة والرفق والإنساني. وأعجب من ذلك أن ترى زعماء المسيحية قد جعلوا واحداً بعد واحد يكتبون الرسائل عن قداسة القسوة والاضطهاد ومن بين هؤلاء قديس قد اشتهر بالبر والتقوى - فهذا أدلى بالعدد الجم من البراهين والادلة على صواب اتخاذ أشنع وسائل العقاب والتمثيل، وأفظع طرائق العذاب والتنكيل، محتجاً بوق المسيح ما معناهأرغموهم على الدخول في الدين.
تلك شيمة النصرانية، ولكن انظر إلى الإسلام في أقصى صولته وسلطانه لما دخل محمد الكعبة مظفراً منصوراً قد هبت ريح فوزه وسطعت نجمة عزه وأخذ يحطم الأنصاب والأوثان، ويعلن أنها رجس من عمل الشيطان. لم يظهر إ ذاك عنفاً ولا عدواناً. ولا بطشاً ولا طغياناً، ولكن رحمة وحناناً، وبراً وإحساناً إذ قال لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وحينذاك أذاع معروفاً وبراً، وأوصى بالضعيف والفقير خيراً، وأمن الخائف وأغاث اللهيف وأطلق العاني وفك الأسير.
ولم يقتصر محمد على الإيصاء بالرفق والتسامح بل جعل ذلك قانوناً موضوعاً وشرعاً متبوعاً. فكان يمنح ألأمم المقهورة الحرية المطلقة في اختيار ما شاؤوا من ألأديان والعقائد. ومقابل هذا التمتع بحرية العبادة لم يكن يطلب منهم أكثر من جزية محدودة. ومتى عقد الاتفاق على هذه الحرية فكل تداخل في شأن دياناتهم أو حرية ضمائرهم كان يعد خرقاً لقوانين الإسلام ونقضاً لشرائعه. . . . فهل يستطيع امرؤ أن يقول مثل هذا عن أي دينآخر؟. وإليك رسالة محمد إلى نصارى نجران: قال ﷺ ما نصه بمعناه إن رسول الله يكتب إلى قساوسة بني الحارث وقساوسة نجران وأساقفتهم وأتباعهم ورهبانهم بالترخيص لهم بالإقامة على دينهم واستدامة شعائرهم ومناسكهم صغيرها وكبيرها سواء في الأديرة والكنائس والهياكل والمعابد. ويعظهم عهد الله وميثاقه وحمايتهم ورعايتهم فلا يطرد أسقف من أسقفيته ولا قس من كنسيته ولا راهب من ديره. ولا تمس كرامتهم ولا يعتدى على نفوذهم وسلطتهم ولا يغير أدنى شيء من مراسمهم وتقاليدهم. وما داموا على مراعاة حرمة السلام والاستقامة فلا ينالون بسوء ولا أذى ولا يحل بهم ضيم ولا اضطهاد، فهذا دليل يبين على أن نشر الدين بالسيف كان منافياً لروح الإسلام متناقضاً لمذهب محمد كما أن الجدال والخصام في المفاضلة بين الأديان والعقائد كان من أبغض الأشياء إليه. وكثيراً ما كان يقول ما معناه قيم المخاصمة والمنازعة فيما تجهلونه. ألا فاجعلوا همكم الاستباق إلى الحسنات، وابتداء الصالحات والطيبات.
والآن نرجع إلى النظر في وجوب حروب محمد لاستقصاء بحثها وفحصها. فقد رأينا أن وقائع المسلمين تحت قيادة النبي مع القبائل المختلفة كان سببها عدوان الوثنيين وبغيهم مما اضطر المسلمين إلى الدفاع عن أنفسهم والمحافظة على كيانهم.
أما وقعة مؤته وغزوة تبوك وهما أول ما قام به المسلمون لمدافعة اعتداء دولة أجنبية (الروم) فقد أثارهما ما كان من مصرع سفير المسلمين بأسياف الروم، فولا قيام المسلمين بعقاب نصارى الدولة الرومانية الشرقية على ذبحهم ذلك السفير لما وجد أعداء الإسلام سبيلاً إلى اتهامه بأنه لم ينتشر إلا بحد الحسام، فأما وقعة مؤتة فكانت سجالاً لا عليهم ولا لهم وأما غزوة تبوك وكانت دفاعية محضة (لصد جيوش هرقل) فلم تشف نفوس المسلمين بثأر ذلك السفير القتيل بل تركت دمه مطلولاً أثناء حياة النبي. ولكن خلفاءه لم ينسوا ذلك الدم المهراق ولم يلبثوا أن أدركوا الثأر من دولة الروم الباغية فأنزلوا بها من العقاب أنكله وأنكاه، ومن الانتقام أشده وأقساه.
