مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/قصة رنيه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/قصة رنيه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1920


للكاتب الفرنسي الخالد شاتوبريان

نقلها إلى العربية الكاتب عي أدهم أفندي وأثر بها البيان ومهد لها بهذه الكلمات الآتية قال:

كلمة عامة - حياة كل إنسان كنغمة يرن صداها ثم يغيب في صمت الأزل العميق حيث لا يقدر لها رجوع طوال الأيام وأبد الليالي، وتتفاوت تلك النغمات، فمنها النغمة الضاحكة المستبشرة، ومنها النغمة الموجعة الحزينة ومنه النغمة الثائرة المتمردة الساخطة المتبرمة، وكذلك كانت حياة ذلك العبقري التعس الحظ شاتوبريان، فقد عاش منشقاً على عصره خارجاً على أوضاعه وسننه، وكانت حياته عقداً منتظما من الألم، وسلسلة متصلة من الضجر والملل، وكان يحس طول حياته أن العدم كان أولى به من الوجود وكان يرى أن حب الحياة - تلك الغزيرة التي تسوقنا إلى الاستمساك بالحياة وتدفعنا إلى الرغبة فيها في أشد الأوقات محنتنا وتغطى على مساوئ العيش وعيوبه - كان يراها عارضاً من الجنون، وكان يدعو الله أن يشفيه منه، وقد كان شاتوبريان مطبوعاً على الشاعرية وكانت المواهب الأدبية متأثلة في نفسه، وإن شعراء العالم العظماء يسيرون إلى نواحي الخلود في صفين، فريق ترى حياته ممثلة مصورة في تواليفه وفريق يعكسون صورة العالم في كتاباتهم كما تتراءى الصور في صفحة البحيرة الهادئة الصافية، والنوع الأول يستثير الحب والعطف ويرجح فيه الجانب الأخلاقي على الجانب الفني، والنوع الثاني يبعث على الإعجاب والإكبار وللجانب الفني فيه القسط الأوفر، وقد كان شاتوبريان من شعراء النوع الأول ولذا ترى شخصيته جلية واضحة في كل ما يكتبه، وكل ما يقوله يدور حول محور هذه الشخصية.

مولده ونشأته ووراثته - ولد في سنة (1768م) وهي واقعة على المحيط في مقاطعة بريطانيا في الشمال الغربي من فرنسا، والرياح التي تهب في تلك المقاطعة تملأ النفس بالرهبة والحزن الغامض الخفي الذي ينتقل بالروح إلى نواح مجهولة قاضية ويلبس الجو هناك لبسة الحزين فترى السماء ملتفة في سود السحائب ولأمواج المحيط هناك أرانين شجية كأنما في طيها سر من الأسرار الأبدية وقد قضى شاتوبريان أيام طفولته في تلك النواحي، وللمشاهد التي يراها الإنسان في طفولته تأثير لا يزول على حياته فإن ظلالها لتنبسط وتخيم على أكناف العمر وكلما أقصانا عنها تيار الزمن كان خيالها أكثر لجاجة بالذهن وتشبثاً بالخاطر.

وسكان بريطانيا من أصل سلتي ففيهم طبائع السلتيين وأمزجتهم مثل الحزن الصامت الذي اشتهر عن الشعب السلتي والحياء والانقباض عن الناس لأنهم يعرفون بساطة نفوسهم وبعدهم أساليب المكر فيتحامون جانب الأجنبي عنهم لئلا يقف على سر تلك السذاجة فينتفع منها، والحياء من دلائل العواطف العميقة والوجدان الحي والإحساس القوي المندفع، وقد يصمهم من يجهل أمرهم بالجفوة وخشونة الجانب ولكن من يستشف قراره قلوبهم يرى وراء تماسكهم طبعاً سمحاً وماء صافياً وفؤاداً يجيش بالعواطف الرحمة والحب، ومن عاداتهم إكبار قبور آبائهم وإجلال ذكر أجدادهم واحترام المرأة وتوقيرها، وقد ورث شاتوبريان منهم هذه الطبائع كما ورث من أبيه العبوس والتقطيب ومن والدته التقوى والتدين وقد ولد في أسرة كريمة المناسب شريفة المحتد فورث أيضاً تقاليد تلك الأسرة.

روح العصر الذي عاش فيه - كانت أوروبا في الأيام التي أظلت حياة شاتوبريان تعاني عصور انتقال من أشد عصورها اضطراباً، وعصور الانتقال عرضة إسهام التطور الفجائي لأن سير الانتقال قد يسرع فتحدث التوراة وقد عاش النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكان عصر الحاد وشك ومتناقضات إذ رفع فيه الإنسان من وجهة إلى مستوى الآلهة ومن ناحية أخرى رفع عنه آخر نقاب يستر عن النواظر وحشيته وحيوانيته وقد حدثت فيه الثورة الفرنسية تلك الأساة الكبرى وعاش النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد كانت أوائل ذلك القرن الجليل الشأن المفعم بالحوادث أيام اضطراب وفوضى وكانت أعلام الملل تخفق في كل ناحية من أوروبا ولم يظهر شراح لفلسفة التشاؤم مثلما ظهر في ذلك الوقت، ومعرفة أسباب ذلك توقفت على درس العوامل المختلفة التي أثرت على ذلك القرن وأري أن هناك صلة شديدة بين تلك الآمال التي كانت مستسرة في النفوس قبل الثورة وبين تراميها إلى أبعد مطارح حسن الظن بإمكان تسويد مبادئ المساواة والإخاء والحرية ثم نكوصها على الأعقاب ويأس العالم من تحقيقها بعد ذلك وإنك لتقرأ في دواوين شعراء هذا العصر ما يملأ النفس ظلمة قنوط ويلهب الفؤاد حزناً وأسى في عصور الانتقال يخافون المستقبل فلا يعلقون عليه أملاً ويكون كرههم للمستقبل بقدر حبهم للماضي والعلة في ذلك أنهم يميلون إلى تفهم الماضي وفحصه ليقيسوا عليه المستقبل فيتقدموا نحوه بقلب مشبع وجأش رابط.

ومن هنا تطرق إلى شاتوبريان الميل إلى التاريخ فقد كان دائم المسير في صحراوات الأزمنة الخالية متجولاً بخياله في أطلال الأمم القديمة البالية كأنه يرى سكناً للنفس في أطلالها الدوارس وآثارها العوابس وأحوال الأمم في عصور الانتقال لا تبعث على حسن الظن بالحياة ونكتفي بهذه الإلمامة في وصفها.

أخلاقه وأطواره - كانت أخلاقه نارية مستعرة هائجة مثل أمواج البحر المغتلمة منظرها يبث الروعة في النفس ويتغشى القلب حيالها مسايل الإعجاب والرهبة ولكنها كميا البحر مرة المذاق لا تجد النفوس سبيلاً إلى إساغتها وكانت نقمته تترامى إلى كل غاية وتريد أن تبلغ شأو كل مطلب ولما كان لا يجد في الوجود شيئاً يعقد به حبه كان يرجع إلى نفسه فيقصر حبه عليها وتظهر هذه الصفات في الكاتب إذا اصطدم بروح عصره فقد كان عصره عصر الحاد وسخرية بالأديان وكان هو متديناً وكانت الديموقراطية تتمشى مبادئها وهو أرستقراطي متحامل على الديموقراطية ويرى فردريك أميل في شاتوبريان نفساً معذبة وحياة بائسة شقية ولكنها مشرقة بأنوار الفخار متألق في أضاء العظمة وإنك لتلمح من كلماته عظمة الحزن وجلاله وروعة الأسى وفخامته.

وقد كان قوى الروح محتدم العواطف جم الاحساسات حافل شعاب الفكر بكل سري من الخواطر عبقري من الأفكار وكان خياله متوثباً جوالاً يمر بين الزمن الماضي والحاضر عن كمال يتغنى به وعظمة يشيد بذكرها ولم يكن خياله على اتساعه من تلك الخيالات التي تؤثر على النفس بما تعرضه على الذهن من تهاويل وصور الفكر المجرد كما ترى ذلك في أصاغر الشعراء ومقعدي الكتاب بل كان أساسها الشعور المتدفق الجائش في حنايا أضلعه والفائر في مطاوى نفسه ولقد كان شديد الشعور بنفسه وبعظمتها إلى حد الطفولة، والغرور الذي كان متمسكناً من نفسه يذكرنا بغرور البحتري وهو غرور مقبول حين الموقع في النفس.

وقد كان شاتوبريان يزدري أدباء عصره ويدعوهم بالأقزام الذين يلوثون بالأدب ويدنسون أديمه النقي وصفحته الطاهرة وكان ينتقد من تقدمه من الأدباء بكلمات قارصة ومن أقواله عن برناردين بيير فيه ضيق الفكر وإسفاف الروح وكان ينتقض بيرون ويتهمه بالسطو على أفكاره وإهمال ذكره وكان يرى أن الناس لا تستطيع فهمه لأنهم أقل وأضأل من ذلك، وجميل كل هذا الغرور من شاتوبريان لصدوره من نواحي العبقرية.

تأثيرات الرحلات في نفسه - طاف شاتوبريان أوروبا وزار الأراضي المقدسة وشواطئ أفريقا وسافر إلى أمريكا فترى من ذلك أنه كان جوابة أقطار وقد زاده ذلك بسطة في الخيال وفسحة في الفكر ومقدرة على الوصف.

مزاجه ونفسيته - أقوي العناصر التي تكون شخصية شاتوبريان عنصران وهما عنصر التشاؤم وعنصر التدين وقد يستغرب الإنسان جمع هذا الرجل لهذين العاملين فإن نور الدين كأن من واجبه أن يبدد دهمة التشاؤم وإن تهب من ناحيته على النفس نسمات القناعة والرضى والاغتباط بالكون وحكمته ولكن بعض أنواع التشاؤم يستصحب الروح الدينية وقد طالما استبهمت حقيقة تلك العلاقة على أفهام النقاد وانطوى سرها عن علمهم وقد سهل اكتناه سرها الفيلسوف الألماني إدوارد فون هارتمان في قوله إن الأصل في الدين هو أن الروح الإنسانية كثيراً ما تلتقي بالشر وتصادفها الخطيئة وينشأ من ذلك أنها تحاول أبداً بحث ذلك الشر الذي يعترض سبيلها وتدبر تلك الخطيئة التي تعتاق سيرها لتعرف مكامنها فتأمن صولتهما.

وإن من يسائل نفسه عن كيفية تصرفها حيال الشر ومسلكها أمام الخطيئة وكيف يلائم بين الشر وبين ضميره القلق من الشر ويوفق الخطيئة وبين روحه النافرة منها - أقول من يسائل نفسه عن هذين أحسبه سائراً على طريق الدين الواصل ومسلكه اللاحب وإن التأثيرات الموجعة التي تتواتر على النفس من ناحية الشر وتترادف عليها من صوب الخطيئة إذا لم ترجع كفتها في الميزان تمام الرجحان انطفأ الحماس الديني المشبوب وخمدت جمرته وكلما اشتد الشك - ذلك الشك الذي يسير على مدرجة التفكير في الشر ويتبع آثار آلام الخطيئة وتم له الانتصار والغلبة على جانب الاقتناع بالدنيا والابتسام إليها وكلما كان التشاؤم له الشعب الأوسع من النفس والجانب الأكبر فيها، وكلما امتد رواق سلكته على سائر منازع النفس وأميالها راح الدين وهو على أساس ثابت الدعائم موطد العمد، وإذا غاب عن النفس ذلك التوجه إلى التشاؤم امتنع على الدين أن يسير على سجيته ويجري على طبعه.

