انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/الإسلام


أنصار الإسلام من كتاب الفرنجة وفلاسفتهم كثيرون، وآخرون منهم تعمقوا في بحث شرائعه وروحه ومبادئه فجاؤوا بما لم يسبقهم إليه أحد، ولكنا ما علمنا فيلسوفاً وفى البحث في الإسلام حقه، وتناول الشريعة المحمدية من جميع وجوهها، وصدع برأي بديع، وجاء بتحليل فلسفي طريف في هذا الدين المتين، مثل الدكتور لتنر الأستاذ المشهور في جامعات إنجلترة، وإنا لننشر اليوم مقاله عن الإسلام، ونحن سعداء أن ظفرنا برجل من الفرنجة مثله ينتصر للإسلام هذا الانتصار الرائع المدهش: قال:

بدأت خبرتي بالإسلام في معهد ديني بالقسطنطينية عام 1854 إذ قرأت القرآن واستظهرت جزءاً عظيماً منه ثم عاشرت طوائف مختلفة من المسلمين. واختلطت بفرق عديدة منهم، وصنوف كثيرة، في تركية والهند وغيرها من بلاد الله، ودرست العربية، وهي لغة كتابهم، ولسان دينهم، ومن ذلك أدركت أن الإنسان لا يستطيع بدون اللغة العربية أن يجتذب قلوب المسلمين، أو يكون له على أذهانهم سلطان، وإن كان هناك شيء آخر لا غناء عنه، وهو العاطفة فإن العاطفة هي مفتاح العلم، والسبيل إلى قلوب الناس، وهي التي ترسل أنفاس الحياة فيما لولاها لكان جثة هامدة وعظاماً بالية ورفاتاً سحيقاً.

وقد كان من وراء فقدان العاطفة أن أساء كثيرون من أساتذة العلم وأقطاب البحث والنظر الحكم على الإسلام، ومنهم السير ويليام موير فقد أدى به فقدان العاطفة إلى الوقوع في أغلاط خطيرة ضد هذا الدين.

إذن فلنتوقع أن يعين هذا البحث الذي نحن بسبيله على تأسيس تلك العاطفة وشد عراها، وتقوية الأخوية العامة التي يجب أن تسود بين الأديان جميعاً.

وفي هذا يقول هربرت سبنسر: على قدر حبنا الحقيقة وتغليبه على حبنا الانتصار، لكون ولوعنا بمعرفة ما يؤدي بخصومنا إلى أن يروا غير ما نرى ويفكروا غير ما نفكر!.

بل أعمق من هذا المبدأ تلك اليمين التي اعتادت قبائل البوذيين في بلاد التبت أن يقسموا بها وهي أن لا يروا ولا يفكروا ولا يقولوا مطلقاً أن دينهم خير الأديان جميعاً، وأيضاً توصي شرائع الملك أسوكا المنحوتة في الصخر بأن يمدح قومه أديان غيرهم من الناس.

والآن نقول أن دين محمد لم يكن دين ذلك النبي وحده لأنه إنما كان يدعو الناس إلى دين عيسى وموسى، وليست المسيحية والموسوية إلا مرحلتين من مراحل الإسلام وكان في الإسلام الذي جاء به محمد الكمال لهما وحسن الختام. وآية التمام. فإن الإسلام إلى إرادة الله والاعتقاد بأنه يطلع على جميع أمرنا. كل ذلك ندين به ونؤمن بحقه جميعاً، ولكن هذه العقيدة في الإسلام ليست نظرية فقط كما هي الحال لدينا، بل عقيدة عملية منفذة وأساس بناء ذلك الدين.

فالإسلام من ناحية يحكي المسيحية ويشبه الموسوي، وهو من الناحية الأخرى يختلف عنهما ويبين، فإن دعوة الناس إلى التسليم لإرادة الله والاعتقاد بأنه مطلع إلينا في جميع أمورنا. هي نفس الدعوة التي كان ينادي بها عيسى وموسى، ومن هذه الناحية كان هذان النبيان يدينان بدين محمد.