إن مبلغ اتساع الدولة الرومانية الشرقية وامتداد أملاكها وولاياتها ترك المسلمين في حالة حرب مستمرة مع الجانب الأكبر مة العالم المسيحي، أضف إلى ذلك ما كان لولاة الولايات الرومانية من السلطة الشاذة تحت سلطة قياصرة الدولة الرومانية الشرقية المتضائلة المضحكة، صعب على ملوك الإسلام حسم هذا النزاع بوسائل المعاهدات والمحالفات مع أولئك الولاة، فكان المسلمون لا يكادون يفرغون من أحدهم بعد إخضاعه وعقد المعاهدة معه حتى يداهمهم آخر بضري من الاعتداء فيضطرهم إلى معاقبته. ومن ثم استمر المسلمون مع عالم النصرانية بأسره في حرب عوان شرعية مبررة.
ولا أدعي أن المسلمين لم يندفعوا قط إلى محاربة الشعوب المسيحية بعوامل الاعتداء والجشع. فإنه لن يدعي مثل ذلك إلا جاهل بطبيعة الإنسان وغريزة البشر، إذ أن من المحال أن ترى المسلمين بعد إيغالهم في ممالك الأعداء وتغلغلهم في صميم أحشائها وبعد ما أدركوا من تلك الفتوحات المتوالية والانتصارات المتتالية في أقصر مدة من الزمن مما لم يسبق له نظير في تاريخ العالم - وبعدما تقرر في نفوسهم من ضعف الأمم المجاورة ووهنها - يستطيعون أن يستمروا على مبدئهم الأول من التسامح والتجاوز فيبقون داخل نطاق القانون لا يتعدونه كما إني لا أنكر أنه قد كان بين أتباع محمد من الحروب ما لا تقل فظاعة عما وقع بين أتباع المسيح. ولكن هذه الحروب كانت داخلية أسرية_منبعثة عن تنافس الأسر الحاكمة المختلفة) وهذا السبب بعينه هو الذي أدى إلى ما حل ببعض الطوائف الإسلامية من الاضطهاد والضيم، فإن ما أصاب أبناء علي وفاطمة من ألأمويين راجع ولا شك إلى تلك العداوة القديمة والأحقاد المتأصلة في نفوس قريش على بني هاشم وزعيمهم محمد كما سأبين فيما يلي: -
ولا خفاء في أن ذوي المطامع من قادة المسلمين كانوا كأمثالهم من زعماء المسيحية وملوكها يتخذون الدين ذريعة إلى غزو لأمم والشعوب للاستيلاء عليها قضاء لمآربهم. ولكنا كنا نقصر أبحاثنا على تأصل روح الشرائع والوصايا التي سنها محمد وأدلى بها إلى أتباعه تراثاً كريماً مشرفاً، فإن روح الاعتداء لا يتبين لها أدنى أثر في تلك الشريعة الغراء التي أدخلت قانون حقوق الأمم في نطاق الإسلام ودائرته وما برح المسلمون وهم في اوج مجدهم وعنفوان سلطانهم يخاطبون الأمم المغلوبة بأمثال هذه الكلمات:
كفوا العداء. واقصروا عن الاعتداء. وحالفونا نكن لكم من الأولياء ونمحصكم الحب والولاء. والحفاظ والوفاء. أو ادفعوا الجزية نجركم ونؤمنكم ونرعى حرمكم ونصون حريمكم ونحفظ حقوقكم. أو ادخلوا في ديننا نسوّكم بأنفسنا في كل شؤوننا وأحوالنا لا يكن ثمت فارق بينكم وبيننا - لكم مالنا وعليكم ما علينا.
إن القواعد الأساسية التي عليها بنت قواعد الإسلام الحربية لتدل على تلك الحكمة والسداد والبر والتقوى التي هي أكبر من مزايا الشريعة الإسلامية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
ولما حول المسلمون جيوشهم إلى فارس كان داعيهم إلى ذلك أحوال وظروف خاصة، فإن المناذرة وهم أسرة نصف عربية كانوا يحكمون تحت لواء المملكة الفارسية. وكانوا مع وجود العداوة السياسية بينهم وبين قياصرة الروم إلا أنهم كانوا مرتبطين بأولئك القياصرة بأواصر الدين (المسيحية) والمصلحة. ولذلك كان لأوائل حروب المسلمين مع الدولة الرومانية الشرقية تأثير على أهل الحيرة الذين هم رعية المناذرة.