وليس هذا بكاف في تفهم مزاج الرجل فقد كان يتنازع نفسه عوامل أخرى وإن نفس العظيم عالم تتصادم فيه العوامل المختلفة وتتصارع ولقد قال ماكس نورداو إن الإغراق في حب الإنسانية والمغالاة في كرهها ينشاآن من سبب واحد وعوارض عقلية متحدة والمزاج السوداوي كذلك قد يسوق إلى النسك التام واستصغار أمور الحياة واحتقار ملذاتها مثل المعري وفردريك أميل وقد يسوق إلى الأبيقورية أو الخيامية وهي أن يبادر الإنسان إلى الشهوات مخلوع العنان ويفرط في الحسية وفي مثل هذه الحالة النفسية تكون فكرة العدم العدم والفناء التام مائلى للذهن إلى جانب فكرة المسارعة إلى التمتع باللذات وشرب كؤوس المسرات قاطبة وهذا ما يشاهد في رباعيات وفي كتابات شاتوبريان وما يغلب على أكثر العصور السوداوية عصور التشاؤم والممل مثل عصر شاتوبريان ومثل عصر أبي العلاء المعري.

مكانه في الأدب - كان شاتوبريان طاتباً ضليعاً ومن أكبر الفرنسيين بسطة في الأدب وهو في ربيئة كتاب العالم وأكبر قواد النهضة الروانتية المعروفة في الأدب الفرنسي والتي كان من فرسانها بعد أن مهد لهم السبيل شاتوبريان بما بثه من الروح الجديد هيجو ولإمارتين وغيرهما ومن أهم مزاياه الافتتان في وصف مناظر الطبيعة والتغني بجمالها وهو كاتب يهز النفس قال عنه جوبير إن كانت كتابات برنارد دي سنت بيير مثل صوء القمر فإن كتابات شاتوبريان مثل ضوء الشمس.

آراء النقاد فيه وفي القصة - يعرف أكثر النقاد قيمة شاتوبريان ويكاد يقع إجماعهم على أن قصة رينيه هي أبدع كتاباته ونجتزئ هنا بآراء ثلاثة من أكبر نقاد الدنيا.

رأى هنري فردريك أميل - إن شاتوبريان بدون أن يعرف أو يقصد أخرج للناس واضحة عن نفسه في رينيه لأن رينيه هو شاتوبريان وهذه الصورة الصغيرة هي من كل الوجوه سفر خالد كامل وقد لا تشعر الأجيال القادمة يحب لرينيه ولكنه سيبقى خالداً كأبي الهول يفسره كل عصره تفسيراً خاصاُ - وكذلك كل شيء جليل.

رأي سنت بيف - بين الصور والتماثيل المختلفة التي حاول شاتوبريان أن يبرزها ويعرضها على أنظارنا قد وفق في إخراج صورة واحدة خيالية لنفسه ترى فيها محاسنه متصلة بعيوبه إتصالاً خالداً وهذه الصورة هي قصة رينيه.

رأي ماثيو أرنولد - كان أرنولد يلوم الإنكليز على عدم تقديرهم لشاتوبريان وإهماله قصة رينيه وكان يؤثرها على منفرد وقابيل وهما كما يعلم القارئ أشهر ما سطرته براعة الشاعر بيرون وكان يرى في شاتوبريان روحاً قوية مسوقة بالفطرة إلى دراك الجلا والجمال.

وبعد قراءة ما تقدم والمقابلة بينه وبين ما في القصة يتضح لنا أنها نوع من الاعترافات النفسية وأخت رينيه المدعوة أمليا هي أخت لشاتوبريان كانت تدعي لوسيل.

  • * *

قصة رينيه

منقولة عن شاتوبريان

لما اطمأنت الأسفار بالرحالة الفرنسي رينيه في قبيلة الناتشيز لم يجد معدى عن الزواج بهندية جرياً على عادة تلك القبيلة ومساوقة لتقاليدها ولكن لم نستحكم بينهما أواصر الزواج لأنه كان يهفو به إلى أحشاء الغابات نزاع إلى الحزن قد علق بنياط قليه ونصرف بأعنة نفسه وكان يطوي هناك غلائل الأيام منفرداً يغالبه الأسى ويساوره، وتروحه الأفكار وتباكره، وكان يشبه المستوحشين بين المستوحشين، ولم يكن يخالط أحداً حاشى شكتاس الذي أقامه رينيه مقام الوالد والأب سويل الراهب في حصن روزالي، وكان لهذين الشيخين في نفسه المكانة السامقة والمنزلة الشماء، وقد اقتعد الأول غارب تلك المكانة بسلاسة أخلاقه وسهولتها، والآخر على خلافه إذ رقى ذروة تلك المنزلة بصلابة طباعه وحزونتها، ومن وقت صيد كلب الماء الذي سرد فيه الشيخ البصير شكتاس حوادث حياته على مسامع رنيه لم يرتض زنيه الكشف عن حوادثه وإبراز أخباره، وقد كان شكتاس والأب سويل بل لا ينفكان يستشيران علم دفينته ليصلا إلى مكتوم سره وكنون أمره، وليتعرفا أية ملمة قد حدث بأوروبي من أسرة كريمة المنبت وضاحة الحسب على أن يُنضى جلباب الشباب في صحراء لويزيانة، وكان رينيه يعتذر عن رده طلبهما بقوله أن تاريخ حياته ليس فيه ما يستلهي الخاطر ويستوقف الناظر، وإنه محدود بأفكار قد استفاضت أمواجها في نفسه، وإحساسات قد ثارت عواصفها في قلبه، وأما الحادثة الحافزة له على الرحلة لأمريكا فكان يرى أن الأجمل به أن يلفها في أكفان النسيان ويكسوها من ظلمة الأبد، وقد استنت أعوام على هذه الوتيرة لم يستطع الشيخان في أثنائها أن يعلما مخزون دخيلته، ومكنون طويته. ثم وصله خطاب من أوروبا ضاعف أحزانه وأزكى قدة همومه، ولما تمادى به الأسى وكادت رواسي نفسه تميد من الألم فزع إلى صديقيه الشيخين وقد زادهما ذلك رغبة في استجاء غامض سره واستفتاح مغاليق نفسه، وقد أظهرا من حصافة العقل وركانة الحلم م لم يجد بعده ندحة عن إرضائهما، فضرب لهما موعداً لأليقص عليهما حوادث حياته التي لم يتمرس بتجاريبها ولم يزاول من أمورهما شيئاً، ولكن ليفضى إليهما بإحساساته الروحية وأسرارها، ففي اليوم الحادي والعشرين من ذلك الشهر الذي يسميه الهنود شهر بدر الأزهار صمد رنيه إلى كوخ شاكتاس واعار ذراعه للشيخ البصير وسدك به إلى سرحة فرعاء على ضفاف المسيسبي وكانت جوانب الليل قد تصدعت عن أنوا الفجر المتبلج، ولم يتريث الأب سويل عن الحضور في الميعاد المضروب، وعلى كتب في السهل كانت تتراءى للناظر قرية الناتشيز بأشجار توتها وأكواخها التي كانت تشابه خلايا النحل، وكانت المستعمرة الفرنسية وحصن روزالي قائمين في الناحية اليمنى، وكانت الخيام والمنازل التي لم يكتمل بناؤها والحصون التي لم يتم تشييدها والمزارع وقد انتشر فيها الزنوج البيض والهنود - أقول كانت كل هذه المشاهد في تلك البقعة تمثل للرائي البون الشاسع بين عادات المتدينين وعادات الهمج العاطلين من المدنية في أوضح الصور وابهر المجالي، ومن ناحية الشرق وشط تلك المناظر الرائقة كانت الشمس مقبلة تتهادى من وراء قنن جبال الأبالنسية المتكسرة، وقد كانت تلك القنن ترتسم على صفحة السماء المذهبة بأضواء الشمس في صورة حروف مصبوغة بلون لازوردي، ومن ناحية المغرب كانت أمواج المسيسيبي تطرد وقد رفرف عليها صمت فخم ضاربة أعطاف الهضبة في حلال لا يدركه التصور ولا يناله الوهم، فطار ذلك المنظر الأنيق بفؤاد الفتى وأخذ بلب الراهب فأنشأ يمتدحانه وقد احتواهما الأسف للشيخ البصير شاكتاس إذ ليس في وسعه أن يسرح الطرف في هذه المشاهد البديعة، ويتملى من تلك المحاسن الزاهرة، ثم أن الأب سويل وشكتاس اقتعدا العشب وأخذ رنيه مجلسه بينهما، وبعد سكون لم يطل أمده أخذ ينثر الكلام الآتي على مسامع الشيخين وهم جلوس تحت ظلال تلك السرحة المنهدلة فقال: لا أستطيع في مستهل قصتي أن أكافح الحياء إذا ماجت بي أمواجه، فإن صفاء قلبيكما وسكون الطبيعة السائد حولي يغريان بي الخجل، وكم ستأخذكما الرحمة لي فإن ما استصب علي من الأمور وأحاط بي من القلق يكشفان لكم عن نفسي التعسة وجدي العاثر.

ومثلكما من قد تلون به الزمن، وتصفح الليالي، وعرف هموم الحياة قاطبة، فماذا تظنان بفتى في روق الشباب مجرداً من القوة، منسرحاً من إيراد الفضيلة، يرى نفسه في نفسه الجحيم الذي قد سجر أضالعه وأضرم أنفاسه، ولا يشكو إلا من آلام قد استدرجها إلى نفسه، وهيأ لها المتغلغل إلى سويداء قلبه، ولكن لا تفرطا في عذله، ولا تجاوزا في لومه الحسد، فكفاه من مرارة الألم ولوعة الحزن ما أرمض جوانحه، وألهب جوارحه.

لقد فجعت في والدتي ععند قدومي الحياة، وسحبت منها سحباً، وكان لي أخ قد خصه والدي بناصر الدعوات، وصالح البركات، لأنه أصاب فيه الولد البكر، وأما أنا فقد دفعت من ساعة مولدي إلى يد المربيات ولذا لم أذق نعيم الأبوة، ولم أنهل من حياضها العذبة الصافية، وكنت ناري المزاج غير متزن الأخلاق، تارة ضرب النفس طلق المحيا مرتفع الصوت دائب الحركة، وطوراً تدب نحوي ظلال الأسى السود فآوي إلى الصمت والإنطواء، وكنت أجمع حولي الغلمان لذاتي، ثم أنسل من غمارهم، وأعتلي هامة رابية لأعلق نظري بالسحاب السائر يطوى مراحل الفضاء، وليتسلسل في مسمعي دويّ سقوط الأمطار على أوراق الأشجار، وكنت إذا أظل الخريف أرتاد قصر أبي وهو يتوسط غابة في إقليم نائي مكان ويشرف على بحيرة، ولما كان يعتاق جناني الهيبة أزاء والدي صرت اسكن إلى أختي امليا وأصبح القرب منها مسلاة نفسي، ومتنفس خاطري وقد أربت عقدة الحب بيني وبينها مشاكلة أميالها لأميالي، وكان عمرها ينيف على عمري بسنوات قلائل، وكنا شغوفين بتسلق التلال وبالسياحة في نواحي البحيرة وكنا نجوس خلال الغابات ونتدرج في مسارحها تحت أوراقها الأشجار المتساقطة، وإن الأنس من الأشياء لا أنس تلك الأيام حيث رياض العيش خضر نواعم، ووجود المسرات وسيمات بواسم، وإن ذكرياتها لتملأ نفسي بهجة وسروراً، فلا فقدت يا أحلام الطفولة رونقك، ولا ألوت الأيام ببهجتك، ويا ذكر البلاد التي عقت بها تمائمي، ونضوت فيها الحداثة، لا تناول البلى بشاشتك، ولا عاث الزمان في زهرتك، وفي بعض الأحايين كنا نسير وقد ضرب السكون فوقنا أروقته مسلفين الآذان لهمس الخريف واصوات الأوراق الجافة متلذذة التي كنا نطؤها بالأقدام في حزن، وأحياناً في تلك الملاهي البريئة كنا نتبع طير السنونو في البراري وقوس الغمام على القمم الماطرة، وكنا يروقنا أن نترنم بالأشعار التي كانت مشاهد الطبيعة تهتاجها في نفوسنا وقد نبتت في ثرى نفسي بذور الشاعرية، وليس هناك شيء أحفل بالشاعرية وما تتطلبه من من نضارة العواطف وغضارتها وصفاء النفس وابيضاضها من قلب لم يتبلج عليه أكثر من سبعة عشر ربيعاً، ولا غرو فإن فجر الحياة مثل فجر النهار، فياض بالطهر، ومفعم بالصفاء، مزدحم بالتصورات الجميلة غاص بالموسيقية والنغم. وكنت أسمع في أيام الآحاد والأعياد في الغابة الفسيحة الأرجاء، وبين أشجارها الفينانة، صوت جرس الكنيسة، وكان الهواء يستحمل إليّ دقاته من إقليم متراخية بعيدة الشقة، وكان ذلك الجرس يدعو المزارعين إلى انتحاء المعابد للصلاة، وكنت أستند على جذع شجرة من شجرات تلك الغابة صاغياً إلى رنات ذلك الجرس المتدفقة النقية، وكانت كل دقة من دقاته تحمل إلى روحي الصافية البريئة طهارة الحياة الريفية، فكنت كأنما أتنسم من تلك الدقات رياً شذاها، وكأن كل نبرة من نيرانه كانت تروي له عن سكون الخلاء وصمته، وتحدثني عن جمال الأديان وإشراقها ورونقها وبهائها، وتعيد في نفسي ذكر طفولتي الحزينة وأيامها المورقة الأيك والوريقة الضلال، وكيف لا يتزلزل قلب الإنسان مهما كان قاتم الأرجاء مظلم النواحي عندما تصلفح الآذان دقات جرس الكنيسة مقبلة من ناحية أوطانه البعيدة مآلف طفولته ومنازل قومه - ذلك الجرس الذي اهتز طرباً يوم ميلاده والذي أطار أنباء قدومه الحياة، والذي نقرأ فيه تاريخ أول نبضة من نبضات القلب، والذي نشر في شتى النواحي ومطرف الجهات سرور الأب الصالح التقي وآلام الأم ثم أفراحها التي لا يمكن لكاتب تصويرها، وإن صوت الجرس من ناحية الوطن يفيض على إحساساتنا من عواطف الدين والعائلة والوطن، ويذكرنا بالمهد واللحد، ويعيد لنا صور الماضي والحاضر.

