مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/آثار تاريخية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/آثار تاريخية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 2 - 1912



آثار مصرية - آثار فارسية - آثار يابانية - آثار عربية - آثار رومانية

الحكمة المشرقية

وهذا هو مجموع الآثار الأولى الثلاثة قال الفاضل محمد لطفي جمعة معرب هذا الكتاب ومهديه إلى البيان: الحكمة المشرقية هو كتاب ذو أجزاء ثلاثة الأول يشتمل حكم فتاحوتب وزير الملك ايسوسي احد ملوك الأسرة الخامسة كتبه يعلم ابنه الحكمة ويرشده وهو من الكتب النادرة التي بقيت من آثار الأدب المصري القديم الجزء الثاني يشتمل (جولستان) أو روضة الورد في الحكمة والزهد والأمثال لحكيم الفرس وشاعرها الأشهر مصلح الدين سعد الشيرازي من أهل القرن السادس للهجرة وشهرة هذا الكتاب تكفي في الدلالة على مايحتويه الجزء الثالث في تربية الاناث اليابان وضعه أحد مشهوريهم في القرون الوسطى وله مقدمتان الأولى في تاريخ نهضة اليابان الحديثة والثانية في موضوع الكتاب - وهذا هو الجزء الأول من كتاب الحكمة المشرقية وقد وضع له العرب الفاضل ثلاث مقدمات قال حفظه الله.

المقدمة الأولى

كانت حكم فتاحوتب لدي قدماء المصريين من الكتب المعتبرة حتى أنهم كانوا يعلمونها أولادهم في المكاتب والمدارس ويقرأونها في المنازل والمجالس لهذا عثر البحاثون في الآثار المصرية على نسخ عدة من هذا الكتاب النفيس ولا يخفى أن كثيراً من الكتب النافعة الممتعة وجدت حيث كانت معاهد العلم ولولا تعدد نسخها ما عثرنا ببعضها بعد مرور ستين قرناً من تاريخ تأليفها وانتشارها.

وقد علمنا من ورق البابيروس (البردى) أن طلاب دار العلوم المصرية القديمة كانوا يكتبون في اليوم ثلاث صفحات من حكم فتاحوتب ليحسنوا خطوطهم ويهذبوا نفوسهم وليتخرجوا في فنون البلاغة والإنشاء لسلاسة أسلوب الحكم والنصائح المذكورة وتلك الكراسات التي كتبها شبان المصريين القدماء هي التي يصرف محبوا الآثار في هذا العهد أيامهم ويوقفون أعمارهم على البحث عنها والتنقيب عليها ونقلها من اللغة القديمة إلى اللغات الحديثة لينعم أبناء هذا العصر نظرهم في حكمة أبناء القرون الغابرة.

أما النسخة الأصلية التي فسرها العلامة باتسكومجن العالم الأثري الإنجليزي وهي معتمدنا في هذا التفسير العربي فقد عثر بها العلامة المؤرخ الفرنسي بريس دافن ومعها غيرها من الآثار الأديبة في شتاء عام 1847 وذكر هذا المؤرخ أنه شراها من فلاح مصري كان يعمل في الحفر والتنقيب على مقربة من مقابر طيبة ويذهب البعض إلى القول بان تلك الآثار الأديبة الثمينة وجدت في أجداث ملوك حنتف وهم أفراد الأسرة الحادية عشر التي أقام امنمحعت الأول على إنقاضها دعائم دولته وانتزع الملك من آخر ملوكها وحصره في أسرته الثانية عشر.

وقد اهدى العلامة بريس دافن هذه النسخة إلى دار الكتب الملكية بباريس حيث لا تزال معروضة لأنظار الزائرين وطول القرطاس التي كتبت فيها حكم فتاحوتب بالذراع البلدي ثمانية ونصف وعرضها ذراع وهذا قياس البابيروس المعروف لهذا رجح المؤرخون رأي القائلين بالعثور بتلك الأوراق في قبور الملوك. أما ورقة البابيروس المذكورة فمؤلفة من ثماني عشرة صفحة مكتوب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بالأحمر. ويحسب رائيها لأول وهلة أنها حديثة لأن طول القدم لم يصبها بآفات التبديد والتشتيت حتى إذا تبينها وقلب صفحاتها ظهر له أنها لم تنج من آفات القدم التي اغتالت بعض الأوراق وتركت البعض الآخر أثراً بعد عين. ومما أبقاه لنا الدهر من أوراق ذلك العهد كتاب كامل وهو حكم فتاحوتب وآخر ناقص وهو نصائح كاجمني أما نسبة الكتاب الثاني إلى كاجمني فمن باب الحدس والتخمين لأن العث لم يبق على شيء يستدل منه على اسم واضع الكتاب ولأن المفسرين لم يعثروا فيه من أوله إلى آخره إلا على علم واحد وهو كاجمني فظنوه اسم واضع السفر. وأهمية هذا الكتاب هي في أنه أقدم ما كتبه البشر حسبما نص علماء الآثار

أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك ايسوسي وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة.

والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة لأنها تشمل الشريعة الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشؤون حياة مصر الاجتماعية. فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج وهو بنا أجدر وأخلق.

المقدمة الثانية

في كتاب حكم فتاحوتب

أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب أن واضعه لم يترك بحثاً اجتماعياً إلا وطرق بابه ولم يدع موضوعاً أخلاقياً إلا وخاض عبابه فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث ويصف كل مجادل ويشرح ما ينبغي في حقه كالإذعان لذي الحجة أو الرد عليه بالتي هي أحسن أو الاعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه وتدعو إليه حاله إذا هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصراً على تلك المسائل التهذيبية بل تناول أهم المسائل الاجتماعية فشرح مايليق بالرجل نحو المرأة وما يجب في حق الوالد على الولد وأفاض في وصف معاملة الخدم وأمر بالإحسان إليهم والعطف عليهم وذكر حقوق الاجراء والعمال على أرباب المال والأعمال. وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعاراً لمبدئه في الأخلاق فلا نختار لذلك أفضل من قوله كن محبا للخير والناس تكن سعيداً في الدنيا والآخرة ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة وهو حب الخير لذاته وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير والتأدب في الحديث والاعتدال في العيش والاحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة. وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان إنك إذا أطلعت أباءك في صغرك وولي أمرك في كبرك وأحسنت السياسة في رئاستك وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله فإنك تنال رضى الملوك وتبلغ أسمي الدرجات وتكون لدى الله من المقربين.

ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعلا الشر هو رادع مادي محض أو هو من قبيل أعمل تؤجر وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير لا لأنه أفضل منه بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.

وقد يأخذ بعض الناقدين على الحكيم فتاحوتب أغفاله ذكر أمور شتى كالرفق بالحيوان فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأدمة المصرية التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة وانتحلت لذلك أسباباً وأعذاراً شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب واضع هذا الكتاب على سطور منقوشة مؤداها أنه كان يستدعي في كل صباح قرداً وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها إشفاقاً منه عليها ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلاً داحضاً على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.

ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد (مع العلم بتعدد آلهة المصريين) ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه يعاقب المذنب ويثيب المحسن ويعطي السائل وينظم الكون ويحب مخلوقاته ويرقب أعمالهم حسنها وسيئها ويكلأهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم ويرى القارئ أن هذه الصفات اسمي ما يوصف به الخالق سبحانه وتعالى ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام. فهل كان فتاحوتب موحداً كإبائه الكهنة وكان يريد بتوحيد الله في كتابه التصريح والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل فنقول ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص لهم كآمون بطيبة وفتاح بمنف وغيرها من الأرباب فلو أنه ذكر واحداً من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصراً على أهل بلد دون غيره لذا ذكر المؤلف لفظ الجلالة مطلقاً غير مقيد بزمان أو مكان أو اسم معروف فكان أبناء كل بلد يقرأون الحكم ويقفون على ذكر الله المطلق فيحسبون أن المقصود هو ربهم وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين فكانوا إذا رأوا ذكر الله الغفور المحسن المعطي توجه كل بقلبه ولبه إلى معبوده وربه وها نحن نكتفي بجواب الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بك في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العليا في خريف 1907 عن التوحيد عند قدماء المصريين قال:

قال تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين وهي موافقة تقريباً للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت في أوراق البردي القديمة - وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي:

الله وحده لا ثاني له يودع الأرواح في الاشباح. أنت الخالق تخلق ولا تُخلق خالق السموات والأرض

وأخذ الخطيب يبين للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها فذكر أن الله كان يرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي وأن لا النافية يرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم وإن الأرواح يرمز لها بثلاثة من الطير وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور (أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر) وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من (تقمص أرواح الموتى للذباب الاخضر) وإن العابد يرمز له برجل رافع يديه تعبداً والأرض بقوس تحته حصى. وقال إن الافرنج كانوا يعتقدون إلى ماقبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم.

من أين التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟

أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام فقد كان موحداً بدليل قوله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد وهنا يتجه اعتراض مؤداه أن الشرك كان شائعاً عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {أءرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} ومعلوم أن يوسف كان سجيناً عند فرعون مصر. ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع العرب الذي دخلوا مصر في العهد القديم أي قبل عصر الأسرات ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية - ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب بدليل أن محمداً وجد بالكعبة 365 صنماً فهشمها ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تشابهها في اللغة الهيروغليفية مما يدل على نقلها من العربية وضرب مثلاً بضم اسمه بوانه الذي حرفه الفرنج فجعلوه فينكس لأن الباء تنطق في الهيروغلفية كالفاء وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم فقنس وقال أصحاب الأساطير أنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس ثم يرفرف بجناحيه فيتقد ناراً تلتهمه ثم يخلق منها ثانية وما نقله العرب هذا حديث خرافة كالخرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللات والعزى ومنات وإن لها ذكراً في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف ثم سئل الخطيب كيف تغلب الشرك على التوحيد فقال أن ذلك راجع إلى قوة المتغلب وسئل عن صيغة التوجد التي أوردها آنفاً فقال أنها موجودة في أوراق البردى القديمة ثم استطرد إلى تعريف البردى فقال أنه نبات يزرع في الوجه القبلي وتخرج منه غلة تشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ وقد وجد الخطيب منها قطعاً يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أما اللوتس (البشنين) فإنه يزرع في الوجه البحري وهو ينتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضاً ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسننة لا مستديرة وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية.

ثم قال حضرة الخطيب أن هذين النبتين يرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقبلي فإذا رأينا كرسياً مرسوماً عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقبلي لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب

المقدمة الثالثة

تاريخ الأسرة الخامسة المصرية

التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750 ق. م أي منذ ستة وأربعين قرناً وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورت أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب ري وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا الملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم لأن فيه رمزاً دينياً يجعل دار الملك مرتبطة أبداً بالسلالة المقدسة ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين وإشراكهم في النفوذ والسلطان ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسوا الآثار الخالدة أن يشفعوا هذا اللقب الديني (ري) بأسمائهم فلم يرض ملوك تلك الأسرة ولم يفلح الكهنة في سعيهم. ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبداً فخيماً يسميه هيكل الشمس المقدس وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل وفي كل واحد منها غرف رحيبة وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعاً رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفاً مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال وفي بعضها صورٌ تمثل الصحراء الواسعة الأكناف والبحر المحيط المترامي الأطراف وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم. وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية ويظهر ان الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها ووقف ريع الضياع والحقول عليها وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصاري وتكايا المسلمين يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها ويذكر المؤرخون إن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية ففي أيام الملك ايسوسي آخر ملوك الأسرة الخامسة نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب (الفتاح العليم) وهو وزير مصر ومحافظ المدينة وقاضي القضاة ووارث كهنة فتاح. وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة وأذنوا لاكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم والاشتراك معهم في تدبير شؤون الملك وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقباً ثابتاً هو لقب فتاحوتب فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة ثم أن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضاً فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة باسرتين متضامنتين متكافلتين ومنشأ هاتين الاسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم ثم اقتسموه بينهم فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس هليوبوليس والوزارة نصيب كهنة فتاح وهم لا ريب أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذاً وأقل شأناً وشأواً. وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين واستسلامهم لهم تعليلاً حسناً لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة مااستطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك مادام الكل يطمع فيه والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة وخلوه يرسف في قيود الذل ويعمه في ليل من الغفلة ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتاب بعض المؤرخين وثقتنا بهم وسعة اطلاعهم لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح وقولهم عنهم أنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها.

بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة ولا تغفل عما يفعل الظالمون انتقمت للضعفاء من الأقوياء وانتصرت من الباطل للحق فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال فسنوا لأنفسهم سنة جديدة وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم فكان كل عامل يخلفه ولده ليكون خير خلف لخير سلف. . وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية (بيروقراطية) وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم مالا يخفى لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقاً وراثياً فيها فلا يستطيع الملك أن ينال من السلطة مالا يود عماله ولما كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة سرت روح الحرية شيئاً فشيئاً حتى بلغت الفئات النازلة. ثم أن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم وشدت أزرهم ورفعتهم إلى عرش الملك فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء ويسبغون عليهم ذيول العز ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكماً كان قبل نبيلاً وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره على أن كل الذنوب السياسية تغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة أمثال خوفو وخفرع ومنقرع القساة القلوب الغلاظ الأكباد العتاة الظالمين الذين سجلوا على نفوسهم ذنوباً لا يمحوها كر الدهور ولا ينسخها مر العصور بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء وتقاوم طوارئ الحدثان وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المهان الذي سيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها والصحراء الحامية تدمى أديم أقدامه بجمر أديمها والسوط المثلث مصوب إلى ظهره والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذاً لرغائب عتل زنيم ومعتد أثيم أصابه مس من الجن فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلا ذلك الهرم الجسيم أو أراد أن يخلد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها ليكتب بها سطراً في الصحراء لابد أن يمحوه الزمان وما زوال ذكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز!

لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو اوكيوبس الذي تعددت أسماءه تعدد أسماء ابليس اللعين واللوم خليق بالمؤرخين الذي ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون أكثر مما ذكروا صولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم لئلا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يروجونه من الصيت العتيد والشأو البعيد.

نقول ومدح الأسرة الخامسة في عرض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل انظر إلى ماحاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الصالح في الجيزة وأبي صير وصقارة فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى فلا جلال لها ولاسيما للوقار عليها وقد تهدم معظمها وعن قريب لا يبقى منها إلا ذكرها في كتب الأخبار وهذا الضعف في البناء لا يؤخذ دليلاً لى تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة إنما يؤخذ دليلاً على انتشار روح الحرية الشخصية لحد محدود وبرهاناً على ضعف نفوذ الملك بحيث صار عاجزاً عن سوق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تساق الأنعام للذبح وقد ذكر المؤرخ الكبير العلامة جمس هنري بريستد الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب أن مصر تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدما مادياً وأديباً وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاء باهراً كما أن الآداب نهضت نهضة شماء فألفت الكتب وصنفت الرسائل ودونت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائعة وذكر هذا المؤلف في صحيفة 107 من كتاب تاريخ مصر القديم (طبع نيويوك) إن النهضة الأدبية وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبان نشأتها فقد أنجبت كتاباً وحكماً هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمة ومن هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الامثال والمواعظ ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلا بعد أن حنكته الليالي والأيام ودربته الحوادث والتجارب وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة وأقبلوا على حكم فتاحوتب خاصة ولا بدع إذا نالت تلك الحكم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر فهي من أقدم ماكتب الكاتبون وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون أهما قاله العلامة بريستد وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحداً وإن الألفاظ التي استعملت في الكتب قليلة محصورة واستدل بذلك على ضعف اللغة الهروغليفية في عهد الأسرة الخامسة ولكن غيره يرون غير رأيه ويقولون إن جال الشعب من العلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير والسهولة في الإنشاء والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرب من ذهن عامة الناس وهذا خير من التقعر وذكر مالم يصل إليه علم المتوسطين.

حكم فتاحوتب

هذه حكم الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك ايسوسي ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.

قال الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضى القضاة للملك ايسوسي اعلم يا مولاي أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس فعادت نضرتي ذبولاً وغضاضتي محولاً وجسامتي نحولاً وقل الخير والنفع وذهب البصر والسمع وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان فلا قول نافع ولا برهان قاطع ولا ذهن يعي ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتي الالمعي. فاسمح يا مولاي لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلى منصبه لولده من بعده ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ فقد قيل أنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة عفا الله عنك وارشد بك شعبك وهداه بهديك.

فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل ايسوسي صاحب مصر السفلي أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة فلعله يجيء فذاً بين الأولاد موفقاً إلى سبل الرشاد فيكون قدوة لأمثاله يسيرون على نهجه ويختطون خطته ويختارون حكمته فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شؤونهم بصلاحه وتقاه.