وكانت ولايات الحيرة تشمل بقية عظيمة من الأرض تمتد من شواطئ الفرات غرباً متجاوزة صحراء العراق إلى ما يلي مراعي العرب الغسانيين (من أرض الشام) الذين كانوا ولاة القياصرة (ملوك الدولة الشرقية الرومانية).
وكانت منزلة ولاية الحيرة تحت سيادة الفرس تمائل منزلة ولاية جوديا تحت سيادة أغسطس قيصر أو طيبارنوس قيصر. وكان على الحيرة في أبان غزو المسلمين لبلاد فارس حاكم فارسي. ولكن الأكاسرة لفرط غيرتهم كانوا قد أشركوا في السلطة مع خليفة المناذرة مرزباياً (أعني عميداً) وكان أهل هذه الناحية (أعراب الحيرة) لا يحتملون رقابة أمراء الفرس ولا سيطرتهم (كشأن ذريتهم اليوم) فجعلوا يشنون الغارات على القبائل المجاورة حتى امتد أذاهم إلى المسلمين. وكانت حكومة هؤلاء قد اشتدت وتضاعفت قوتها بإخضاع من كان ثار من قبائل العرب وارتد عقب وفاة محمد. وأصبحت دولة العرب متماسكة متدامجة مجتمعة ململمة متآزرة متضافرة تحت سلطان ملك فرد وخليفة واحد - عمر - فأصبحت ترى من العار أن يحتمل اعتدءآت ولاية حقيرة من ولايات دولة مضمحلة قد آذن عهدها بانضرام. وتداعي صرحها لانهدام. . . . فجرد خليفة المسلمين جيشاً لغزو العراق فزحف هذا الجيش على الحيرة ففر المرزبان هارباً إلى المداين عاصمة الدولة الفارسية وأذعن الأمير العربي - بلا كفاح ولا نضال - إلى جيش المسلمين تحت قيادة البطل الهمام. والأسد الضرغام. سيف الله القاضب. وشهاب الله الثاقب. خالد بن الوليد.
ولما استولى المسلمون على الحيرة أصبحوا على أبواب دولة الأكاسرة. وكانت هذه الدولة قد تتابعت عليها فتن وثورات داخلية ارتكبت فيها الفظائع والجرائم. ثم أتيح لها في شخص الملك يزدجر حاكم صارم العزيمة بعيد الهمة. فاستطاع هذا الملك القادر أن يوجه إلى كتائب المسلمين الزاحفة جيشاً ململماً. وخميساً عرمرماً. وكان عمر إذ ذاك خليفة الإسلام بالمدينة. ومع تفوقه على سلفه أبي بكر في توقد العزيمة والنشاط وطموح الهمة وبعد الغاية فقد كان عنده من الحزم والاناة والروية ما آثر معه أن يجرب مع الملك يزدجر أولا طريقة المسالمة فعرض عليه بواسطة سفرائه شروط التحالف المعهودة حقناً للدماء. وتفادياً من كوارث الهيجاء.
أما هذه الشروط فهي اعتناق الإسلام وهو داعية كل خير وباب كل بر والكفيل بتقويم تلك الخطط السياسية العوجاء التي هبطت بالدولة الكنعانية (الفارسية) إلى وهدة الضعة والانحطاط. ونقص تلك الضرائب الفادحة التي امتصت دماء الشعب. وتنفيذ مبادئ العدل حسب نصوص الشريعة الإسلامية التي قضت بالتسوية بين مختلف الرتب والدرجات. والمنازل والطبقات في اعتبار القانون. فأما الرضوخ لهذه الشروط وأما دفع الجزية مقابل التمتع بنعمة الحماية. فلم يكن من الملك يزدجرد إلا أنه رفض هذه الشروط المعروضة رفضاً مقروناً بالأنفة والكبرياء. . . . والاستهانة والازدراء. . فنشب القتال بين المسلمين والفرس وحدثت وقعة القادسية ووقعة نهاوند. فأنحن المسلمون في جموع الفرس وأفنوا منهم خلقاً كثيراً ومزقوا شملهم كل ممزق. وقتل إذ ذلك كثيراً من أشراف الدولة وكهنتها ممن كان جل همهم وأقصى مناهم في استدامة دولة الفوضى والفساد. وحكومة الظلم والاستبداد. وفر الملك يزدجرد هارباً كما فعل سلفه داريوس من قبل. ورحب بنوساسان (أمة الفرس) بالمسلمين إذ رأو فيهمخ منقذيهم من دولة المنكرات والمآثم. وحكومة المجحفات والمظالم.