ولطالما كنت أنا وامليا نصعد في صعود من تلك الأفكار الوقورة الرفيعة، قد رسب في قراره نفسينا ميل إلى الحزن قد نكون ورثناه من والدتنا أو أن يكون هبة من الله قد اختصنا بها، وفي تلك الأيام استكف والدي داء أعجله إلى القبر، وقد فاضت روحه وهو في ذراعي، ورأيت صورة الموت على شفة ذلك الوالد المتفضل الذي منحني الحياة، ووهبني الوجود، وكان لهذا المنظر في نفسي عليا التأثير ولا يزال ذكره إلى الآن يتجدد في قلبي ويتردد في خاطري، وهذه أول مرة تجلى فيها لناظري واضحاً جلياً خلود الروح، فقد كان لا يجول في بالي إذ ذاك أن هذه الجثة الهامدة الميتة هي التي أوحت إلي الفكر، وشعرت أنها تتصل بمنبع آخر وقد استولى على مشاعري حزن مقدش شماوي كان أقرب ما يكون إلى السرور، واتسق لي الأمل أني سألتقي بروح أبي، وإن زهرة حياته ستعود بعد التصوح إلى النضارة.

وقد ظهر لي منظر آخر زادني إعتقاداً بتلك الفكرة السامية وذلك أني رأيت ملامح وجه أبي وقد غشاها الجلال، واكتست بهاء وروعة، فلم لا يكون ذلك السر المبهم دليلاً ناهضاً على خلود النفس؟ ولك لا يكون الموت الذي وسع علمه كل شيء قد مسم تلك الجبهة بأسرار الحياة الأخرى؟ ولم لا يكون في القبر رؤيا فخمة للأبدية.

وكانت امليا وقد آدها حمل تلك الأحزان قد لاذت بحمى برج حيث كان ينسجم في آذانها تحت قبواه المبنية على الطراز القوطي أناشيد القساوسة في الجنازة ودقات الجرس المحزن، وقد شيت والدي إلى مثواه الأخير وموئله من ظلم الحياة، ورأيته وقد أهيل عليه التراب ووطئنه إذ ذاك أقدام الأبدية والنسيان، ودبت ظلال المساء غير مكترثة على قبره، ولولا تعلق ابنه وابنته بذكره لكان وكأن شخصه لم يلح على مسرح الأيام، وكأن اسمه على صحيفة الدهر، واضطررنا أن نبرح منزل والدنا لأنه صار من ميراث أخي، فعدت أنا وامليا وساكناً جماعة من ذوي قربانا، ولما حمتني الأقدار الدخول في مسالك الحياة الخادعة، أعملت فيها الفكر الواحدة بعد الأخرى قبل أن أخاطر بنفسي في اعتسافها وأقذف بمهجتي في إثارة غبار طرفها، وكانت امليا تزين لي الحياة الدينية، وتفيض في ذكر محاسنها وفي السعادة التي تتقاطر على النفس من صوبها، وكانت تقول لي وهي تنظر إليّ نظرات يتخللها الحزن وينبعث منها الأسى أنك أنت السبب الوحيد الذي يصلني بالدنيا، ولما امتلأت شعاب النفس بالاحساسات الدينية من فيض أحاديث امليا كنت كل يوم أزور صومعة قريبة من محل إقامتنا، وقد امتلكني مرة ميل شديد إلى أن أمضي حياتي هناك، ولله ما أسعد هؤلاء الذين قضوا حياتهم في سكون وعزلة، والأوروبيون دائماً في انفعال مستمر، ولذا تنزع نفوسهم إلى الراحة والسكون، وإنه كلما توالت القلب الثورات وترادفت الاضطرابات، استمال النفس للسكون، واستروحها الهدوء. وتقام هذه الأديرة في بلادي المفتوحة الأبواب للبائسين، المباحة الحمي للمستضعفين محتجبة في الأودية التي تحمل إلى القلب شعور هؤلاء التعساء المحزونين الغامضين، وكأنها تهجس في النفس وتوسوس في الخاطر بأملهم في الخلاص، وفي بعض الأماكن تشاد تلك المناسك على الربوات والرامات، فتظهر هناك الروح الدينية سامية الطرف تلعاء الجيد كأنها أزهار الجبل مرتفعة نحو السماء لتتسنم رياها العبق، وشذاها الفواح، وكنت أنظر الاقتران الجليل بين المياه والغابات من ذلك الدير القديم العهد الذي عقدت العزيمة على الإقامة به مجهول المحل مغمور الذكر نائياً عن تقلبات الخطوط وتصاربف الزمن.

ولقد كنت أطوف منفرداً نواحي ذلك الدير المنعزل، ولما كان القمر يريق أضواءه المفضضة على أعمدة الأروقة ويرسم ظلالها على الحيطان المقابلة كنت أتريث في السير متأملاً ذلك الصليب الذي يسم أراضي الموت، وكنت أرى الأعشاب الطويلة التي كانت تنمو بين أحجار القبور.

ولقد كانت تلك القبور قبور الذين عاشوا بمعزل عن الدنيا وعبروا بمدرجة الزمن من سكون الحياة إلى سكون الموت تملأ قلبي بضروب كره الحياة وصنوف احتقار العيش، ثم نكبت عن تلك الخطة ولست أدري إن كان باعث ذلك هو القلق المستمكن من نفسي أو سابق انحرافي عن حياة الأديرة، ثم قامت في نفسي فكرة السياحة والتطواف فودعت أختي وقد ضمتني بين ذراعيها ضمة تبينت فيها أثر السرور وظل الفرح كأنها كانت جذلة النفس لفراقي، وقد بعثني صنيعها هذا على إرسال الفكر في المحبة البشرية وتناقضها العجيب، ولما كنت الآن في عفرة الشباب محشوّ الجوانح من حماس وقوة امتطيت ثبج بحر الحياة المصطفق الآذي، والمتناووح الرياح، وما كنت أدري ثغوره ومراسيه، ولا أخطاره ودواهيه، فيممت أطلال الأمم التي سحبت عليها الذيول أرواح الزمن، وعصفت بها أعاصير الفناء، ورأيت بقايا رومه وآثار اليونان بلاد القوة والمجد التالد، والذكر المشرفات الخوالد، حيث القصور مدفونة في كثبان الرغام وحيث أضرحه الملوك قد أجنتها الأشواك، فهناك تتجلى قوة الطبيعة أزاء ضعف الإنسان، زهناك يرى المشاهد فصيلة من فصائل النبات نخنرق أحجار تلك القبور الصلبة وتنفذ منها، بينما قد أعيا رفات هؤلاء الموتى الجبابرة الأشداء رفع تلك الأحجار والخلاص منها.

وفي بعض الأوقات يرتفع عمود عال ويخرق سماوة الجو في وسط الصحراء لا أنيس بها كما تنهض فكرة كبيرة من وقت لآخر في نفس قد نالت منها حادثات الليالي وهدمت صروحها صروف الزمن، وكنت أقضى اليوم مفكراً في تلك الآثار وبين لجج من التأملات وكنت أرى الشمس - تلك الشمس التي أبصرت بناء تلك المدن - جانحة للغروب تحفها الروعة والجلال لقد كانت تغرب الآن عن تلك المدن وقدر قمها الدهر في طراز العفاء وكنت أرى القمر يرتفع في صفحة السماء الصافية وكانت أشعته توضح لي مواقع القبور الشاحبة بين القارورتين المكسورتين وكان القمر ينير بسناه المفضض أحلامي وكنت ألمح شبح تلك العصور الغوابر إلى جانبي هائماً في بيداء التفكير ثم أمسكت عن الحفر في تلك التتوابي التي لم أكن أهز منها سوى رفات مجرمين ثم أردت أن أوازن بين الفضائل التي اكتسبتها من الأمم الحية وهل هي أكثر عدداً وأحمد أثراً من الفضائل التي تعلمتها من الأمم البائدة، وحاولت أن أقابل بين الأحزان التي تسربت إلى نفس من الحاضر وتلك التي خلصت إلي من الماضي فلما كنت يوماً أجوب نواحي مدينة من عظيمات المدن ومررت خلف قصر في فناء منعزل مهجور شاهدت تمثالاً يشير بأصبعه إلى مكان شهير بضحية من ضحايا التاريخ ووقد ملك صمت ذلك المكان عليّ مشاعري وغيض من جلادتي ولم أكن أسمع هناك غير أعوال الرياح وأنينها حول رخامه الذي كانت تخفق فوقه أعلام الحزن وكان هناك فريق من الصناع عند أقدام التمثال يستريحون في أكنانه ثم يعودون إلى تحت الأحجار وصقلها وكان يبدو عليهم لوائح عدم الاكتراث فسألهم ما شأن هذا فلحظت على أحدهم أنه يشق عليه أن بحدثني قصته وعلى آخر أنه يجهل النكبة التي ترجع أيام التمثال إلى عهدها.