ومن الناحية الأخرى لم يكن دين محمد اقتداء وتقليد فقط كما هي الحال في المسيحية والموسوية. بل كان كذلك وحياً يوحى. إذا صح أن في الدنيا شيئاً يسمى الوحي، ولكني أجترئ وأقول أنه إذا كانت تضحية الذات والأمانة في الغرض والاعتقاد الثابت الذي لا يزحزحه أي أمر من أمور الدنيا والإيمان بأنه على الحق، ونفاذ البصيرة إلى صميم الباطل والعمل على إزهاقه، كل أولئك من بني الظواهر المحسوسة للوحي. فإن رسالة محمد كانت وحياً.

على أن دين موسى الذي كان يعرفه محمد هو الدين الخالص بما دخل عليه من الأوهام، والتأويلات والشروح والتعاليق، وكانت المسيحية التي يريد محمد أن يردها إلى نقائها الأول وطهرها هي تعاليم عيسى الخالصة من غموض القديس بولص وتعاليمه وتعاليم غيره من الطوائف المتعددة.

وكان محمد يعتقد أن اليهود سيرتضون دعوته ويقبلون عليه. ولكن عصبية اليهود تأبت عليهم أن يتقبلوه بقبول حسن. فلم يكن هذا بمزحزحه عن مبدئه. وهو أن يدعوا المؤمنين كافة إلى الاشتراك في تلك الأنعم التي تركها جدهم الأكبر إبراهيم. ولهذا كان الإسلام هو بعينه دين موسى خالصاً من شوائبه مجرداً من مناقصه، والمسيحية خالية من تعاليم بولس.

وكانت هذه الفكرة التي اعتزمها محمد، وهي أن لا يقصر محاسن دين إبراهيم على أمته وحدها، بل يذيعها في الخافقين، وينشرها في مشارق الأرض ومغاربها، هي الوسيلة التي أعانت على أن يدخل في هذا الدين السامي، ويدين بهذه المدنية العالية ملايين من الناس، ولولا ذلك لظلوا في حمأة الهمجية مرتطمين ولم يسموا إلى هذه الأخوة الرفيعة التي ينادي بها الإسلام ويعمل عليها وينفذها إنفاذاً.

وقد أساء المسيحيون الحكم في أمر مؤسس هذا الدين وتكلموا عنه بما هو غير لائق، وقدحوا في حقه، فقالوا عنه مارق، وزنديق، وذكره دانتي في جحيمه فعده كافراً، وآخرون قرفوه بأن دينه مأخوذ من التلمود ولكن يلوح لي أنه لا يوجد ثمت تعريف أوجز أو خير من ذلك التعريف الذي تقدم، وهو أن الإسلام هو الدين الموسوي الحر الخالص من الشوائب والمسيحية المطهرة من تعاليم بولص. وهذا من الناحية النظرية. أما من وجهته العملية فهو ولا ريب أسمى من المسيحية بجميع الحضارة الغربية في هذا العصر.

إن كل مسلم معبد قائم بذاته، ولكل مسلم الحق أن يدلي برأيه في أمور الدين بما يتفق والعقيدة العامة لأهل دينه، ولم يكن المسلمون يوماً عبيداً للقساوسة أو غيرهم من رجالات الدين، وهم يعبدون الله بلا وسيط، ويرفعون إليه الدعوات بلا سمسار، ومكان صلواتهم وعباداتهم أي درب من دروب الأرض وأي فج من فجاج الدنيا يثقفون به إذا آذنت مواقيت الصلاة.