إن تحول الشعب الفارسي بأسره إلى دين محمد وانمحاء المجوسية من تلك البلاد البتة لمما يحتج به أحياناً على نفي روح التسامح عن الدين الإسلامي ووصمه بروح التعصب والاستبداد. ولكن من تأمل الظروف التي كانت عليها أمة الفرس عند استيلاء المسلمين على بلادهم أدرك بطلان هذا القول. وذلك أن روح التعبد والتدين لم يكن لها أدنى أثر بين أمة الفرس في ذلك الحين.
وكان الشعب قد تضعضع وتحطم وهبط إلى أسفل درك الانحطاط والاضمحلال. والتفكك والانحلال بتأثير أسوأ عاملين. وأخبث آفتين: فساد الطائفة الدينية (المجوسية) وانحطاطها. وفجور الهيئة الحاكمة وسوء إدارة الحكومة. أضف إلى ذلك أن بدعة المذهب المازادكياني والمذهب المانيكياني كانت قد فصمت كل عروة ورابطة في النظام الاجتماعي. فكان كل ما صنعه كسرى يزدجرد هو أنه استطاع أن يؤجل إلى حين انحلال الروابط الاجتماعية بتة وانهدام بنيان المجتمع انهداماً تاماً.
فكانت النتيجة أنه بمجرد دخل المسلمين تلك البلاد مبشرين بتوطيد دعائم النظام والقانون هنالك تهافت الشعب بأسره على الإسلام ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وانضوت أمة الفرس تحت لواء الملة المحمدية إلى ألبد.
فمن حقق النظر ودقق البحث عرف بطلان ما عزاه خَطأ أمثال المؤرخ موبر حيث يقول في رسالته عن الإسلام لقد كان من الضروري لبقاء الإسلام أن تتبع في نشره وسائل العنف والقهر. والغضب والقسر. وإن ما يرمي إليه من التفشي في جميع الشعوب التعميم في مشارق الأرض ومغاربها كان أمراً يتحتم تنفيذه بحد الحسام وبديهي أنه ليس من دين ظهر في العالم إلا أتى عليه دور أصبح فيه سالكاً ملك الاغتصاب والاعتداء تبعاً لمذهب زعمائه ورؤسائه. وكذلك كان شأن الإسلام في بعض أدواره. فأما أنه يجتذب الناس إليه عنوة وقهراً أو أنه كان في أي أدوار حياته أكثر عدواناً. وأشد طغياناً من أي دين آخر، فهذا زور وباطل يقوم بتنفيذه ألف دليل من التاريخ والواقع.
ما شهر الإسلام السيف ولا اعمله إلا دفاعاً عن كيانه. وذودوا بنيانه. وكذلك سيفعل ما بقي له على وجه البسيطة أثر ببصر. وشأن يذكر. ولكنا ما رأينا الإسلام قد يتداخل في شأن أي دين ذي فضيلة ولا يأخذ الناس باضطهاد ولا بتعذيب ولا يؤسس أمثال ما كان من المسيحية من محاكم التفتيش ولجان التنكيل والتمثيل. والإسلام - هداك الله - لم يخترع آلات التعذيب لمحو الاختلافات المذهبية وغل الأذهان وأسر العقول ودفن الضمائر واستئصال البدع والأهواء واصطدام جرثومة كل مروق وشذوذ - وهذا كبر خطر على حرية التفكير وشر عائق للرقي والتقدم وأعظم بلاء على المدينة. وليس أحد ينكر أن النصرانية حينما كانت تدعي أنها الدين الأقدس المعصوم من كل خطأ وزلة - كانت تسفك من الدم الطاهر الزكي. البريْ. النقي أكثر مما سفكه أي نظام آخر من دين أو حكومة منذ بدء الخليقة. فلما صارت النصرانية في انكلترا البروتستانتي ظلت طائفة البريزبارتين هنالك تلقى أشنع ضروب التعذيب السنين العديدة - حبساً في ظلمات السجون وكياً بالنيران وتقطيعاً للأوصال والأعضاء. وتمزيقاً للجوارح والأشلاء. وتنكيلاً. وتمثيلاً.