وقد أصبت من تلك الحادثة المقياس الصادق لحوادث الحياة وتقلباتها للإنسان وقيمته وضآلة له قدرة وصغر شأنه إذ كيف كان مصير هؤلاء الرجال حين رن صدى ذكرهم في الكون فقد ضرب الدهر من ضربانه وكر كرته فإذا وجه الأرض قد جدد وبدل، وكنت أنقب في رحلتي عن رجال الفنون وعن الرجال ذوي الأرواح السماوية الذين غنوا الأناشيد للآلهة على مزاهرهم الجوفاء الرنانة وعن السعادة التي تهدلت ظلالها على هؤلاء القوم الذين كانوا يجلون الشرائع ويفخمون شأن الأديان ويوقرون المقابر وقد صدرت هذه الأناشيد من شعب شعاره التقوى وفيها أثر تلك الموهبة التي تمنحها السماء للأرض ولقد كانت حياتهم زاهية مستنيرة بأضواء الإيمان السامي وقد تغنوا بأسماء الآلهة أفواد ملائكية وكانوا أعرق الناس في السذاجة وكانت أحاديثهم صافية كأحاديث الخالدين أو أحاديث صغار الأطفال وكانت لهم أفكار غريبة في الموت وكانوا يموتون وهم يجهلون الموت كما يموت المولود، وفوق جبال كاليدونيا غنى لي آخر مغن رن صدى صوته في تلك الصحراء أناشيد صاغها أحد الأبطال في تهوين آلام الشيخوخة وقد كنا جالسين على أربع مغشاة بالطحلب وكان هناك جدول تتسلسل مياهه عند أقدامنا وكانت الظباء ترعى على قيد منا بين بقايا حصن قديم وقد نشرت الديانة المسيحية أعلام السلام في تلك الأماكن التي كان بها للحرب والكفاح مستراد ومذهب - أما إيطاليا القديمة البسامة الثغر فقد برزت لي مبتكرات الفن وبدائعه وكنت أجوس خلال هذه القصور الفخمة التي نذرها الفن للدين ونفسي حشوها الرهبة والخوف المقدس فكم رأيت من العمد والأقبية وما اشجى هذه الأصوات التي كنت أتسمعها من تلك القباب ولقد كانت تحاكي صوت الأمواج في المحيط أو أنين الرياح في الغابات والأجم أو صوت الله في معبده ولقد كانت هذه القصور الشاهقات القوائم وتلك العمائر المستشرقات المعالم كأنها مصورة من مخيلة شاعر مهذب الخيال حافل الذهن ولكن ما الذي وعيته من الدروس بعد ذلك التعب والنصب وطيي الفيافي واختراق السهوب وركوب متن البحار؟ لم أجد ما أنيط به ثقتي عند القدماء ولم أر شيئاً عليه طابع الجمال وميسم الحسن عند المحدثين، فالماضي والحاضر تمثالان ناقصان الأول كسرته الأجيال السالفة والثاني لم يتسلم الكمال بعد من يد المستقبل وقد يشملكما العجب وأنتما من قطان الصحراء وروادها لأني في كل هذه السياجات لم أتكلم عن أثر من آثار الطبيعة. في يوم من الايام رقيت ذروة جبل أطنه حيث البركان المتنمر الثائر في وسط الجزيرة وقد شاهدت هناك مشرق الشمس في موكب الأضواء في الأفق المنبسط الممتد وكنت أرى صقلية صغيرة متضائلة كأنها بركة تحت أقدامي وكانت امواج البحر تتابع على مسافة وقد كانت الأنهار تتراءى لي كأنها خطوط على المصور الجغرافي. هذا ما كانت تلمحه عيني من جانب وأما في الجانب الآخر فكانت تطالعني فوهة جبل أطنه الناري وكنت أرى أحشاءه الملتهبة من بين ذلك البخار الأسود المرتفع من صدره، وإن شاباً ممتلئاً بالعواطف يجلس على فوهة بركان منهمل الدموع نادباً حظ الإنسانية التي لا يكاد يرى آثارها من مجلسه هذا لجدير أن تسعه رحمتكما ويشمله حنانكما ولكن مهما اختلفت ظنونكما برنيه فإن هذا الوصف يظهر لكما صورة أخلاقه ومن ثم كان صوب ناظري ما عشت كون عظيم القدر غير المحسوس وهاوية سحيقة مفتوحة إلى جانبي. . وبعد نطق هذه الكلمات استولى على رنبه سكون وتاه في أودية التأملات والتفكير فنظر إليه الأب سويل نظرة استغراب أما الشيخ البصير شكتاس لما لم يسمع كلام زنيه فأخذ يفكر في أسباب ذلك الصمت ثم لمحت عينا زنيه فريقاً من الهنود مارين من السهل وقد شملهم السرور ورفت على وجوههم لمحات الابتهاج والصفاء فاكتسى وجهه هيئة الحنو والرفق في أسرع من نغبة الطائر وانسكبت من عينيه الدموع دراكاً وهتف قائلاً أيها المستوحشون السعداء لم لا يتاح لي هدوء مثل المتاح لكم ولقد طوفت في الآفاق وجنيت من تجوالي ثمرة قليلة وأنتم تستظلون في هدوء تحت أشجار البلوط وتتركون الدهر وحبله على غاربه لا توكلون به فكراً وتدعون المقادير تجري في أعنتها غير حاسبين لها حساباً ولا تفكرون في غير حوائجكم ومرافق حياتكم وتصلون لي غاية الحكمة من طريق أقرب وأوضح من الطريق الذي نسلكه إليها مثل الأطفال بين اللعب والنوم وإذا أرهقكم يوماً ذلك الحزن الذي ينشأ وفرة السعادة وفيض النعيم فسرعان ما تصدع أرواحكم عنها قيوده وعيونكم موجهة نحو السماء تبحث هناك في رفق وهوادة عن ذلك الكائن المستور الذي يرسل عليكم رحمته ويحوطكم بعنايته. وهنا ضعف رينيه وأمسك عن الكلام وأسند رأسه إلى صدره فمد شكتاس يده في الظلام ولما قبض على ذراع ولده رنيه قال له بصوت تترقرق فيه مياه الإخلاص ويسمع من نبراته صدى الحب: يا ولدي - يا ولدي العزيز فاستفاق رينيه من غشيته عند ما ولجت في أذنه تلك الكلمات وسأل أباه الصفح عنه ثم قال شكتاس إن نبضات قلب مثل قلبك لا تكون متساوية متناسبة ولكن نهنه من غرب طباعك التي ساقت إليك الكثير من صنوف الأكدار وضروب الآلام وإذا كان نصيبك من شقاء الحياة وعثور الجد أوفى وأوفر من نصيب غيرك فلا يهولنك ذلك ولا يرعك فإن الروح الكبيرة الواسعة تحي من ألوان الحموم وأفانين الآلام ما لا تتيع له الروح الصغيرة فاستمر الآن في سرد قصتك وقد طفت بنا قسماً من أوروبا فحدثنا الآن عن وطنك وأنت تعلم أني قد زرت فرنسا وإن شوابك المودة تصلني بها وإني لصديان النفس إلى نهلة من أخبار ذلك السلطان ذي الأبهة والجلال لويز الرابع عشر الذي قد تصرم عصره وانطوى زمانه وقد زرت مقصورته الفاخرة وإني لا أنظر الآن سوى بعين الذاكرة وإن الشيخ الفاني المتهدم وما يحوطه م الذكريات ليشبه شجرة هرمة من شجرات السنديان في غاباتنا فإن هذه الشجرة تعجز عن أن تتزين بأوراقها فهي تستر في بعض الأوقات صلعها بالنباتات الغريبة التي تترعرع حولها وتتشبث بهاوقد هدأ هذا الكلام ثائرة رنيه فعاد إلى سرد حوادث حياته قال:

إني لآسف إذ ليس في وسعي أن أذكر الزمن من الأفيح والعهد الزاهر وإني لم أنظر سوى تصرمه في أبان طفولتي وقد كان عهده زال وزمانه مضى لما عدت إلى وطني ولم يحدث في أية أمة بغتة تحول أكثر ابتعاثاً للغرابة وإثارة للدهشة من ذلك التحول الذي حدث بفرنسا فقد أسفت من سماء العبقرية إلى الحضيض الأوهد من ضؤولة الروح وحقارتها وانحطت من توفير الأديان وإجلالها إلى عدم التقوى والطغيان وتدلت من الأدب والحشمة إلى الفجور والفسق وقد كان من العبث أن أصيب فيها هدوءاً لخواطري القلقة وسكوناً لرغبات نفسي الحرار ولم أكن قد استوعبت بعد دروس الحياة ولم يكن بي على رغم ذلك سرور الغفلة وراحة الجهل وكان يتبين لي من سلوك أختي الغريب وتصرفها المبهم معي إنها يلذ لها أن ازداد تبرماً بالحياة وعزوفاً عن العيش وكانت قد رحلت عن باريز بأيام قلائل قبل عودتي فكتبت إليها أخبرها أن في نيتي أن ألحق بها ولكنها أبطأت في الرد لترجعني عن ذلك العزم بدعوى جهلها بالمكان الذي قد تقصده لإنجاز ما ترومه من الأعمال فكم توارد عليّ إذ ذاك من الخواطر الحزينة في الصداقة التي يزيدها القرب فتوراً وانحلالاً ويعفى البعد على معالمها ولقد كنت إذ ذاك غريباً في وطني وأردت أن أغامر في طلب دنيا تلفظني ولا تأبه بي وروحي التي لم يسترقها الهوى كانت تسعى وراء ما يقتاد أهواءها ويستنزل حبها ولكني تبدي لي أني أهب من الحب وانعطف أكثر مما يمنح لي ورأيت الناس لا يتطلبون مني منطلقاً مهذباً سامياً ولا شعوراً رائعاً عميقاً وكنت أحاول أن أصغر من شأن وأقتل من قيمتها أجعلها في مستوى الجماعة.

وكان الناس في كل مكان ينظرون إليّ نظرتهم إلى رجل مفعم النفس بتهاويل الخيال وتصاوير البطولة وقد كنت خجلاً من الدور الذي أحاول تمثيله ولما كان كل يوم يزداد نفوري من القوم ومن مشاغل حياتهم رأيت الإقامة في ضاحية من الضواحي حيث أمضي تحت غياطل النسيان وخمول الذكر وقد أصبت في الأيام الاولى من تلك الحياة سروراً وراحة ولما كنت مجهول المحل مغمور الذكر صرت أدخل أحياناً في غمار الناس وأندس في جموعهم تلك الصحراوات الواسعة الجرداء وكنت كثير الجلوس في كنيسة قل ورادها وكنت هناك أذهب الساعات في التأمل والتفكير وكنت أرى النساء الفقيرات يعفرن وجوههن في طلب المغفرة وحسن المآب وكنت أرى المذنبين راكعين للندم ولقد كان ينصرفون عن ذلك المكان بوجوه باشة رائقة وإن ذلك الصياح الأصم الذي كنت أسمعه من الخارج كان يشبه صوت أمواج العواطف المغتلمة وزوابع الدنيا الثائرات التي كانت تفني عند أقدام تمثال السيد ولقد كان الله هو الشهيد على سيل تلك الدموع التي أسلمتها المحاجر هناك وكم ألقيت نفسي عند قدميه في ضرع وخشوع متوسلاً إليه أن يرفع عني أعباء الحياة أو يغير مني الإنسان القديم ومن الذي لم يشعر بحاجته إلى تجديد نفسه وإن يعيد ريعان الشباب من أمواله الغدير ويقوي روحه من ينبوع الحياة؟ ومن لم يجد نفسه موقراً بأثقال من نفسه تعجزه عن الاضطلاع بعظيمات الأمور والنهوض بجلائل الأعمال من نبل وشرف وعدل وقسطة؟