فكتب فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس: -

(متلو)

آثار رومانية

ست عشرة رسالة حكيمة

من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه

لوسليوس

الرسالة الأولى

(في المحافظة على الوقت)

فرّغ نفسك أيها الصديق لنفسك وحافظ على وقتك الذي قد يضيعه عليك الناس سدى أو يسلبونك إياه سلباً أو يفر ويفلت منك أنت هباء فاحرص عليه وضن به وتعلم صونه وحسن تصريفه وثق بأن أوقات حياتنا إما أن تؤخذ منا أخذاً أو تنتهب انتهاباً وإما أنا نحن الذين نضيعها على أنفسنا عبثاً ونجعلها تُنقص من أعمارنا بدداً وشرّها هذا الذي يضيعه علينا منها إهمالنا ولعمري أنك لو أنعمت النظر لرأيت أن شطراً من حياتنا يذهب في تافه ما نعمل في الحياة والشطر الآخر وهو أعظمها قد يضيع علينا في لاشيء وأنا على الحالين غير عاملين إلا فيما يجب علينا ألاَّ نعمل وإلا فخبرني أين هو ذلك الذي يحافظ على وقته ويقدره قدره ويعرف قيمة اليوم الذي تطلع عليه فيه شمسه ويدرك أنه في كل ساعة تمر عليه يقترب من الموت وفي كل لحظة تكر يدنو منه الأجل، لا جَرَم أنا واهمون في اعتقادنا أن الموت أمامنا على حين أنا قاطعون منه مراحل كثيرة خلفنا فكل ما مضى من أعمارنا إنما هو منه أو من حقوقه المستردة، فاعمل أيها الصديق بما ضمنته كتابك الأخير إلىّ أن تجمع ساعات يومك وتستحضرها وما دمت محافظاً على الحاضر من وقتك مراعياً حسن التصرف فيه فلا تبال بالمستقبل منه وما ضبط امرؤ حاضر وقته وأحسن التصرف فيه إلا جرت حياته لعمرك أحسن مجرى إن كل ما بقي بعد الوقت ليس لنا بل هو أجنبي عنا أي لا حكم لنا عليه إلا هذا الوقت فقد وهب لنا قياده فهو الشيء الوحيد الذي منحتنا العناية حق التصرف فيه لأنفسنا بأنفسنا ولما كان لعمري من الفرار والفلت من بين أيدينا بمكان عظيم فقد يسلبنا إياه أول قادم ويشغلنا عنه أقل شاغل ومما مُنِيَتْ به الناس من ضروب الحمق أن تشغلهم الصغائر والسفاسف الممكن تداركها وتلافي أمرها على ظن أنها من العظائم الواجب العناية بها أما الوقت فلا يحفلون به ولا يظنونه من النعم الواجب شكرها والاحتفاظ بها على حين أنه من أكبر النعم المطوق بها أجيادهم ولا يوفونها مع ذلك حقها ولا يقدرونها قدرها، ولعلك سائلى وما تصنع أنت يا من تعلمنا الحكمة فأجيبك بالصريح أعلم أني مثل رجل الفقير المقتصد في معيشته لا يفوتني محاسبة نفسي على ما أنفق من عمري بالدقة على أني لا أفتخر بأنه قد لا يفوتني ضياع شيء منه هباء ولكني أعرف ما يضيع علىّ وكيف ضاع ولم ضاع وبذلك يمكني على نضوب عودي أدراك حالي وفقه شأني وما حالي وأيم الحق إلا كحال المكدود عن جده لا عن كده وهذا قد يرثى له الناس ويرقون له ولكن لا يمد له يد المعونة إنسان أما أنت فأني أختار لك على كل حال أن تقتصد في أمرك وتبادر إلى انتهاز الفرص من ثمين وقتك واعلم أن الأقدمين منا قد ضربوا مثلاً جليلاً للشيخوخة هو خير تمثيل في الواقع لحالها فقالوا: إذا بلغ ما في الإناء نهايته فلا اقتصاد ثَمَّ ولا ادخار لأنه لم يبق فيه غير الثفل وهو قليل في الكمية رديء في الكيفية.

الرسالة الثانية

(في الأسفار والمطالعات)