أما في اسكوتلندة فكانوا يطاردون فيقتنصون كالوحوش في البراري والقفار. والانجاد والأغوار. وكانت تصطلم آذانهم من جذورها وتستل ألسمنتهم من اوصلوها. وتكوى جلودهم بالمياسم المحماة في الأفران. وتنتزع أصابعهم من رواجبها بنسافات حديدية. وتفضخ عظام أرجلهم في أحذية فولاذية. وكانت النساء تسام سوء العذاب علانية على قارعة الطريق بمشهد الجماهير الكثيفة. وكذلك طوائف الكاثوليك كانوا بعذبون ويشنقون ويلقون في النيران أحياء فتجعل أشلاؤهم حطباً لجاحمها المشبوب وقوداً. ولكن هذه الملل المختلفة والنحل المتنوعة وهذه الطوائف المتناكرة والأحزاب المتنافرة بين كاثوليك وبروتستانت وأرثودوكس وغير أرثودوكس - كانوا جميعاً يطرحون الخلاف والتناقض. وينبذون الفوو والترافض. ويتركون الخصام والمجادلة. والمشاحنة والمناضلة. ثم يترافدون ويتساندون. ويتآزرون ويتناصرون. فيصبحوا جميعاً حزباً واحداً وعصبة فردة ضد الأقوام غير المسيحية جميعاً. ففي انكلترا كانوا يعذبون اليهود ويشنقونهم. وفي اسبانيا كانوا يحرقون المسلمين. وكان الزواج أمراً محرماً بين النصارى واليهود وبين النصارى والكفار (يعني المسلمين) وإذا وقع عد باطلاً وملغى. بل كان عند المسيحيين من أشنع المحرمات يعاقب عليه بأشنع العقوبة بل إنا لنبصر في هذا العصر الحاضر أمريكا المسيحية تلقي في النار الزنجي المسيحي إذا جرؤ على التزوج بامرأة مسيحية بيضاء. فهذا وربك أثر آخر على طغيان المسحية!
ولا تزال هذه اللحظة ترى أن بقعة لم تفض فيها أنهار العلوم الحديثة وكل ناحية لم تبعث فيها مبادي، التفكير النظامي العلمي روحاً جديدة - فهنالك روح القسوة والاستبداد والعنف والتعسف لا تزال سائدة متسلطة، وهنالك البغض القديم والحقد على الإسلام لا يزال يبدو في مظاهر شتى: في حملات الصحف والجرائد وغيرها من النشرات والرسائل وفي أحاديث الأندية ومجادلات المجالس ومشاحنات المحافل وفي تضاعيف الخطب والمحاضرات العامة، فروح الاضطهاد لم تذهب إلى النصرانية ولم تنعدم ولكنها كامنة راكدة تتوقع أدنى استثارة من رجل متعصب متعسف فتنفجر انفجار البركان. وتنبجس انبجاس الطوفان.
وكمين الحريق في العود مخفي ... وحقين الرحيق في العنقود
والآن نتحول عن هذه الصورة المنكرة إلى عالم الإسلام. فنقول: بينما كانت المسيحية تبتلى بأفظع ضروب الاضطهاد ملتي اليهود والنسطوريين على حد سواء وقوم أسوأ العذاب أولئك الأقوام المزعوم أنهم ذرية الذين صلبوا الهم الروحاني والذين أبوا أن يقدسوا أمه العذراء - بينما كانت المسيحية تصنع هذا بهؤلاء الناس كان الإسلام يترفق بهم ويتعطف عليهم ويمنحهم نعمة رعايته وحمايته.