ولما كان المساء يقبل ساحباً أذياله في الأفق كنت وأنا عائد في طريقي إلى مكان عزلتي أقف على قنطرة في الطريق لا شاهد غروب الشمس وقد كانت الشمس تتراءى للناظر وهي تضيء من بين الأبخرة الكثيفة المتصاعدة من المدينة كأنها تنساب في سيال من الذهب وكأنها تتحرك مثل (البندول) في ساعة الزمن وكنت أصل منزلي وقد أفرغ الظلام أبراده على أعطاف الارض وكنت أسير في طرق كثيرة التعاريج والمنحنيات منعزلة ولما كنت أرى الأنوار اللامعة من منازل الناس كان ينتقل بي الفكر إلى داخل تلك المنازل وما انطوت عليه من مناظر الشقاء أو مرائي السعادة وكانت تمر بي خاطرة ممضة مؤلمة وهي أن تحت سقوف تلك المنازل ليس لي صديق يخفق قلبه بحبي ويهتز للقائي وكنت وأنا أسامر هذه الأفكار اسمع دقات جرس الكنيسة وكان يرن صداها وينتشر في جميع النواحي فواأسفا على الإنسان ووارحمتا به فإن كل ساعة تمر تفتح قبراً بين القبور الإنسانية وتستذيب فؤاد الصابر الجلد وتستنزل دموع الأبي الأصيد ثم سئمت تلك الحياة التي ابتسمت لي زهرتها في الأيام الولى ومللت من ترديد أفكاري وأخذت أفتش في زوايا القلب وأحفر في قبور نفسي عما أبتغيه فلم أهتد إلى شيء ولكن خيل لي أن الغابات تؤنس من وحشتي وتجلى من حزني وقد استبدلت بي فكرة إذهاب حياتي في منفى ريفي ولم يكن قد مضى من حياتي سوى سنوا قلائل كنت أشعر أني قد عشت فيها الأجيال المتطاولة وقد حبذت تلك الفكرة وأقبلت عليها بالحماس الذي كنت أفيضه على كل ما يسنح ببالي ويهجس بخاطري وأسرعت في الانتقال لا تواري عن العالم في كوخ وقد كنت متهماً عند الناس بتقلب في الأميال وذبذبة في الأهواء وقد طالما أسحوا وأهضبوا في حديث عجزي عن البقاء على وتيرة واحدة وأسلوب متشابه وقالوا أني رهينة لكل عصاف من الأماني فريسة لكل جامح من الأهواء وإني شديد الرغبة في سرعة النفوذ إلى أعماق المسرات كأنما يضجرني بقاؤها واسترارها وكنت منسوباً إلى أني أتخطى حدود رغباتي وأجاوز دائرتها وإني من المسترسلين في البحث وراء كمال مجهول تحدوني على طلبه فطرتي وماذا على من العاب إذا كنت أرى في كل ما يحوطني حدود لرغباتي العريضة وأماني نفسي الواسعة البعيدة وقد صرت أشعر في تلك الأيام برغبة في توالي إحساسات الحياة وتكرارها وبقائها على طراز واحد وعندما كان يعتادني في بعض هذه الأوقات وهم البحث عن السعادة كنت أنقر على مكامنها وأفتش على مواطنها فيما ألفته وتعودته وقد كانت تتغشاني غشية ازاء سكون الطبيعة الخرساء تنقلني إلى حالة يعجزني وصفها ولقد كنت بعيداً عن الأهل وحيد من الخلان ولم تكن أشعة الحب قد أشاعت في نفسي أضواءها وصرت أشعر بثقل حمل الحياة وكنت أحياناً يصيبني الخجل فجأة وأظن أن أنهاراً من الأمواه الحارة تتدفق في نفسي وكنت في بعض الأوقات أرسل صيحات وصرخات على غير إرادة مني وكنت أبيت بليلة الملسوع تطرفني الأحلام المخيفة وتتأوبني الخيالات الرهيبة وكان يعتادني الأرق فأغتال الليل مسهد الجفن مشرد الفكر وكنت في افتقار إلى ما أملأ به هاوية حياتي فكنت أهبط الوادي وأفرغ ذروة الجبل ناشداً في كل منهلة طالباً في كل مكان تلك الصورة الخيالية لحبي المقبل وكنت أقبلها في الرياح وكنت كأنني أسمع صوتها الندي في خرير مياه النهر ولقد كانت تتراءى لي صورتها في كل ما تأخذه العين وفي النجوم الزاهرات في صفحة السماء الجائدات بباهر اللألاء في كل وجوه الحياة ومناحي العيش وهذه الحالة مترجحة بين الهدوء والسكون لم تكن خيالية من أسباب السرور فقد كنت أخفف من غلواء أشجاني بتناول غصن من أغصان صفصافة كانت ترمي ظلالها على ضفاف جدول وكنت أعرى الغصن من أوراقه وكنت أرسل خاطرة وراء كل ورقة يجري بها تيار الجدول ولن يكن هم الملك الذي يخشى ضياع تاجه وانحلال ملكه بثورة تضطرم نيرانها ويتوقد جاحمها بغتة بأكثر من همى عندما كان يصادم الورقة وهي محمولة على التيار ما عسى أن يقطعها فما أضعف الإنسان وما أشد طفولة القلب الإنساني الذي تتبدل الأحوال وهو باق على حداثته لا تعلوه كبرة ولا يمسه هرم وانظر إلى أي طور من أطوار الطفولة قد يرجع بنا العقل وأنا كثيراً ما نعقد آمالنا بأشياء لا قيمة لها مثل أوراق تلك الصفصافة وإني ليعجزني التعبير عن تلك الطوائف المختلفة من الإحساسات التي كانت تتكاثر عليّ وتتغاير إليّ وإن أصداء نوازع النفس وأميالها في فضاء القلب موحش قفر مثل حشرجة الرياح وخرير الأمواه في سكون الصحراء وصمتها وإن تلك النوازع لتثور في أنفسنا ولكنا لا نملك التعبير عنها وقد أقبل الخريف وأنا بين هزاهز الحيرة ومعتلجات الشك واستقبلت شهر العواصف مفعم الخاطر ملآن النفس وكنت أغبط الراعي الذي كنت أراه يدفئ يديه في النار الكليلة التي أشغلها في الغابة وكنت أستمع إلى غنائه الفياض بالشجى والذي يقرع من النفس أوتار الحزن فيحرك ساكن الشجن ويوقظ راقد الألم وكان يذكرني غناؤه أن جميع الألحان الطبيعية مترعة بالحزن حتى تلك التي توقع عليها أنغام المسرات وأناشيد السعد وما القلب سوى آلة موسيقية غير تامة - مزهرٌ تنقصه أوتار السرور فترغم على أن نوقع نغمات السرور على تلك الاوتار الخاصة بالأنين والحسرات.

وفي النهار كنت أهيم على وجهي في الأراضي الجرداء التي تفضي إلى الغابات وقد كانت أشياء قلائل تستغرق تأملاني وتستأسر بأحلامي فمن ورقة جافة تذروها الرياح أمامي ومن كوخ يتصاعد منه الغبار إلى أعالي الأشجار الصلعاء ومن طحلب متعلق بأشجار البلوط الذي كان يهتز ويرتعش عند هبوب رياح الشمال ومن صخرة نائية منفردة ونهى مهجور تسمع فيه حفيف البردي الذابل وكانت قبة جرس الكنيسة القائمة في النواحي البعيدة تسترعي نظري وكنت أتبع نظري الطيور السابحة في الفضاء وكنت أصور لنفسي تلك الشواطئ المجهولة وأجواء تلك النواحي القاصية التي تؤمها الطيور وكنت أتمنى أن أكون محمولاً على أجنحتها وكان قد رسب في أعماق نفسي سر غريزي يكاد يصدع أركانها ويرجف جوانبها وكنت أشعر أني كمسافر له كل يوم جيئة وذهاب ورحلة ومآب ولكن صوتاً منحدراً من السماء كان يصب في مسمعي إن وقت سفرك لم يحن بعد فترقب هبوب رياح الفناء وعند ما تهب حوّل بصرك صوب تلك الأراضي التي يشتاق قلبك إليها وتنزو نفسك حنيناً إليها فهبي أيتها الرياح التي ستحمل رنيه إلى حياة جديدة.

ولقد كنت أقول ذلك وأنا سائر سيراً حثيثاً وعلى وجهي آيات الحماس والتوقد وكانتالرياح تعصف بشعري وتلاعبه ولم أكن أشعر بالمطر المتساقط ولا بالجليد وكنت أسير شارد اللب مُتّله العقل وكأنما شيطان قلبي قد امتد رواق سلطته على سائري وفي الليل كانت رياح الشمال تهب فتهتز الكوخ والمطر يتساقط غزيراً على جوانبه وكنت إذا اقتربت من النافذة أبصر البدر يشق السحب المتراكمة وينساب بين الغمائم السوداء كأنه زورق أبيض اللون يغالب الأمواج وكنت أشعر أن الحياة تزداد في أعماق نفسي وإني أصبحت من القوة بحيث أستطيع خلق أكوان ولم يكن إلى جانبي أحد أسر إليه تجاريبي فيا رب لو كنت وهبت لي زوجة طبق إرادتي أو فعلت معي ما فعلته مع ابي البشر آدم ومنحتني حواء من أضلاعي لكنت أسجد قبالة صاحبة ذلك الجمال السماوي وكنت أضمها إلى في ذراعي متوسلاً إلى الله أن يهبها الأيام الباقية من حياتي ولكنني كنت مستفرداً واحداً في الأرض واستحوذ على جسمي إذ ذاك فتور وعاودني الملل القديم الذي عرفته من عهد طفولتي مشدود القوى مستحصد المريرة وامتنع القلب عن أن يمد الفكر بعناصره الكريمة وكنت أتقرا وجودي بذلك الملل العميق في نفسي وكنت أناهض في نفسي هذا الداء ولكن بدون رغبة متينة في إخماد جمرته وقل شوكته.

ولما لم أجد ما يأسو جروح قلبي الكوالم التي يكن لها من جسمي مكان خاص بل كانت في كل ناحية منه عقدت العزيمة على الانتحار وأني الآن أسال الأب سويل أن يسامح بائساً غاب عنه صوابه ولقد كنت جافل النفس بالدين ولكنني كنت أسألك في التفكير مسالك الملاحدة والكفرة وكان قلبي يهوي الله ولكن عقلي كان ينكره.

ولقد كانت أخلاقي وأحاديثي واحساساتي متناقضات متنادة سوداء مظلمة ولكن هل يعرف الإنسان دائماً قيمة نفسه؟ وهو هو دائم الوثوق بما يدور في خلده من الأفكار ولقد فشلت في كل شيء وخدعتني الصداقة وغرتني الدنيا والعزلة.

ولما كنت منبوذاً من المجتمع متروكاً من أمليا وأصبحت الوحدة لا تسر خاطري ولا تحث لي سلواً صرت أقول في نفسي لماذا أبقى على قيد الحياة؟ لقد كانت أمليا مٍجنى من عاديات الزمن الزمن وموثلي من ظلم الليالي والآن قد تركتني، ولما وقر في عزمي أن أطرح عن كاهلي أعياء الحياة عزمت على أن أصب كل همتي إلى ناحية هذه الفكرة النزقة ولم يكن هناك ما يبعث على الإسراع في إتيان هذا العمل ولم أضرب موعداً لساعة مبارحتي الحياة لأتملى من محاسن الوجود قبل الرحيل عنه ولأستجمع قواي كي أحس خروج الروح كما كان يفعل القدماء ورأيت من الضروري أن أعد التدابير اللازمة لما تمتلكه يدي من أمتعة فجبرت على أن أكتب لامليا كتاباً يحوي شكوى قصيرة من نسيانها لي وإهمالها لشأني وذكرت في تضاعيفه شيئاً قليلاً عن الحزن الذي قد أخذ بزمام قلبي وحسبت بذلك أنني قد واريت عنها ولكن أختي تعودت قراءة ما في سريرتي بدون عظيم مشقة وقد راعها التكتم الذي ينم عنه الخطاب وكثرة سؤالي عن أشياء لم أكن أهتم بها من قبل فلم ترد علي ولكن فدكت بنفسها وإذا أردتما أن تدركا مقدار فرحي برؤيتها فينبغي أن تعلما أنها كانت الشخص الوحيد الذي أنيط به حبي وأعقد به رجائي وإن كل شعور اختلج نفسي متصل بها فهي رفيقة طفولتي وأليفة أيامها الرائقة النضرة واستقبلت امليا بفرح شديد وكان قد مضى زمن لم أجد فيه من يفهمني ومن أفتح له مغاليق نفسي وأنشر له مطاويها وقد ألقت امليا نفسها بين ذراعي قائلة أيها الناكر للجميل أتريد الموت وأختك باقية في الدنيا؟ أتستريب في حبها لك؟ ولكن لا تعتذر عن نفسك فإني عرفت أميالك بحذافيرها كأني كنت حاضرة أملاك. أتظنني من اللواتي يرجح خداع الناس بأميالهن وأنا التي شاهدت نشأتك وميلاد عواطفك ولكن باعث كل هذا شقاء نفسك وتبرمك بالحياة وبعدك عن شرعة الإنصاف فتقسم لي الآن بكل محرجة من الأقسام وأنا أضمك إلى قلبي أن هذه آخر مرة تلقى فيها مقاليد نفسك إلى النزق والطيش وإنك لن تعود إلى التفكير في الانتحار.