ولعلمائهم كذلك والزعماء الدينيين فيهم أن يشتغلوا بصناعاتهم ويحترفوا الحرف ويسعوا لاكتساب أرزاقهم من وجوه العمل، ولا يوجد شيء بينهم يسمى (بابا) بل يستطيع أي رجل عادي من عرض القوم أن يقول على رؤوس الأشهاد (بإسلامي نفسي إلى إرادة الله أنا ممثل هذا الدين الذي كان محمد نبيه) ولذلك ترى السواد الأعظم من المسلمين في بقاع الدنيا كلها لا هادي لهم ولا مرشد إلا الإيمان العميق في حبات أفئدتهم، وهم السنيون أهل الجماعة، وذلك تمييزاً لهم عن الطائفة الخطيرة الأخرى وهم الشيعة الذي يعتقدون أن محمد وىل بيته وذريته معصومون على أن محمداً نفسه لم يدع العصمة، بل تنزل عليه الوحي يوماً مؤنباً لائماً عاتباً، إذ تولى عن رجل أعمى وكان في مجلس جماعة من سروات القوم، فنشر هذا العتاب بين الملأ وأعلن الوحي، ولو كان محمد أخا خداع كما يسميه الجهلاء من أهل المسيحية لما فعل ذلك ولما أعلن النبأ.

أما من ناحية مظاهر المسلم والفرائض التي يؤديها من صلاة وزكاة وصيام وحج فإن في كتب الدين منها الشيء الكثير وفي الكتاب مبادئها وأصولها، فأما الصلاة فشعارها (النظافة من الإيمان) لأن الوضوء في الإسلام يستبق الصلوات ولكل رسوم وشعائر وواجبات، على أن ليس في قساوسة المسيحية من يستطيع أن يقول ما يقوله عالم من علماء الإسلام للمسلم أن هذه الشعائر تستطيع أن تتعلمها من أي مسلم تلتقي به في الطريق.

أما زكاتهم فتقضي بأن يهب المسلم جزءاً من أربعين من ماله للفقير والمسكين وذوي الحاجات وهذه الأموال التي تجتمع من الزكاة توضع في بيت المال، ومن بين الوجوه التي تصرف فيها فك رقاب الموالي والعبيد، والرق من الأمور التي اتهم بها المسيحيون عن جهالة دين الإسلام وإن كان محمد استطاع بدأبه وجهده أن يخفف من شدة نظام الرق بأن وضع قانوناً يبعث على إبطال الرق على مدى الزمن واستن سنة تؤدي إلى إلغاء امتلاك رقاب العبيد ولكي تكون الزكاة مقبولة عند الله ينبغي للواهب أن يثبت أن الزكاة التي رضخ بها من حر ماله، وله أن يزيد الزكاة عن القدر المحدود، على أنه غير مكلف بزيادة، أو مكره على دفع دون طاقته، ولكن من يعطي عن طواعية أكثر من الجزء المعين من الزكاة، فله عند الله أجر عظيم.

أما الحج إلى مكة فمن أشد فروض الإسلام أهمية وخطورة لأن المسلمين يقبلون من جميع بلاد الله فيلتقون في صعيد واحد، فالحج هو رابطة الاتحاد، ومجتمع الوئام، والحج هو الذي ينشئ من المسلمين معبداً محمدياً زاخراً عظيماً، مما لا تبلغ مثله المسيحية بجميع فرقها ومنازعها وطوائفها. ثم لا يزال الحج وسيلة من وسائل نشر الآداب بفضل اللغة المشتركة العامة، وهي العربية، كما كان من اللاتينية في الغرب إذ كانت اللغة الفذة التي يتعلمها العلماء علاوة على لغاتهم، ومعرفة اللغة العربية هي مفتاح مغاليق الدين الإسلامي، بل السبيل إلى قلب الإنسانية المسلمة جميعاً.

وأما الصوم فليس إلا نظاماً من الأنظمة، ولكن لا يزال له بعد من ناحية قوانين الصحة فضل ونفع أي فضل وأي نفع، وإن أداء فريضة الصوم والوضوء والطهر لا يعد فقد من الحكمة والسداد، وإنما في تأديتها كذلك إنفاذ قوانين الصحة التي ينادي بها الأطباء، وإني في الحقيقة أرى أن هذه القواعد والسنن التي استنها الإسلام من ناحية تحريم الخمر ولحم الخنزير وما لم يذبح من الحيوان على السنة، وما إلى ذلك لم توضع ولم تشترع لإحراج الذين استنت لهم وإرهاقهم، وإنما جعلت صلاحاً لهم ونفعاً وفائدة لجسومهم وعقولهم.