تنبئني رسائلك ويدلني ما يأتيني من أخبارك على ما أومل فيك من لخير فأن الأسفار والانتقالات لا تقلق لعمري راحة نفوسنا وإنما كل تلك الحركات لا تزعج إلا خواطر أصحاب العقول المريضة وأول علامة على سلامة النفس وصحتها معرفة المرء كيف يسكن بنفسه إلى نفسه. ولكني أحذرك مطالعة كل تلك الطائفة من الكتب الكثيرة والأسفار المختلفة التي قد تفضي إلى تشويش الذهن واضطراب الفكر فيجب عليك ألا تتعلق إلا بمطالعة المختار من أسفار كبار المؤلفين التي تغذي روحك مادتها إذا أنت أحببت أن تستفيد شيئاً يرتسم في عقلك وينتقش في نفسك واعلم أن كثرة الانتقال من مكان إلى مكان كلا انتقال من مكان وإذا قضي المرء أيامه في التنقل والأسفار فهو إنما يستكثر من المضيفين لا من الأصدقاء كذلك حال أولئك الذين لا يداومون على مطالعة مؤلف واحد بالدقة والإمعان وإنما من ديدنهم أن يمروا بأبصارهم على كل ما يقع لهم من الكتب مراً سريعاً كأنهم يركضون ركضاً والأغذية إذا خرجت من المعدة بسرعة على أثر تناولها لا تفيد الجسم ولا يكتسب منها البدن وكذلك في باب العلاج ليس أضر على البدن من كثرة تغيير الأدوية والعقاقير، وكثرة وضع الضمادات على الجراح قَلَّ أن تفيدها والإكثار من نقل غراس الأشجار من مكان إلى مكان يوجب ضعفها ويقل نماءها وبالجملة لا شيء تفيده العجلة في هذه السبيل، أجل إن مطالعة الكتب الكثيرة قد تسلى العقل وترطب الذهن ولكن لما كان ليس في قدرة الإنسان إلا مطالعة ما تصل إليه طاقته من الكتب فيجب عليك في هذه الحال أن تنتقي كتبك وأن لا تحرز يداك من الأسفار إلا ما تروق مطالعته والاستفادة منه ولعلك تقول لي إنما أرغب أن أطالع هذا الكتاب وأروض فكري في ذلك السفر فأقول لك أن شوق النفس إلى تناول الألوان الكثيرة ما هو إلا دليل على ضعف معدة صاحبها لأن كثرة الألوان لا تغذي بل هي قد تضر أكثر مما تنفع وصفوة القول أنه يجب عليك أن تثابر على مطالعة كبار المؤلفين المعتبرين وإن رأيت أن تنتقل منهم إلى سواهم بين حين وآخر فلا تفوتنك العودة إلى ربوعهم وأن تجمع وتستخلص من مطالعاتك كل يوم قوات جديدة وعلاجات مفيدة تطبب بها علل نفسك وأدواء مخاوفها من مثل الفقر والموت ونحو ذلك من الأرزاء والمصائب وأن تجعل لنفسك من مطالعتك اليومية مندوحة للفكر بها يستعين على هضم ما اكتسب منها في يومه وهي الطريقة التي أجرى عليها أنا فأني أطالع كثيراً ولكني أبقي لنفسي مندوحة ومستروحاً لذلك وهاك أتاوتي من الحكمة في هذا اليوم وهي مستمدة من أبيقور الذي ألجأ إلى ساحته عادة لمثل هذا الغرض لا عن عجز وتقصير وإنما للتوضيح والتنوير قال السرور بالفقر من الأحوال الشريفة ولعمري إذا كان ثَمَّ سرور ورضا في النفس فليس ثمّ فقر لأنه ليس بفقير ذلك الذي يقنع بقليله بل هو غني وإنما الفقير من تكثر أطماعه وتزداد رغائبه ولا غرو فإنه لا عبرة بأن تكون خزائن الإنسان طافحة بالنضار وحواصله مشحونة بالأقوات والأرزاق وأنه يملك العدد العديد من قطعان الأنعام وأن له من الموارد ما يعد بالجزيل إذا هو طمع وشره وتمني المزيد وهل من يستقل ما في يديه طمعاً فيما يتمنى ويؤمل الحصول عليه إلا فقير ما هو قياس الغني أليس هو لعمري الضروري أولاً ثم ما يكفي ثانياً؟

الرسالة الثالثة

(في اختيار الأصدقاء)

كتبت تخبرني أن الذي يحمل إليَّ رسائلك صديق لك وتحذرني منه في نفس هذا الكتاب وألاَّ أحدثه بكل ما يتعلق بك زاعماً أنه ثرثار يحدث بكل ما سمع فكتابك لعمري تضمن الضدين وجمع بين النقيضين وكأنك تقول لي أن هذا الشخص صديق لك وليس بصديق لك وكأن هذه الكلمة كلمة الصديق ما جاءت على أسلةِ قلمك إلا توفية للرسم وصورة لما اصطلح عليه في سعادة الناس كما اعتدنا مثلاً أن نسمي طلبة العلم أهل الفضل وأن ندعو من نقابله لأول مرة ونجهل اسمه بالسيد والمولي ولكن لندع هذه القشور اللفظية جانباً وننظر في اللباب والجوهر: فاعلم أن اعتقاد المرء في بعض الناس أنه صديقه ثم هو لا يراه موضع ثقته كما يرى نفسه ما هو إلا تطوح غريب وشطط عجيب في إدراك معنى الصداقة وحقيقتها، فصديقك يجب أن يكون موضع سرك في كل دخائلك ولكن بعد أن تكون قد اختبرته وسبرت أحواله إذ الثقة ينبغي أن تتبع الصداقة والحذر والاحتياط يجب أن يسبقاها أما ما يباين ذلك فليس إلا خلطاً وخبطاً في الواجبات المفروضة وخروجاً عما قاله تيوفراسطس الحكيم من أن إيصال حبال الصداقة قبل المعرفة ما هو إلا قطع بها بعد التعارف. فتروّ طويلاً ودقق في اختيار الصديق وإذا أنت ظفرت بصديق صادق فافتح له قلبك واجعله موضع ثقتك كما تثق بنفسك بل أشير عليك بأن تكون محبتكما خالية من التكلف جامعة إلا لما فيه مطمع لطعن الأعداء فيما تتبادلان من الأفكار والآراء وأن تجعله موضع سرك إلا ما جرت العادة بجعله سراً بين المرء ونفسه، فينبغي أن تبثه أحزانك وأشجانك وتطارحه أفكارك واعتقد فيه الإخلاص لك تجده مخلصاً إذ كم من مرة في الواقع علم الإنسانُ الغش والخيانة من اعتقاد الناس فيه أنه غشاش خائن لأن عدم الثقة قد يولد الخيانة، وما معنى الصداقة إذا كنتُ أكتم صديقي سراً أبوح به للناس؟ ولمَ لا أعتقد أنني وصديقي إذا اجتمعنا إنسان واحد؟ على أن في الناس من قد يبوح لأول قادم بما لا يجوز إلا للصديق وحده معرفته والاطلاع عليه ويصدع آذان الناس بأسراره التي لا تحتملها نفسه، ومنهم من هم على العكس من ذلك يخشون إفشاء أسرارهم حتى إلى أخلص أصدقاءهم وأعز أحباءهم وعلى أنفسهم لو أمكنهم ذلك كتمانها في أعماق قلوبهم فتجنب أنت هذين الطرفين في شؤونك وأسرارك لأن الثقة بكل إنسان وعدم الثقة بإنسان رذيلتان متشابهتان وفي الأولى منهما من سلامة النية بمقدار ما في الثانية من فرط الاحتياط، ومما يجب أن يلام المرء عليه أيضاً ملازمة الحركة أو مداومة الراحة فالحالة الأولى وهي مما يعجب به الجمهور من الناس تدل على قلق النفس وشرتها والثانية وهي كراهة الحركة واختيار الراحة أن هي إلا طريق الضعف والسقم واسمع لهذه الحكمة التي قرأتها اليوم في مؤلف بومنيوس حيث قال: إن من الأعين أعيناً لا تبصر جيداً إلا في ظلمة الليل ولكنها تعشو في ضوء النهار فينبغي أن نجمع بين الحالين ونؤلف بين الطرفين فنتبع العمل الراحة والراحة العمل وسائر الطبيعة تجبك بأن بارئها أوجد فيها الليل والنهار فجعل النهار معاشاً والليل سباتاً. (متلو)

آثار عربية

من ملك إلى ملك

رسالة هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم - يَقِفُه (يوقفه) فيها على الإسلام ويبين له بالدليل الناصع صدق المصطفى عليه السلام.