وكانت وهي تنطق بهذه الكلمات تنظر إليّ نظرات ملؤها الحنو والشفقة وكانت تغطي جبهتي بالقبلات ولقد كانت كآلام الرؤوم بل كانت أكثر من ذلك وأسمى ففتح لها القلب أبوابه وأباحها ملكه وكنت في يدها كالطفل فأقسمت لها اليمين التي تريدها ولم يكن في إعتقادي أن البؤس سيجد إليّ سبيلاً بعد هذا ومضى على اجتماعنا الساحر البهيج أكثر من شهر ففي الصباح كنت أسمع صوت أختي فأشعر في نفسي برعدة فرح وهزة طرب وكانت الطبيعة قد حبتا مليا بصفات مقدسة فكان لروحها من الخفة البريئة والظرف ما لجسمها من البضاضة واللدونة وكان لإحساسها ما لا يجد من الوداعة والعذوبة واللين وكانت لها نفس حلوة لذيذة خيالية حالمة وكان الناس يقولون أن بين قلبها وفكرها وصوتها تناسباً تاماً وكان لها من صفات النساء الحياء والمحبة ومن صفات الحور الطهارة ورخامة الصوت وجاء الزمن الذي أكفر فيه عن هفواتي السابقة فقد سألت الله مرة في هذياني أن ينزل بي ملمة لتكون لي سبباً محسوساً يبعث على الألم ويدعو إلى الحزن وقد استجاب الله هذا الطلب الرهيب في ساعة من ساعات غضبه وبماذا أبوح لكما الآن يا أخوي؟ انظرا فهذه الدموع تسيل من جفني تباعاً.

ومن منذ أيام لم تكن في وسع أحد الوقوف على حقيقة ذلك السر الذي اكتتمته ولكن الآن قد قضي الأمر وإنه في كل وقت ينبغي أن تدفن هذه القصة في قبور النسيان فتذكرا أني قد قصصتها عليكم تحت ظلال سرحة في الصحراء - ثم تحمل عنا الشتاء وشاهدت أن امليا تفقد راحتها وتشكل صفوها وأنها أخذت في النحول ونال منها الوهن وبأت عيناها تغوران واصبحت مشيتها بطيئة وصوتها قلقاً مضطرباً وقد فاجأتها يوماً تبكي عند أقدام صليب من الصلبان وأصبحت الدنيا والوحدة ومرور الليل والنهار - أصبحت كل هذه المظاهر تخيفها وبرعبها وكان يرتسم على شفتها الألم والملل.

وكانت في بعض أوقات تقبل على العمل بدون كلال أو تعب وفي بعض الأوقات كان يجهدها المشي وكانت تبدأ العمل ثم تتركه وتفتح كتاباً للقراءة ولا تقرأ منه سطراً واحداً ثم تنهل من عينها بوادر الدموع فتطلب العزلة والعبادة وقد حاولت عبثاً الاهتداء إلى سرها ولما سألتها مرة وأنا أضمها بين ذراعي قالت لي بابتسامة حزينة أنها مثلي لا تدري سبباً لما بها ومر على ذلك ثلاثة أشهر وكانت حالتها تزداد سوءاً في كل يوم عن سابقه وظهر لي أن مكاتبان سرية كانت تصلها فتسبب لها البكاء وكانت تبدو عليها علامات الهدوء أو الانفعال تبعاً للخطابات التي كانت تتسلمها وفي صبيحة يوم لما تولي ميعاد تناولنا الإفطار صعدت إلى مخدعها وطقت الباب فلم يجبني أحد ففتحت الباب فلم أجد أحداً في المخدع ثم رأيت على المدخنة خطاباً باسمي ففضضته وقرأته وحفظته معي لأطرد عن نفسي الأيام المقبلة كل خاطره فرح وسانحة سرور وهذا نص الخطاب: - إلى رينيه

يعلم الله يا أخي أنه قد طالما وهبت لك حياتي لأطوي عنك فترة من فترات الألم ولكن لأقول نجم الحظ لم أوفق إلى طريق إسعادك ولم أهتد إلى سبيل الترفيه عنك وإني أرجّي أن يكون من ذلك العجز الواضح شفيع لديك وعذير إليك إذا أنا تلمست الخلاص منك وركنت إلى الفرار كمن قارفت ذنباً أو ارتكبت إثماً فليس لي يدان بدفع توسلاتك وقد حم الرحيل وأظل الفراق وقد جاء الوقت الذي ألبى فيه النداء المهيب الذي كان يتصبب في أذني من نواحي السماء مهيباً بي. لماذا تريثت إلى الآن؟ وأنت تعرف يا رينيه جنوح نفسي من عهد الحداثة إلى الحياة الدينية وقد كنت باقية في الحياة من أجلك فافسح لي فناء العذر فقد أدتني الأحزان لمفارقتك وإني في هذه الأيام يا أخي العزيز لأدرك من صميم نفسي وأشعر من أعماقها بضرورة هذه الملجئ التي أعهد فيك الأعراض عنها والأزوار عن جانبها وإن هناك من أفانين الشقاء وألوان المصائب ما يسوقنا إلى اعتزال الناس وإذا الناس وإذا لم يكن هناك تلك الأديار فإلى أي ركن كان يلجأ الهارب وفي أي ظل يحتمي وأكبر ظني أنك تلقي يا أخي العزيز الراحة المنشودة في تلك العزلة الدينية فليس في الأرض منزل يليق بكرامتك والناس أنذل وأقل قيمة وأقل قيمة من أن تعايشهم وهل تطن أن هناك شيئاً أكثر مجلبة للاحتقار أو مدعاة للأهوان من أدامة التفكير في ترك الحياة ورفضها وإذا كان إنسان له سجايا كسجاياك وطبائع كطبائعك يجد الموت سهل المساغ عذب المور فماذا تظن بحاجة أختك إلى الموت وتعلقها بالموثق فإني أعرف وفاءك وصدقك وقد أقسمت أنك ستعيش من أجلي ولكن يا عزيزي رينيه العزلة جانباً واخرج من أفيائها إلى مضاحي العمل وأبحث عن وظيفة لك وإني أعلم إنك تبتسم ابتسامة مرة معلقاً بأطرافها السخر من مجاري الأحوال في فرنسا وتزهد في الالتحاق بوظيفة ولكن لا تحتقر تجاريب آبائنا وحكمتهم في الحياة فقد كان نفعهم عمماً وخيرها شاملاً وكانت أقل من غيرها تعطيلاً لمصالح الناس وإضراراً بهم واتبع أسلوب الحياة الذي يعيشه أكثر الناس لتكون أقل شقوة واندر كسوف بينا ولقد تصيب في الزواج قرة لعينك وسلوانا فتقضي الأوقات مع زوجتك وأولادك وأي امرأة لا تستفرغ جهدها في إشعارك السرور وإدخال الابتهاج على ننفسك فإن روحك النارية المتوقدة وعبقريتك الجميلة المشرقة وسمتك وما عليه من شارة الجلال والأبهة وما يقرأ في ملامحك من معاني الإباء وعزة النفس والعطف والحنان كل هذه الصفات والشمائل تجعلك تستوثق من حبها لك ولا تستريب في قصر هواها عليك وانصباب أميالها نحوك لترد عنك كياد الأحزان وتبطل أسباب الآلام وستضمك بين ذراعيها ضمات تنم عن الحب الدخيل وتبوح بالهوى المستمكن الأصيل وتكون لك ينبوعاً عذباً من الصفاء ومورد إخلاص ازرق الجمات وسأرحل إلى دير. . . فإنه مبني على شاطئ البحر وموقعه يلائم روحي ففي الليل من وسط غرفتي أسمع خرير الأمواج التي تغسل حيطان الدير وأفكر في تلك الجولات التي كنا نجولها معاً في وسط الغابة يوم كنا نظن أننا نسمع صوت البحر من قمم أشجار الصنوبر المهتزة. فيا رفيق طفولتي العزيز قل سنلتقي بعد ذلك وأعقد بك الحاظاً شيقة لرؤيتك وقد كنت أكبر منك سناً بأعوام وقد هززتك في مرقدك وكثيراً ما كنا نرقد في مرقد واحد فهلا ضمنا قبراً واحد يوماً ما ولكن أني يكون ذلك وأنا سأرقد وحيدة تحت رخام المعبد حيث نستريح الراحة الأبدية هؤلاء الفتيات اللواتي لا يأبه بهن أحد ولست أدري إن كنت سنتمكن من قراءة هذه السطور التي قد بللتها الدموع ولقد كان فراقنا أمراً محتوماً ليس في قدرتنا أن نستدفعه وأنت تعرف حيرة الإنسان وأنت تعرف حيرة الإنسان من حوادث الحياة وتدري صغر قيمتها وإني أذكرك بصديقنا الصغير م الذي مات غريقاً في جزيرة فرنسا والذي لما تسلمت آخر خطاب منه بعد مرور أشهر على موته كان جسده رهين الحفائر وفي الوقت الذي بدأت فيه تلبس عليه ثياب الحداد كان الناس قد تناسوا الحزن عليه في الهند فما قيمة الإنسان الذي تغيب ذكراه هكذا عاجلاً في سباسب النسيان؟ فريق من أصدقائه لم يصلهم بعد نبأ موته بينما الفريق الآخر قد تعزوا فيا عزيزي رينيه بل يا أعز الأعزاء هل ستغيب ذكراي من نفسك وتقفر منازل حبي من قلبك بهذه السرعة؟ يا أخي نزعت نفسي منك في الحاضر لكيلا نفترق في الأبدية.

حاشية - أضيف إلى هذا الخطاب أني أهبك كل ما تمتلكه يدي من متاع الدنيا ولي أمل أنك لا ترد ذلك وأن تقبله دليلاً على حبي لك وانعطافي نحوك.