أما من الوجوه الاجتماعية ومراتب الناس في الإسلام فإن الغني يعد حامي ذمار الفقير، وحارسه ونصيره، وللفقير أن يجلس إلى موائد الغني، ويشاركه الطعام في مباهج الخوان، ولا تجدن في الجماعة الإسلامية أي فرق أو أي بون بين الفقير والغني يبعث على الكراهية، ويستنفر الحب والولاء، بل ترى العبد الرق في الدار يعد عضواً من أعضائها، والمولى فرداً من هل العشيرة، بل أن للموالي الفرص السانحة للظفر بمراكز في الحكومة أو نيل مكان طيب في الجماعة، قلما يصيب مثله الصعلوك في مدنيات الغرب، والطعام مكفول لمن يحتاج إليه، يوهب لمن يعوزه، بل أن إعطاء الصدقات في الدين الإسلامي، كما هو في دين بوذا يجعل المتصدق الواهب مديناً للفقير الذي أصاب منه تلك الصدقات، لأن التصدق يعين صاحبه على تنمية روح الخير في فؤاده، ويبعث في نفسه ملكة العطف والرفق، فإنك تجد البراهمة يشكرون الفقير الذي يطرق أبواب بيوتهم سائلاً الحسنة، مستجدياً معتراً طالباً القرى والضيافة، لأنه مهد لهم بذلك الفرصة لتأدية الخير وإيتاء الزكاة، والرضوخ بالصدقات. وترى الخدم في الإسلام إن أكلوا بعد مواليهم وجلسوا إلى الطعام بعد أن يرفع خوان سادتهم، لا يزالون يصيبون في المآكل قدر ما يصيب أولئك ويشاركونهم في ألوان الأطعمة وصحاف المائدة، وتجد في المسجد والمصلى المساواة بين العابدين تامة، فلا مقاعد من ناحية تخص السروات، ولا أماكن خاصة مهيأة للأغنياء وأهل المراتب السنية في الحياة، بل الجميع في المسجد سواء يأتمون بالإمام في صلواتهم أو يقفون خلف أي مسلم منهم يندبونه للإمامة، وليس أروع ولا أجل منظراً من رؤية جمع من المسلمين وهم في صلاتهم خاشعون وقوف في صمت وسكون ورفق ونظام، وأنت ترى الشعب الإنكليزي يكره الرسوم والمظاهر الخارجية، والرياء والتصنع في الشرائع والسنن ولكن الإنكليز كثيراً ما يكونون عبدة لألفاظ القوانين، تاركين روحها ومعناها التي يراد منها، وقد يصح أن نقول أن حب الإنكليز للتدقيق والاختصار لا يزال مصدر شر كثير، واصل بلاء عظيم، فإذا كانت الصدقة في معناها الأكبر رأس الفضائل فإن تلك الرسوم التي تحوط أمر جمعها وتوزيعها في هذه الأمة البريطانية تذهب بجمالها وتفقدها الوجه الجليل الرائع منها، ونحن قلما ندرك أن القوانين إنما وضعت لإرشاد الناس جميعاً، وأن نصوص تلك القوانين وألفاظها وظواهرها الخارجية لا ينبغي أن تكون لها سلطان علينا، بل يجب أن لا يذعن إلا إلى روح تلك القوانين ولبها وصميمها. ومن ذلك كانت صدقتنا وعقائدنا وسنننا وشرائعنا الصلبة السريعة الخشنة تباين تلك الشرائع الشخصية الفردية المحسوسة والسنن العملية الكمالية الحليلة التي تمتاز بها العقائد الشرقية، ولو كانت الجماعات في الغرب قد أسست على قواعد الإسلام لما احتاج الأمور في أوروبا إلى وجود عدميين وفوضويين واشتراكيين، لأن الفرد في الإسلام لا يلقن السخط، كما ترى في الغرب إذ تجد غرض حضارتنا وقصدها ونتيجتها وغايتها الكبرى أن تثير السخط في روح الأفراد.