أجل بينما كانت اوروبا المسيحية تحرق الساحرات والخوارج والزنادقة وتذبح اليهود والكفار (أعني المسلمين) كانت ملوك الإسلام تعامل رعاياهم غير المسلمين بمنتهى الرفق والتسامح - يتخذون منهم الوزراء والمستشارين والأمناء وكتمة الأسرار. وكل مأمون على الغيب مستودع للثقة مستكفي جلائل الأعمال. وكل أمر ذي بال، وكذلك كانت وظائف الحكومة ومناصب الدولة مستباحة للمسلم وغير المسلم على السواء. ولقد أحل النبي عليه السلام زواج المسلم من اليهودية والنصرانية والزردشتيه. ولكنه لم يحلل ذلك لأسباب سياسية ظاهرة. وهذه تركيا وفارس الإسلاميتان تستند مصالحها الخارجية إلى نفر من نصارى رعيتها. وكذلك نرى أن اختلاف الدين يعد في عالم النصرانية جريمة ولكنه في نظر الإسلام لا يعد إلا شيئاً عرضياً وأمراً اتفاقياً. وقد قال المؤرج ايركيهار (مازال اختلاف الدسن في مذهب المسحيين بعد سبباً حاملاً على إقامة الحرب وليس هذا مقصوراً على عهد القرون المظلمة ولا بين ذوي التعصب الديني فقط، ومن نظر في صحف التاريخ رأى أنه منذ مذابح السكسون والفرزبانيين وغيرهما من القبائل الجرمانية باسم الدين بسيف شارلمان، ومنذ مقتل الملايين من خلق الله في المكسيك وفي بيرو، ومنذ إحراق الالآف من عباد الله الصالحين رجالاً ونساء. ومنذ مذبحة قبيلة الالبيجبنزبين ومنذ المشاهد الدموية التي وقعت في الحرب الثلاثينية الدينية - إلى فظائع الاضطهاد التي وقعت في اسكولتندة الكلفينسنية (نسبة إلى مذهب كالفين الزعيم الديني المشهور) وفي انكلترا اللوثرية (نسبة إلى مارتن لوثر وهو أشهر من أن يذكر) - تمتد سلسلة متوالية متواصلة من الظلم والعدوان والبغي والطغيان. والجهل والجمود والتعصب.
لقد قيل أن دين الإسلام ذا الغبي والعدوان قد بث روحاً حربية في عالم النصرانية أثناء القرون الوسطى، فرداً على هذا نقول أن مذابح جاستنيان وحروب كلوفيس الفظيعة التي جرت باسم الدين (المسيحية) قد وقعت قبل عهد محمد بأزمان طويلة.
قارن أيضاً بين سلوك النصارى الصليبيين والمسلمين. لما استولى الخليفة عمر على بيت المقدس في عام 637 بعد الميلاد سار على ظهر جواده خلال المدينة إلى جانب البطريق (سوفرونيوس) يحاوره في شأن ما بها من الآثار. فلما جاءت ساعة الصلاة أبى أن يصلي في كنيسة (البعث) حيث اتفق وجوده إذ ذاك واكنه أدى فريضة الصلاة على عتبة كنيسة (قسطنطين) واحتج لعمله هذا بقوله للبطريق (لو أني تبعت رايك لما أمنت أن بجرؤ المسلمون في مستقبل الزمان أن ينقضوا المعاهدة بحجة أنهم يحذون حذوى ويقفون أثري) فلما استولى الصليبيون على المدينة لم يمتنعوا من فلق جماجم الأطفال على الجدران وقذف الرضعاء من فوق شرفات الحصون. وشي الرجال على جمر النيران. ومن يقر بطون الناس لاتهامهم بابتلاع الذهب والفضة. ومن احراق اليهود في معابدهم. وفي هذه المذبحة بلغ عدد القتلى 700000 نفس وقد شوهد مندوب البابا بين طائفة المعتدين يشاركهم سرورهم وطربهم.
وخلاصة القول أن الإسلام جرد السيف دفاعاً عن كيانه. وشهرت المسيحية السيف لإخماد الفكر واستعباد الأذهان والضمائر. ولما اعتنق قسطنطين النصرانية أصبحت هذه الديانة سلطان الأديان في عالم الغرب فلم تكن تخشى أدنى اعتداء من أعدائها. ولكنها منذ بلغت هذه السلطة والنفوذ تخلقت بخلائق التعصب والاعتزال والاستبداد فحيثما تمكنت النصرانية استحال على أي دين آخر أن يرفع رأسه دون أن تتناوله المسيحية بالبغي والعدوان. أما المسلمون فعلى العكس من ذلك كانوا يكتفون من أرباب العقائد الأخرى بضمانات المسألة والمحاسنة ودفع الجزية مقابل الرعاية والحماية - هذا وإلا فالمساواة في الحقوق والامتيازات والمصالح - إذا قبلت الأمم المغلوبة الدخول في الإسلام.