  • * *

ولو أن صاعقة سقطت إذ ذاك عند قدمي لما أحدثت في نفسي الذي أحدثه وقع ذلك الخطاب فما كنه ذلك السر الذي سترته عني امليا؟ وما الذي بعثها فجأة على الإقامة في الدير؟ وهل جملت في عيني الحياة بما خلعته عليها من رونق ودادها الساحر لتتركني على عجل ولم جاءت إليّ وجعلتني أصدف عن خطتي ولقد بعثها إلى دافع الشفقة ولكن لما اعتراها التعب بغتة من تلك المهمة الشاقة نأت بجانبها عن بائس لا يعقد الآمال على غيرها ولا يفكر إلا فيها ومن غرائب الأمور أن الناس يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً إلى من منعوه موارد الانتحار وبقد كنت أشكوها إلى نفسي قائلاً يا امليا يا ناكرة الجميل وجاحدة الفضل لو كنت أنت مثلي قد ضللت السبيل في صحراوات الأيام لما كنت أتحامى القرب منك وأتسلى عن بعادك ولما أعدت قراءة الخطاب تبينت فيه أثر الألم والحزن فأجدّ ذلك جروح قلبي المندملة ثم أومض لي بارق فكرة أنارت في ليل حيرتي وشكي وهي أن امليا قد تكون أحبت إنساناً وكتمت حبه ولم تجرأ على الإباحة بهواها وقد تراءى لي أن هذا الظن يوضح كل ما التبس حزنها وبواعث كآبتها والرسائل الغريبة التي كانت ترد إليها وذلك الحزن الذي يلوح من خلال خطابها فكتبت إليها فوراً متوسلاً إليها أن تكشف لي عن أسرها فأسرعت في الرد ولكن لم تطلعني على جلية أمرها وقالت لي أنها حصلت على إذن لتتدرج في صفوف المتقدمات للرهينة وأنها عن قريب ستقسم اليمين فاتقدت غضباً من إصرار امليا ومن غموض كتابها والتوائه علىى الفهم وعدم ثقتها بمودتي وبعد أن أعملت الفكر وأجلت النظر فيما أفعله حيال ذلك نويت الذهاب إلى ناحية (ب) حيث أبذل هناك ما في طوقي وكانت الديار التي نشأت فيها على الطريق ولما رأيت الغابات التي أمضيت فيها الأيام الزاهرة من حياتي لم أستطع حبس الدموع وإمساك أرسان الأشجان وكان يعز علي أن أمر عليها بلا وداع وأودعها بلا سلام وكان أخي الأكبر قد باع ميراثه ولكن المشتري الجديد لم يسكن في القصر وقد وصلت إليه من ممشى محفوف بالأشجار وكنت أمر بأطرافه المهجورة وكنت أمشي على مهل أنظر النوافذ المقفلة والمكسورة والشوك الذي ينمو عند جدران الحيطان والأوراق الجافة المنتشرة على اوصدة الأبواب والبهو الذي كان يجلس فيه والدي مع خدامه وحاشيته وقد كانت السلالم يعلوها الطحلب وكان زهر الحيطان الأصفر نامياً بين أحجارها القلقة المهتزو ثم فتح حارس لا أعرفه الأبواب بخشونة فترددت في الدخول فصاح بي الرجل أظنك ستصنع صنيع تلك الغريبة التي جاءت هنا من منذ أيام وعند دخولها أغم واضطررت إلى حملها للعربة وكان من الواضح أن أعرف تلك الغريبة التي جاءت مثلي تودع تلك الأماكن البكاء والعبرات ومواقف الذكر والحسرات ثم سترت عيني بالمنديل ودخلت تحت أسقف ديار قومي وطفت المخادع التي لم أكن أأسمع فيها سوى صدى أقدامي وكان بالقاعات ضوء كليل من الأشعة الضئيلة الداخلة من خلال النوافذ المقفلة وزرت القاعة التي ماتت فيها والدتي والقاعة التي كان يعتزل فيها أبي والقاعة التي كان فيها مرقدي والأخرى التي نشأت فيها الصداقة بيني وبين أختي امليا وكانت كل القاعات عريانة مجردة وكنت أرى هناك نسج العنكبوت ثم خرجت مسرعاً إرجاع لطرف إلى نواحيها فما أرق حواشي الأيام الماضيات إذ عقد الأخوان منتظم وشملهم ملتئم وإذ حلو المذاق وكأس المسرات مترع دهاق ولكنها قصيرة العمر سريعة المر كأنها خطف الوميض يعارض مبراق فإن نفس الله يفرقهم كالدخان فلا يعرف الابن أباه وينكر الوالد ولده وتنسى الأخت أخاها ويتشاغل الأخ عن أخيه وإن شجرة البلوط تضم حولها صغارها ولكن ليس هذا حال بني الإنسان ولما وصلت إلى ناحية (ب) توجهت إلى الدير وطلبت أختي وسمعت أنها لا تقابل أحداً فكتبت إليها فأجابتني أنه ليس في الحق أن ترسل أي فكرة في الدنيا بينما هي تكرس حياتها لله وإني إذا كنت صادقاً في حبي لها أتحاشى أن أقلقها بأحزاني ثم أتبعت ذلك بقولها ولكن إذا كان في عزمك الحضور يوم حفلة دخولي الرهبنة فإني أختار لك أن تمثل فصل الوالد وهذا ما يليق بكرامتك وما يجدر بصداقتك.

ولما قابلت بين هذا الإصرار الجاف وبين حماس صداقتي الشديد كاد يطير عقلي ويذهل لبي فكنت أحياناً أحاول العودة إلى منزلي ولكني آثرت البقاء لأبدد نظام الحفلة وقد كان يوسوس في نفسي الشيطان أن أنتحر في الكنيسة وإن أمزج زفراتي الأخيرة بالأنات المتصاعدة من أختي وقد أخبرتني ربة الدير أنهم قد أعدوا مقاعد في المحراب ودعتني لحضور الحفلة التي ستقام في الغد وعند انفجار عمود الفجر سمعت أول دقات جرس الكنيسة ولما دنت الساعة من الحادية عشر قصدت الدير ولا شيء يصدع حصاة القلب مثل رؤية منظر كهذا ومما يشب الحسرة ويستضرم الكمد أن نعيش بعد رؤيته وكانت الكنيسة خاصة بالناي ثم اهتديت إلى مقعدي في المحراب وقد جلست على ركبتي غير عالم بما أصنع وبما قام في خاطري ثم وقف الراهب أزاء المذبح وفتحت النافذة السرية وأقبلت امليا وقد تزينت بكل لماع من الحلي وفاخر من الثياب وسائر صنوف الأبهة الدنيوية ولقد كانت إذ ذاك غاية من الملاح والحسن وكان يبدو على محياها المشرق معان مقدسة تثير الدهشة والإعجاب ولما بهر ي ذلك الحزن الجليل الفخم الذي أقبل على نفسي من تلقاء القديسة وملا نفسي ذلك الجلال الديني غابت من نفسي كل نوايا الشر للقديسة وخارت قواي وشعرت أني في قبضة يد قوية ولم أجد في قلبي غير إعجاب عميق وخشوع وضرع وجلست امليا تحت مظلة وابتدأت الحفلة على أنوار المشاعل وفي وسط الأزهار والروائح العطرية وعند ما وهبت نفسها وكرست حياتها نزع الراهب عنه ملابس ولم يبق على نفسه سوي غلالة من كتان ثم صعد المنبر وألقى خطبة قصيرة مؤثرة أتى فيها بوصف سعادة العذراء التي وهبت حياتها للسيد ولما قال وهي مثل البخور الذي يتفانى في اللهب استولى على الحاضرين سكون تام وانتشرت الروائح الفردوسية وكانت للناس تشعر أن الملائكة قد هبطت الأرض وكأن أجنحتها ترفرف ول المذبح ولما أتم الراهب خطبته ولبس سائر ثيابه واستمرت الحفلة رأيت امليا وقد ركعت على ركبتها على آخر درج المذبح وكان يعاونها في ذلك اثنان من الراهبات الصغيرات وهنا طلبت لأقوم بالوظيفة الأبوية.

ولما سمعت امليا صدى خطواتي المضطربة في المعبد كانت على وشك الإغماء ووقفت إلى جانب الراهب لأقدم له المقص وفي هذه اللحظة شعرت بتجدد ثوراتي واشتعلت في تفسي نيران الغضب ولكن امليا استعادت قوتها ورمتني بنظرة حشوها التأنيب واللوم والحزن كسرت من حدتي واطفأت ما احتدم من غضبي واستفادت أختي من اضطرابي وتقدمت بكبرياء وصيد وكان شعرها الفاخر يتساقط على النيران المقدسة وارتدت برداء كثيف ونزعت الحلي ولكن ذلك لم يزر بجمالها وكان الملل المرتسم على جبهتها قد سترته تحت عصابة من التيلة كان على رأسها النقاب الغريب الذي يرمز للدير والعذراء ولم أرها يوماً من الايام أجمل منها في ذلك اليوم ولقد كانت عينها النادمة موجهة نحو الأرض ولكن روحها كانت تحلق في السماء ولم تكن امليا قد حلفت اليمين بعد ومن أجل أن تموت من نفسها كل رغبات الدنيا كان لا بد أن تمر من جوف قبر وقد رأيت أختي راقدة على الرخام وعليها غطاء وكانت أربعة مشاعل تزهر في الأركان الأربعة وكان القسيس وهو ملتف في برد أسود وفي يده كتاب قد بدأ الجناز ثم أكملته الراهبات فما أشد السرور الديني ولكن ما أروعه وما أهوله ولم أتمالك عن الركوع حيال هذا المنظر المحزن ثم سمعت بغتة من ناحية المقبرة أنيناً مضطرباً فانحنيت قليلاً وهنا اصطدمت في أذني تلك الكلمات الهائلة (التي كنت أنا المقصود بها) ليت الله يقدر لي أن لا أعود من تلك الرقدة إلى الحياة ويرسل كل رحمته على أخي الذي لم يشاركني في أميالي الأثيمة وهنا انبلج لناظري صبح ذلك السر وغبت عن صوابي وسقطت على الرداء وضممت أختي في ذراعي وقلت يا من وهبت حياتك للسيد المسيح دعيني أعانقك العناق الأخير وأنت في هاوية الموت التي ستبعدك عن أخيك.

وقد بددت هذه الكلمات وما أعقبها من سيل الدموع وانهمارهما نظام الحفلة فتوقف الراهب وأقفلت الراهبات النافذة وانصبت جموع الحاضرين إلى المذبح وحملت وأنا مفقود الرشد ولست أحمد صنيع هؤلاء الذين ردوا عليّ مشاعري وعلمت عند رجوع إحساسي أن الحفلة قد تمت وأن أختي أصيبت بحمى شديدة وأنها طلبت مني أن لا أراها فيا للهفة والشقوة! أخت تخشى محادثة أخيها وأخ لا يستطيع محادثة أخته ثم تركت المعبد كما نخرج من مكان تطهير الأرواح حيث اللهب المتطاير والنار المشتعلة يمحوان عنا الآثام ويؤهلاننا للدخول إلى النعيم المقيم والسرور المخلد ولقد نجد في نفوسنا قوة عند مقاومة النكبات التي تحل بنا وتنحت من جانبنا ولكنه يصعب علينا أن نحتمل تبعة شقاء غيرنا ولما أحطت علماً بأسباب شقاء أختي وضحت لي جملة حوادث كانت من قبل مبهمة مثل ذلك المزيج من الفرح والسرور الذي لاح على امليا عند ما كنت أودعها مسافراً لجوب الأقطار وذلك الحذر الذي كان من دأبها عند عودتي وذلك الضعف الذي كان يحجزها عن الذهاب للدير ولقد كان سبب المكاتبات التي تردها عزمها على اللحاق بالدير ورغبتها في ترك ما تمتلكه لي ولقد ذقت الآن إراقة الدموع على الهموم الخارجة عن دائرة الأوهام الغير المكسوة بأثواب الخيال ولما كانت أهواء نفسي طويلاً بدون وجهة تنحوها وغاية ترمي إليها انثالت كلها وأقبلت من كل مشعب إلى هذا الحزن الجديد ولقد صرت أشعر بضؤب من ضروب القناعة في بلوغ همومي الكمال وقد سرني أن أعلم أن الألم ليس من الميسور أرهاقه مثل السرور ولقد كنت أريد هجران الحياة قبل الساعة التي يريدها الله.

ولقد كان ذلك إثماً وقد أرسل الله امليا لتنقذني من حبائله ولتنزل بي العقاب وإن كل فكرة أثيمة أو كل عمل أثيم يسوق إلى النفس رسل الشقاء ولقد توسلت إلى امليا أن أرتضي الحياة وأن لا أأدبر عنها وكان ينبغي لي أن لا أزيد في شقائها. ولقد صرت الآن لا أرغب في الموت وهمومي حقيقة ملموسة ولقد صارت الهموم تملأ جو نفسي وقد كان قلبي بطبيعته وتركيبه كأنما قد صيغ من الضجر والملل ثم تمشي ببالي أن أهجر فرنسا وأرحل إلى أمريكا وفي هذا الوقت كانت هناك عمارة بحرية تتأهب للإبحار من ميناء (ب) إلى لويزيانا فاتفقت مع أحد رؤساء سفنها على الرحلة معه وأعلمت امليا بذلك العزم وأعددت لوازم الرحلة وكانت أختي قد قاربت الموت ولكن الله الذي قدر لها حياة في الدير أطول لم يدعها إلى جواره ولما عاودت الدخول إلى طريق الحياة ذلك الطريق الوعر الذي حفت به المخاطر وأطاف به الهلاك تقدمت ثبتة الجنان ساكنة الطير لملاقاة أحزان الحياة غير ناظرة سوي تباشير الانتصار وآيات الظفر ولقد كانت ترى في وفة الآلام وتكاثرها غاية الفخر ونهاية العظمة.