وهنا أنتقل إلى موضوع الزواج في الإسلام فأقول أن عقد الزيجة لا بد فيه من شهادة شاهدين اثنين، وهو قانون ديني ولكن لا تقييد فيه ولا عل ولا إسار كما هي الحال في المسيحية ودين الهنود، بل للزوج أن ينعم بعشرة زوجه ولكنه لا يستطيع أن يكرهها على مرافقته إلى مملكة أخرى غير موطنها، وإن أرادها على ذلك وتأبت، فعليه أن يكفل لها نفقتها وهو عنها بعيد، فإذا وقع بين الزوجين خصام ويبست الثرى بين الرجل وبعله، فإنه يجمل إذ ذاك توسط المصلحين، واختيار حكم من أهله وحكم من أهلا، لعلهم مستطيعون توفيقاً فإذا لم يستطع الزوجان أن يعيشا لبعضهما مع البعض في وئام فلا سبيل إلا الطلاق، ومن هذا ترون أن التشريع الإسلامي في الزواج لا يستحق ذلك النقد الفاضح الذي اعتاد كتاب المسيحية أن يحشدوه على الإسلام، وهذا الاعتقاد الساري في الغرب وهو أنه يوجد بين المسلمين زواج لا حد له ولا قيد وطلاق مثله لا مدى له ولا حائل دونه ولا مانع يقف في سبيله، لا يزال اعتقاداً مخطئاً لا أساس له من الصواب، فإن الطلاق ليس من السهولة في الإسلام بحيث يتوهم المسيحيون، لأنه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تحكيم الوسطاء ورسل السلام والسعاة بالصلح والتوفيق، ثم لا تنس أن هناك صداقاً مؤجلاً لا بد من أن يدفع إلى الزوجة عند الطلاق وكثيرات من النساء يحددن مقداراً باهظاً من المال لمؤخر صداقهن ولا سبيل للزوج إلى دفعه إذا أراد طلاقاً، وهذا لكي يأمن النساء مضرة الطلاق وخطره وبلاءه.

ولا ريب ولا نكران في أن نظر المسيحي أو الهندي إلى الزواج أكثر روحانية من نظر المسلم إليه، على أنما نراه من الممالك المسيحية عامة من معاملة الزواج يدلنا على أن المسيحيين أقل مراعاة لقداسة الرابطة الزوجية وعناية واحتراماً لروحانية الزواج من المسلمين.

فالزواج عند الهنود لا يمكن أن تحل رابطته وتنفصم عراه، لأنهم ينظرون إليه نظراً روحانياً، على حين تجحده بين الكاثوليك الرومان لا يحل إلا بشق النفسي، وبالمشقة الكبرى، على أنه يحزنني أن أقول وأعترف بأنني قد عشت بين ظهراني المسلمين واختلطت سنين طوالاً بهم فلم أشهد على فرط ما يتهمهم به المسيحيون من سهولة الطلاق عندهم وفسحة حدوده، واتساع مداه من حوادث الطلاق عند المسلمين ما يعد أكثر منها بين المسيحيين ثم إنني لا أتردد في القول بأن المسلمين من ناحية صلة أرحامهم والعطف على عشائرهم واحترام علمائهم وشيوخهم وتوقير الكهول والمتقدمين في السن، والغرباء والحيوان الأعجم والبهيمة والنعم الخرساء أسمى بكثير من المسيحيين وهم مثال حسن لهم وقدوة كبرى خليقة بالاحتذاء.

ثم لا أدع هذه الحلقة من البحث دون أن أقول بضع كلمات عن ذلك الموضوع الذي كثر ما أساء فيه أهل الأديان الأخرى، وأعني به موضوع تعدد الزوجات في الإسلام، فأقول أنه بصرف النظر عن أن تعدد الزوجات يكفل العيش للألوف من النسوة اللواتي يزيد عددهن عن الحاجة، في الممالك المكثرة من عدد الإناث فيها، وأنه وقاء من الإثم، وعاصم من الفساد، وحمى من الخنا، وما ينجم عنه من مضاره اللاحقة به، وأذاه الفارع عنه، وحائل دون النغولة وفساد انسابن وصحة المواريث لا نستطيع أن ننكر أن السواد الأعظم من المسلمين قانعون بزوجة واحدة وهذا بفضل مبادئ الإسلام.