بويع الخليفة العباسي هارون الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة للهجرة ومات يوم السبت لأربع ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة فكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر وولى الخلافة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ومات وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة شهور - وكان على مملكة الرومان الشرقية في خلافة الرشيد قسطنطين السادس من سنة 780 - 792م ثم نيسوفورس المعروف عند العرب باسم - نيقوفور - من سنة 792 - 811م وقد عثرنا على هذه الرسالة في كتاب اختيار المنظوم والمنثور الموجود في المكتبة الخديوية معنونة بهذا العنوان الآتي - ومن الرسائل المختارة رسالة أبي الربيع محمد بن الليث إلى قسطنطين ملك الروم - ثم افتتح الرسالة بما يأتي - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم الخ الخ فبحثنا في كتب التاريخ التي تحت أعيننا عن هذه الرسالة وعمن كتبها ومن كتبت عنه ومن كتبت إليه فلم نر ذكراً لشيء من ذلك وغاية ما يمكن معرفته هو أن هذه الرسالة أرسلها هارون الرشيد إلى قسطنطين السادس والذي كتبها عن الرشيد هو أبو الربيع محمد بن الليث - أما الرسالة فأثر من أحسن الآثار وأسلوبها أسلوب الطبقة الأولى من كتاب العربية الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وابن العميد وأضرابهم ولذلك آثرنا نشرها في البيان وهذه هي:

من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى فأني أحمد الله الذي لا شريك معه ولا ولد له ولا إله غيره الذي تعالى عن شبه المحدودين بعظمته واحتجب دون المخلوقين بعزته فليست الأبصار بمدركة له ولا الأوهام بواقعة عليه انفراداً عن الأشياء أن يشبهها وتعالياً أن يشبهه شيء منها وهو الواحد القهار الذي ارتفع عن مبالغ كذا صفات القائلين ومذاهب لغات العالمين وفكر الملائكة المقربين فليس كمثله شيء وله كل شيء وهو على كل شيء قدير.

أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه قال لنبيه صلى الله عليه فيما أنزل من آيات الوحي إليه: أُذعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين: فرأى أمير المؤمنين من أحسن قوله وأفضل فعله أن يكون إلى سبيل ربه داعياً وبرسوله صلى الله عليه متأسياً ولقوله: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال أنني من المسلمين: موافقاً وكنت من كتب الله المُنزلة وآياته المفسرة وخَلقه الكثير بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته وانتفاعك بمجادلته انتفاءً بشّرٍ كثير وخلق عظيم قد بُؤتَ بأوزارهم مع وزرك واحتملت من آثامهم إلى إثمك فأحب أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن توليتم عن ذلك رغبة عنه أو تركتموه زهادة فيه فأشهدوا بأنا مسلمون واستمعوا ما أمير المؤمنين واصفٌ لكم ومحتجٌّ به إن شاء الله عليكم بقلوب شاهدة وآذان واعية ثم اتبعوا أحسن ما تسمعون ولا قوة إلا بالله فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه واقتصَّ على عباده: وبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

إن الله تبارك اسمه وتعالى جده وصف فيما أنزل من آياته وشرح من بيناته الأمم الماضية والقرون الخالية والملل المتفرقة الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى لا برهان لهم بها ولا حجة لهم فيها فقال يا أهل الكتاب: لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون: قالت العرب الذين يعبدون الملائكة وأهلُ الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة بايتما آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد فأنزل الله عز وجل في ذلك آية تشهد لها العقول وتؤمن بها القلوب وتعرفها الألباب فلا تستطيع لها ردّاً ولا تُطيق لها جحداً ذَكر فيها اتصال خلقه واتفاق صنعه ليوقن الجاهلون من العرب والضالون من أهل الكتاب أن إله السماء والأرض وما بينهما من الهواء والخلق واحد لا شريك له خالق لا شيء معه فقال: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس: فتفكر في تفسير هذه الآية من كلام الرب عزّ وجلّ وما أوضح فيها من بيان الخلق فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله فيها مما بين السماء والأرض إلا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض مثل ما رأى في تدبير نفسه وعرف من اتصال خلقه فيما بين ذوائب شؤون رأسه إلى أطراف أنامل قدمه وفي ذلك أوضح آية وأبين دلالة على أن الذي خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه ولا من شيء ابتدعه ولا على مثال صنعه.

قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم أن الله عز وجل خلق للأنام الأرض وجعلها موصولة بالخلق فليست إلا لهم ولا يديمها إلا معهم وجعل ذلك الخلق متصلاً بالنبت لا يقوم إلا به ولا يصلح إلا عليه وجعل ذلك النبت الذي جعله متاعاً ومعاشاً لأنعامكم متصلاً بالماء الذي ينزل من السماء بقدر معلوم لمعاش مقسوم فليس ينجم النبت إلا به ولا يحيا إلا عنه وجعل السحاب الذي يبسطه كيف يشاء متصلاً بالريح المسخرة في جو السماء تثيره من حيث لا تعلمون وتسوقه وأنتم تنظرون كما قال عز وجل: وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور: ووصل الرياح التي يصرفها في جو السماء بما يؤثر في خلق الهواء من الأزمنة التي لا تثبت الهواجر إلا بثباتها ولا يزول عنه برد إلا بزوالها كذا ولولا ذلك لظل راكداً بالحر المميت أو ماثلاً بالبرد القاتل ووصل الأزمنة التي جعلها متصرفة متلونة بمسير الشمس والقمر الدائبين لكم المختلفين بالليل والنهار عليكم وجعل مسيرهما الذي لا تعرفون عدد السنين إلا به ولا مواقع الحساب إلا من قِبَله متصلاً بدوران الفلك الذي فيه يسبحان وبه يأفلان ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء كذا فهذا خلق الله عز وجل ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت كما قال سبحانه وتعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولو كان لله شريك فيه أو معه ظهير عليه يمسك منه ما يرسل ويرسل منه ما يمسك أو يؤخر شيئاً من ذلك عن وقت زمانه ويعجله قبل مجيء ابَّانه - لتفاوت الخلق ولتباين الصنع ولفسدت السموات والأرض ولذهب كل إله بما خلق كما قال وكذب المبطلين: بل أتيناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون: والعجب كيف يصف مخلوق ربه أو يجعل معه إلهاً غيره وهو يرى فيما ذكر الله من هذه الأشياء صنعة ظاهرة وحكمة بالغة وتأليفاً متفقاً وتدبيراً متصلاً من السماء والأرض لا يقوم بعضه إلا ببعض متجل بين يديه ماثل نُصب عينيه يناديه إلى صانعه ويدله على خالقه ويشهد له على وحدانيته ويهديه إلى ربوبيته فتعالى الله عما يشركون أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون حقاً ما كرر هؤلاء الجاهلون بربهم الضالون عن أنفسهم في خلق الله النظر ولا رجعوا كما قال الله عز وجل الفكر ولو اعملوا فكرهم واجتهدوا نظرهم فيما تسمع آذانهم وترى أبصارهم من حوادث حالات الخلق وعجائب طبقات الصنع لوجدوا في أقرب ما يرون بأعينهم من التأليف لتركيب خلقهم والأثر في التدبير لصنعهم ما يدلهم على توحيد ربهم ويقف بهم على انفراده بخلقهم فإنهم يرونه في أنفسهم بأعينهم ويجدونه بقلوبهم مخلوقة أي أنفسهم صنعة بعد صنعة ومحولة طبقة عن طبقة ومنقولة حالاً إلى حال سلالة من طين ثم نطفة من ماء مهين ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً كساه الله عز وجل لحماً ونفخ فيه روحاً فإذا هو خلق آخر فتبارك الله أحسن الخالقين الذي خلق في قرار مكين من ماء قليل ضعيف ذليل خلقاً صوره بتخطيط وقدره بتركيب وألفه بأجزاء متفقة وأعضاء متصلة من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك من مفاصل ما يعلن وعجائب ما يبطن ليعلم الجاهلون ويوقن الجاحدون أن الذي جعل ذلك وخلقه ودبره وقدره وهيأ ظاهره وباطنه إله واحد لا شريك معه فلا يذهبن ذكر هذا صفحاً عنكم ولا تسقط حكمته جهلاً به عليكم وفكروا في آيات الرسل وبينات النذر فإن في ذلك فكراً للمبصرين وبصراً للمعتبرين وذكرى للعابدين والحمد لله رب العالمين. وأمير المؤمنين واصف لكم ومقتص من ذلك إن شاء الله عليكم ما فيه شهادات واضحات وعلامات بينات ومبتدئ بذكر آيات نبينا محمد صلى الله عليه فيما أنزل الله منها في الوحي إليه فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوءة قلبه ويخصم بينات الهدى عقله إلا قادته حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلاً فأردت أن تكونوا على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد صلى الله عليه وحقه وما أنزل إليه من ربه عز وجل فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعك.