وبيعي الأملاك التي كانت باقية لي والتي سلمتها لأخي والتأهب الطويل للرحلة وهبوب رياح مضادة أطالت كل هذه الأسباب انتظارنا زمناً ليس بالقصير في المرسى وكنت في كل يوم اذهب لأتنسم أخبار امليا واستطلع حوادثها وكنت أعود أدراجي وقد ثارت بنفسي عوامل جديدة تبعث على الشفقة وتدعو إلى الاعجاب وكنت أطوف بلا انقطاع حول الدير القائم على شاطئ البحر وكنت ألمح في نافذة صغيرة ذات قضبان حديدية مطلة على الساحل المقفر راهبة عليها سيما التفكير وكنت أراها تسرح النظر في المحيط حيث الأمواج تهز السفن التي ستقلع إلى أقصى نواحي الأرض وفي ضوء القمر كنت أرى الراهبة نفسها في النافذة ذاتها يشغلها التأمل في المحيط وقد أضاءته أنوار القمر وكأنها كانت تتسمع إلى أرانين أمواج المحيط وهي تنكسر على الساحل المهجور في حزن واكتئاب ويخيل لي الآن أن صدى الجرس الذي كان يدعو الراهبات إلى الصلاة الليلية والدعاء لا يزال يظن في أذني ولما كان يدق في رفق وكانت الراهبات يتقدمن في سكون إلى المذبح كنت أسير سيراً حثيثاً إلى الدير وكنت أسمع من وراء حيطانه آخر أناشيدهن التي كانت تختلط تحت أقبية الدير بصوت الأمواج الواهي وقد ملأ نفسي السرور والابتهاج ولست أدري كيف أن تلك الحالات التي كان من حقها أن تنمى همومي وتكثر من أشجاني كانت على عكس ذلك تستدفع مرارة همي وتخضد شوكته ولقد كانت تنحدر من عيني الدموع على الصخر وفي الرياح ولكنها لم تكن دموع الغضب ولقد صار حزني الخارج بطبيعته وجوهره عن حد المألوف يحمل في ثناياه نوعاً من الشقاء وإن الإنسان ليسره كل شيء غير مألوف ولو كان في طيه نكبةمن النكبات وكنت آمل أن أختي سيقل حزنها وقد وصلني منها خطاب قبل سفري أكد في نفسي هذا الظن ولقد كانت امليا تشاركني في همومي وتحنو على في اللأواء وقد ذكرت لي أن الأيام انقضت همومها وقالت إنها لا تيأس من السعادة وقد هبت على قلبها نسمات الهدوء من وراء التي قمتها وقالت أن بساطة رفيقاتها وسمو مقاصدهن وانتظام أسلوب معيشتهن كان يرسل السرور والبهجة في نفسي ويبدد منها سحب الأكدار ولما كنت أسمع دوي الزوبعة وأرى طائر البحر من نافذتي يرنق بجناحيه ويغالب العواصف كنت أفكر في السعادة التي نالتها طائرة السماء من وراء العثور على ملأ يرد عنها هوج العواصف وإن ذلك الدير هو الجبل المقدس الذي نسمعه من قمته آخر أصوات الأرض وأول موسيقى السماوات وهنا يخدع الدين النفس عن الإحساس ويطهر حسراتنا وينقيها ويبدل اللهب المتهالك بلهب باق على الأيام ويمزج الدين سكونه وبراءته ببقايا ألعاب قلب يهوى الراحة وحياة قاربت النهاية.

ولست أعرف ما تضمره لي المقادير وما ستلده الليالي الحبالي وهل الرياح العواصف ستتبع طريقي ما عشت ثم صدر أمر إلى السفن بالإقلاع وكانت طائفة من سفن العمارة على أهبة السفر عند الغروب وكنت قد نوى أن أقضي الليلة الأخيرة في البر لأكتب خطاب الوداع لامليا وعند منتصف الليل لما كنت مشغولاً بذلك ولما كانت الأوراق مبللة بدموعي وكان عزيف الرياح مرتفعاً تسمعت في صوت العاصفة المرنان فميزت صوت المدافع مختلطاً بدقات جرس الكنيسة فلجأت للساحل وكنت منفرداً وكان الشاطئ قفراً موحشاً لا يسمع الإنسان فيه إلا ترانيم الأمواج فجست على صخرة وكانت على جانب مني تزخر أمواج البحر المؤتلفة وعلى الجانب الآخر حيطان الدير الشاهقة التي كانت كأنما تغيب عن نظري في السماء وكانت تنبعث أضواء من النافذة ذات القضبان فهل كنت أنت يا امليا الساجدة أمام الصليب متوسلة إلى الله أن يرأف بأخيك وإن صور الزوبعة الثائرة في البحر والسكون السائد في الدير والناس تنكسر على الصخور في النواحي المجاورة له ومنظر اللانهائية الواقعة على الجانب الآخر من ذلك الدير ونور المصابيح المضطرب من السفن والمنار في الدير الذي يرسل الأنوار في سكون وحياة الملاح الذي لا يدري ما تبطنه له الأيام المقبلة فوق ذلك الزاخر الهزج وحياة الراهبة في الدير التي تعرف كل مستقبلها لأن حياتها صور متشابهة ومن ناحية أخرى روح هوجاء ثائرة في غرق أشد هولاً من الغرق الذي يغشاه الملاح - كل هذه القصور لا تزال منقوشة في صفحة ذهني مائلة لعين ذاكرتي فيا سماء تلك الأرض الجديدة التي تشهد الآن دموعي السواجم ويا صدى الشواطئ الأمريكية الذي يردد الآن كلماتي لقد كان في اليوم التالي لتلك الليلة الرهيبة وأنا مضطجع في السفينة أن نظرت أرض وطني تختفي عن نظري إلى الأبد ونظرت النظرة الأخيرة إلى الأشجار المهتزة التي تنمو على شواطئ وطني وكانت بروج الكنائس تصغر في الأفق.

ولما أتم رينيه قصته أخرج من ثيابه ورقة ناولها للأب سويل ثم رمى نفسه بين ذراعي شكتاس وأومأ إلى الأب - ويل وهو يحاول إخماد زفراته أن يقرأ الخطاب من رئيسة دير (ب) ويشمل تفاصيل آخر ساعة من ساعات الأخت امليا التي ماتت شهيدة حماسها وكرمها في القيام على رفيقة لها كانت مصابة بمرض معد وقد كان الحزن عليها عاماً في الدير لأنها كان لها المحلة العليا في نفوس الجميع وكن يجللنها أجلالهن للقديسات وأضافت تلك الرئيسة قولها أنها في الثلاثين سنة التي قضتها في الدير لم تنظر راهبة لها سهولة أخلاقها وتوازنها ولم تر راهبة قابلت الموت ببشاشة ورحب صدر مثلها - فضم شاكتاس رينيه في ذراعه وقال له يا ولدي لقد كنت أود أن يكون الأب أوبري هنا فلقد كان من شيمه التي عرف بها أنه يجرد من قلبه هدوءاً يخمد عواصف العقل ولقد كان مثل القمر الاضحيان في الليالي الباكيات المتعلقات بالحب فإن تلك السحب المتراكمة التي تزجيها الرياح لا تعوق سير القمر وهو يتقدم في هدوء وصفاء في وسطها أما أنا فكل شيء يسبب لي اضطراباً ويحدث فيّ هزة ولكنه ستهوي أميالي ويقتاد أهوائي وإلى هنا كان الاب سويل صامتاً لا ينطق مرسلاً على معارفه سيما الجد وكان يحمل بين جانحيه قلباً حدباً رقيقاً ولكنه كان يلبس مظاهر التعبيس والانقباض وما أظهره شكتاس من الاحساس جعله يعدل عن صمته ويقول لرينيه إني لم أجد شيئاً يستحق الشفقة والمرحمة في قصتك وإني أرى منها شاباً مفعماً بالخيالات يؤلمه كل شيء ويترك ما عليه من الواجبات الإنسانية ليندفع في تيار أفكار لا طائل تحتها وإذا كان الإنسان ينظر إلى الحياة نظرة سوداء فليس في هذا دليل ناهض على أنه اسمي من الناس نفساً وأرجح منهم لباً وأنا لنكره الناس وتنقض الحياة عند مالعجز عن أن نمد نظرنا إلى أعماق النفس الإنسانية وإنك لو أرهفت البصر وحددت الطرف لوجدت أنك تشكو من أشياء لا وجود لها وإنه لمخجل ومزر بشأنك أن لا يكون في منال قدرتك ومناط همتك النظر إلى كارثة حياتك الوحيدة بدون أن يحمر وجهك منها خجلاً وإن الدين والفضيلة والطهارة كلها مجتمعة لم تروح عن نفسك الحزينة ولقد كفرت أختك عن ذنبها وإنك هنا في الغابات تذهب أوقاتك عبثاً وتهمل واجباتك وقد تظن أنك تتشبه بالقديسين الذين كانوا يقيمون في الصحراوات ولكن هؤلاء كانوا يقضون أوقاتهم هناك في أخماد جمرة الأهواء ومغالبة سورة الأميال بينما أنت تذهب أوقاتك في إيقاظ تلك الأهواء وتحريك هذه المنازع ومن علمك أيها الشاب المغرور أن الإنسان كثير بنفسه وغن الوحدة لتفسد من لا يعيش فيها مع الله وإنها تضاعف قوة الروح ومن ناحية أخرى لا توجد سبيلاً للانتفاع بتلك القوة وإن من تمنحه الطبيعة قوة ينبغي له أن يصرفها في إنهاض نظرائه والأخذ بيدهم وإذا ترك تلك القوة مهملة فإنه يعاقب عاجلاً أو آجلاً بالشقوة الأبدية.

وقد أفاق رنيه لما سمع هذا الكلام فرفع رأسه من صدر شكتاس وابتسم شكتاس تلك الابتسامة التي تتجلى على الشفة بدون أن يظهر أثرها في العين وكان لهذه الابتسامة معنى غامض سماوي ثم قال شكتاس لرنيه إنه يخاطبنا يا ولدي بلهجة شديدة وكلامه هذا يقوم المموج فينا وهو على صواب في كل ما يقول وإني أشايعه على أنه الاليق بك أن تزايل هذه الحياة الغير المألوفة والمفعمة بالأحزان وأنه ليس هناك سعادة إلا في الاندماج في الحياة العامة وإنه في ذات يوم شكا المسيسبي عند منبعه من أنه ليس له سوى مجرى هادئ نقي وطلب إلى السحب في الجبال الشاهقات ومياه السيول العارمة وأمطار العواصف الغزيرة أن توافيه بأمواهها فأصبح الماء يفيض على جانبيه حتى اتلف ساحله البديع الذي كان مكسوراً بالأزهار محفوفاً بالأشجار ولقد كان ذلك النهر يزهى بقوته ويزمجر ويهدر ولكنه لما رأى أنه أمسى محوطاً يصحراوات وأنه يتفق في الفقر الموحش وإن أمواجه دائمة التوثب والإغتلام صار يأسف على حالته السالفة حيث الطيور على سواحله مترنمات والأزهار زاهيات والأشجار متهدلات الظلال ترافقه في سيره الهادئ الرزين، ثم أمسك شكتاس عن الكلام وسمع في الغابة أصواتاً مقبلة من ناحية المسيسبي كانت تنبئ عن قرب هبوب العاصفة فرجع الثلاثة قاصدين أكواخهم وكان رنيه يمشي صامتاً بين الأب سويل الذي كان يدعو الله وبين شكتاس الذي كان يتلمس طريقه وقد قيل لي أنهما رداه إلى زوجته ولكنه لم يجد الراحة المنشودة.

وقد مات بعد ذلك بقليل هو والأب سويل وشكتاس في المعركة التي حدثت بين الفرنسيين وقبيلة الناتشيز ويرى المشاهد هناك صخرة كان يجلس رميه فوقها عند غروب الشمس. . .

تمت القصة