وقد نشأ محمد بين قوم كانوا يعدون الرجل الذي يرزقه الله بالإناث امرئ منكود الحط منكوباً، ويرون في البنات سوءات وهوناً لهم، وكانوا يئدون البنات في طفولتهن ويدسونهن في التراب فراراً من انتسابهن لهم واحتفاظاً بشرفهم وأعراضهم، ولم يكن ثمت حد لعدد النسوة التي يستطيع الرجل أن يتزوج بهن، وكن جميعاً متاعاً من أمتعته يقتسمه ورثته بعد موته، فلم يكن من محمد إزاء هذه الزيجات المتعددة التي لا حد لها ولا نظام ولا نهاية إلا أن كبح جماحها، وحال دونها، ووضع الحد المقرر لها، فاستن للناس سنة تبيح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع إذا استطاع أن يعدل بينهن ويقسم حبه وعاطفته عليهن بالسواء، فإذا خشي اعتسافاً، وخاف أن لا يعدل، فواحدة وحسب، ولما كان بطبيعة الحال من المستحيل على الإنسان أن يعدل في حبه امرأتين أو ثلاثاً، ويهب كلاً قسطاً عدلاً من جانحته فإن المرء ليأخذ من روح التشريع الإسلامي في الزواج أن محمداً كان في صف فردية الزواج والاكتفاء بزوجة واحدة.

ثم هو كذلك رفع المرأة من حالها الأولى وهي أن تكون متاعاً الرجل وملكاً من ملاكه، فجعلها صاحبة ملك وجعلها شريكاًَ للرجل، ومشاطراًن وعدها الشريك الأول الذي يجب أن تراعى مصلحته ويحتفظ بحقوقه، إذا أراد الزوج أن يأخذ في وجه من وجوه عمله، أو ابتغى شأناً من شؤون حياته.

وقد رمى المسيحيون محمداً بتهمة أنه من ناحية نفسه قد برر تعدد الزواج، ونصب نفسه مثالاً للإكثار من الابتناء بالنساء، فلنفحص هذه التهمة ولنقلب فيها وجوه الرأي، ومن حسن حظنا أننا لسنا إزاء رجل خيالي ولا لقاء شخصية م الشخصيات الخرافية في التاريخ، ولا إنسان مصطنع اخترعته القصص، وابتكرته الروايات، ولكنا أمام رجل من رجالات التاريخ، قد دونت كل كلمة من كلمه، وسجل كل فعل من أفعاله، في أحاديثه، وهي بعد القرآن الشرعة التي ينبغي للمسلمين الأخذ بها، والأدب الذي يجب عليهم التأدب به، وهذه الأحاديث لا يمكن أن تصدق وتصيب الإجماع على صحتها إلا إذا رواها أحد صحابة النبي، واستطاع المسلمون الاستدلال عليها من سجل حياة أنصار محمد وخلطائه، فإذا لم يصب حديث من تلك الأحاديث هذا التحقيق، ولم يحط بهذه الأسانيد، سقط من الاعتبار، ولم يعتد به، ولم يذكر بني الأحاديث، وهذا فضل لم تظفر به المسيحية، إذ ليست لدينا أسانيد صحيحة مثبوتة عن أحاديث المسيح وأفعاله وكلماته وأعماله، والآن لنتساءل على أي داعمة وبأي حجج يقرف الناس محمداً بأنه كان مزواجاً كثير الابتناء بالنساء، وأنا أجيب على هذا بلا أدنى تردد بأننا لو توخينا البحث وتقصينا تاريخ النبي. وأخذنا كل قصة من القصص التي يستند إليها المتهمون المتجنون على ذلك النبي بالتحري والفحص والتشريح والتحليل، لما لبثنا أن ألفينا التهمة قائمة على أساس، ولم نر لها جداراً تستقيم عليه، ولا بناء تنهض فوقه. بل لوجدنا محمداً على نقيض هذه التهمة يستحق الإعجاب ويعد قميناً بالإكبار، إذ احتفظ على فرط ما كان أمامه من غوايات، وما قامت إزاءه من إغراءات، بالعفاف الشديد والاستقامة التامة في وسط مجتمع لم يكن يعرف هذه الفضيلة.