إن الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه واختار له رسلاً من خلقه وابتعث كل رسول بلسان قومه ليبين لهم ما يتقون ويعلمهم ما يجهلون من توحيد الرب وشرائع الحق لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً فلم تزل رسل الله قائمة بأمره متوالية على حقه في مواضي الدهور وخوالي القرون وطبقات الزمان يصدق آخرهم بنبوّة أولهم ويصدق أولهم قول آخرهم ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف ومجامع ملتهم ملتئمة لا تفترق حتى تناهت الولاية والوراثة التي سيدنا عيسى عليه السلام عليها (كذا ولعلها فقام عليها) وبشر بها إلى النبي الأمي الذي انتخبه الله لوحيه واختاره لعلمه فلم يزل ينقله بالآباء الأخاير والأمهات الطواهر أمة فأمة وقرناً فقرناً حتى استخرجه الله في خير أوان وأفضل زمان من أثبت محاتد ارومات البرية أصلاً وأعلاً ذوائب نبعات العرب فرعاً وأطيب منابت أعياص قريش مغرساً وأرفع ذري مجد بني هاشم سمكاً محمد خيرها عند الله وخلقه نفساً على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والأيمان وامتلأت الآفاق من عبدة الأصنام والأوثان واشتعلت البدع في الين وأطبقت الظلم على الناس أجمعين وصار الحق رسماً عافياً وخلقاً بالياً ميتاً وسط أموات ما أن يحسون الهدى صوتاً يسمعونه ولا للدين أثراً يتبعونه فلم يزل قائماً بأمر الله الذي أنزل إليه يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل ويحذرهم عقوبات الشرك ويجادلهم بنور البرهان وآيات القرآن وعلامات الإسلام صابراً على الأذى محتملاً للمكروه قد أعلمه الله عز وجل أنه مظهر دينه ومعز تمكينه وعاصمه ومستخلفه في الأرض فليس يثنيه ريب ولا يلويه هيب ولا يعييه أذى حتى إذا قهرت البينات ألبابهم وبهرت الآيات أبصارهم وخصم نور الحق حجتهم فلم تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه ولم تجد العقول سبيلاً إلى دفع حقه وهم على ذلك مكذبون بأفواههم وجاحدون بأقوالهم كما قال الله عز وجل العليم بما يسرون الخبير بما يعلنون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون بغياً وعداوة وحسداً ولجاجة افترض الله عليهم قتالهم وأمره أن يجرد السيف لهم وهم في عصابة يسيرة وعدة قليلة مستضعفين مستذلين يخافون أن يتخطفهم العرب وتداعى عليهم الأمم تستلحمهم الحروب فآواهم في كنفه وأيدهم بنصره وأنذرهم بمقدمة من الرعب ومسعلة كذا من الحق وجنود الملائكة حتى هزم كثيراً من المشركين بقلتهم وغلب قوة الجنود بضعفهم انجازاً لوعده وتصديقاً لقوله: إن جندنا لهم الغالبون: فأحسن النظر وقلب الفكر في حالات النبي صلى الله عليه من الوحي قائماً لله لتجدن لمذاهب فكرك وتصاريف نظرك مضطرباً واسعاً ومعتمداً نافعاً وشعوباً جمة كلها خير يدعوك إلى نفسه وبيان ينكشف لك عن محضه - وأخبر أمير المؤمنين ما كنت قائلاً لو لم تكن البعثة للنبي صلى الله عليه بلغتك ولم تكن الأنباء بأموره تقررت قِبَلك ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك وقالت الجماعة المختلفة لك أنه نجم بين ظهراني مثل هذه الضلالات المستأصلة والجماعات المستأسدة التي ذكر أمير المؤمنين من قبائل العرب وجماهير الأمم وصناديد الملوك ناجم قد نَصَب لها وأغري بها يجهل أحلامها ويكفر أسلافها ويفرق الأفها ويلعن آباءها ويضلل أديانها وينادي بشهاب الحق بينها ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها حتى حميت العرب وأنفت العجم وغضبت الملوك وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه وحيداً فريداً لا يحفل بهم غضباً ولا يرهب عنتاً بقول الله عز وجل يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وأنا أعصمك من الناس: أكنت تقول فيما تجري الأقاويل به وتقع الآراء عليه إلا أنه أحد رجلين إما كاذب يجهل ما يفعل ويعمى عما يقول وقد دعا الحتف إلى نفسه وأذن الله لقومه في قتله فليست الأيام بمادة ولا الحال بمواتية إلا ريثما تستلحمه أسبابهم وينهض به حلماؤهم غضباً لربهم وأنفة لدينهم وحمية لأصنامهم وحسداً من عند أنفسهم وأما صادق بصير بموضع قدمه ومرمى نبله قد تكفل الله عز وجل بحفظه وصحبه بعزه وجعله في حرزه وعصمه من الخلق فليست الوحشية بواصلة مع صحبة الله إليه وليست الهيبة داخلة مع عصمة الله عليه ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه ثم أنكم يا أهل الكتاب لو قيل لكم أن الرجل الذي يدعي العصمة وينتحل المنعة نجمت الأمور به على ما قال وسلمت الحال له فيما ادعى حتى نصب لغمارات العرب وجماعات الأمم يقاتل بمن طاوعه من خالفه وبمن تابعه من عانده جاداً مشمراً محتسباً واثقاً بموعود الله ونصره لا تأخذه لومة لائم في ربه ولا يوجد لديه غميزة في دينه ولا يلفه خذلان خاذل عن حقه حتى أعز الله دينه وأظهر تمكينه وانتقادات الأهواء له واجتمعت الفرق عليه ألم يكن ذلك يزيد حقه يقيناً عندكم ودعوته ثبوتاً فيكم حتى تقول الجماعة من حلمائكم وأهل الحنكة من ذوي آرائكم ما كان الرجل إذا كان وحيداً فريداً قليلا ضعيفاً ذليلاً معروفاً بالعقل منسوباً إلى الفضن ليجترئ أن يقول أن الله عز وجل أوحي إليه فيما أنزل من الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعاً ويمنعه من الأمم صرا حتى يبلغ رسالات ربه ويظهره على الدين كله ويدخل الناس أفواجاً في دينه إلا وهو على ثقة من أمره ويقين من حاله: فسبحان الله يا أهل الكتاب ما أبين حق النبي صلى الله عليه لمن طلبه وأسهله لمن قصد له فاستعملوا في طلبه ألبابكم وارفعوا أبصاركم تنظروا بعون الله إليه وتقفوا إن شاء الله عليه فإن علامات نبوته وآيات رسالته ظاهرة لا تخفى على من طلبها جمة لا يحصى عددها منها خواص تعرفها العرب وعوام لا تدفعها الأمم فأما الخواص المعروفة لدينا المعلومة عندنا التي أخذتها الأبناء من الآباء وقبلها الأتباع عن الأسلاف فأمور قد كثرت البينات فيها وتداولت الشهادات عليها وثبتت الحجج بها وتراخت الأيام ببعضها حتى رأيناه عياناً وقبلناه إيقاناً فهي أظهر فينا من الشمس وأبين لدينا من النهار ولكن غيبت الأزمان عنكم أمرها ولم ينقل الآباء إليكم علمها وما لا يدرك إلا بالسمع موضوع الحجة عن العقل فليس أمير المؤمنين بمحاج لكم ولا قاصد إليكم من قبلها - وأما الآيات العوام والدلالات الظاهرة في آفاق الأرضين القاطعة لحجج المبطلين التي لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها ولا تدفع الباب الأعداء صحة فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم ويعتد بها كذا حجة الله في أعناقكم من وجوه جمة وأبواب كثيرة إن شاء الله.