فقد عاش محمد في الجاهلية الأولى فظل عفيفاً على أكمل العفاف حتى ناهز الربيع الخامس والعشرين وغذ ذاك تزوج بامرأة في الربعين (وهي تعدل امرأة في الخمسين من نساء الغرب) وما كان زواجه بها إلا لأنها كنت المحسنة غليه وكانت توليه عطفها وعنايتها، وكانت تعتقد ببعثته وتدين برسالته، كما أعلن بعد ذلك بسنين عدة بعد وفاتها لزوج من أزواجه فتية حسناء فاتنة كانت غيرى من خديجة العجوز وقد سألته كيف تؤثر تلك عليها وهي تقول ألست مثلها طيبة وخيراً إذ أجابها بأنها لست مثلها. لأنها صدقت به يوم كان الناس جميعاً مكذبين، وكانت أم المؤمنين وكانت تكبره وتحميه وترعاه، يوم كان عائلاً مطرحاً لا يرى له نصيراً، وظل على محض الوفاء لها عشرين عاماً كاملة، ونحن لا ننكر أنه عندما أشرف على الخمسين، راح يتزوج بالمرأة أثر المرأة، ويبتني بالنساء مترادفات متلاحقات، ولكن أليس من العدل أن نذهب إلى أن رجلاً قد أظهر ضبط النفس بأكمل معانيه حتى الخمسين وتعفف العفاف كله إلى تلك السن لا بد من أن تكون ثمت أسباب غير تلك التي اختلقها كتاب المسيحية، ولرب سائل يسأل وما تلكم السباب، وأنا أعتقد أن السبب الحقيقي لكثرة زيجاته في شيخوخته هو التفضل والإحسان وذلك لكي يرعى ويظل بعطفه أرامل أنصاره الذين أصابهم العذاب، من جراء إيمانهم وتقطعت بهم الأسباب بفضل توفرهم على كلمة الإسلام.

وقد أصاب أتباع محمد وأنصاره والمؤمنين الحرب والويل من ناحية إيمانهم حتى كان تعذيب الكفار لهم وأعداء الدين أن منعوهم وحرموهم خبأ الأرض يقتاتون به واضطر كثيرون منهم إلى الفرار إلى الحبشة فازعين إلى ملكها المسيحي فتأبت شهامة النجاشي أن يسلمهم إلى أعدائهم، بل أظلهم بحمايته في أرضه، وقضى نحبه فريق منهم في الحبشة، وبقيت أراملهم في بلاد العرب، فأخذهن محمد إليه وابتنى بهن، وأدخلهن في عشيرته، ولولا ذلك لتضورن جوعاً، وهلكن مسغبة وتشريداً وأما الذهاب إلى أن محمداً كانت له في ذلك مآرب أخرى ونيات شهوانية فلا أساس له ولا حجة قائمة ولا سيما ذا علمنا أنه أظهر في عهد شبيبته الحادة، وعنفوان شبابه وغلواء فتوته الأدلة العظيمة القاطعة على عفاف جيبه، ونقاء نزعته، وزجر شهوته، وقد أساء كثيرون كذلك فهم قصة زواجه بزينب التي طلقها من مولاه زيد الذي تبناه ونحن نقول أن العرب في الجاهلة الأولى كانوا يأنفون من أن يتزوج الرجل بامرأة مطلقة كانت قبله تحت متبناه، وإن لم يكونوا يأنفون من التزوج بزوجات أبيهم بعد وفاته، فأراد محمد أن يذهب بفساد هذه السنن، ويطمس على آثار هذه الشرعة الطائشة الحمقى، فعلم الناي أن الابن بالمتبنى ليس ابناً حقيقياً ولذلك كان التزوج بالمرأة التي طلقت منه غير محرم، ولا ممنوع، وتأييداً لهذه الحقيقة، لا تبريراً لعقد زواج جديد، نزل الوحي على محمدـ، فأوله أعداء محمد ودينه بأنه لم يكن إلا شفيعاً ومبرراً لإثم اقتحبه، وعمل جائر ارتكبه، وأنه ليلوح لي أنه لو هذب الناس عاطفة الحنان في أفئدتهم، واشربوا قلوبهم جانحة الكرم والترفق والتسامح لنظروا إلى الأديان التي تخالف دينهم بغير ما ينظرون به إليها الآن، ولاجتهدوا أن يتقصوا البحث عنها من مصادرها الخاصة بها، غير آخذين بقول أعداءها، أو جانحين إلى الاستماع إلى ما قال الخصوم عنها.

والعزوبة نادرة الوجود بين المسلمين وقلما تجد نساء صالحات للزواج يعشن في ظلال العزوبة، بلا أزواج، والزنا يصيب العقوبة الصارمة، إذا ارتكبه رجل، أو ثبت على امرأة، ويجلد الزاني على رؤوس الملأ مائة جلدة جزاء له وعقاباً على إثمه، أما من ناحية الجواري فلم يرض الإسلام أن يصم نسلهن وأولادهن بميسم العار ويطبع على جباههم مخية الإثم، فجعل ابن الجارية الرقيق يرث مع أبناء سيدها ومولاها على حين لا يجد الطفل غير الشرعي في مجتمعاتنا المتحضرة إلا قليلاً من الرعاية ونزراً من الحماية والعطف بل إن نظرنا إلى الزواج من ناحيته الروحانية السماوية لا يكاد يداني نظر الهنود إليه، إذ تضرع الزوجة لخلاص روح زوجها، لأنه لا ينال الخلاص إلا بدعواتها وصلواتها.

وليس للمسلمين حوانيت خمر، ولا أندية ميسر ولا مضارب زنا، ولا مواخير وليس لديهم زناء مشروع ولا بيوت أعدتها الأنظمة الحكومية للفحشاء العمومية، وأما عن محادثاتهم وأسمارهم ولغة كلامهم، فهي أرق حاشية وأكثر تهذيباً من أحاديث عامة الغربيين، وقد رأيت شباباً من المسلمين في المدرسة والجامعة والمعهد أرق حديثاً وأفضل مسلكاً وألين خلقاً وأصفى آداباً من شباب الإنكليز المتعلمين، بل لعل أحاديث هؤلاء قد تكون معاقباً عليها في أحكام الإسلام وشرائعه.

ومن وجهة التهمة المنكرة الملقاة على الإسلام وهي أن قد جمد على سننه ولا يريد تقدماً، ولا يماشي الحياة ولا يجاري أجيال الزمن وأحقاب الدهر فإنني أقول أن الحرية التامة في تأويل القرآن وأحكامه والتبسط في شرحها وإطلاق قيودها تجعل الإسلام صالحاً لكل ناس، ملائماً لمل مملكة، متفقاً وطبائع كل أمة، ونحن نضرب لك مثلاً فنقول أن القانون المقرر للتأويل والتفسير وهو أن كل جملة شرطية لا بد من أن تحكم بشرطها، يبعث على اطمئنان الضمير، فإذا جاء في القرآن قاتلوا المشركين فإنها جملة مطلقة ولكن إذا قيدت بهذا الشرط وهو إذا قاتلوكم كانت أكبر حجة على فساد ذلك الزعم الشنيع، وهو أن الإسلام قام بالسيف وأسس على الجهاد والحرب الدينية، بل لا تجد القتال مشروعاً في الإسلام إلا دفاعاً عن النفس إزاء الدين يقاتلون المسلمون ويطردونهم من أرضهم لأنهم يعبدون رباً لا شريك له والتسامح الديني مستمسك به وذائع منفذ بين المسلمين، ولا تجد شيئاً منه في الممالك والشعوب المسيحية. وقد أدخل محمد اليهود والنصارى في صفوف المسلمين لأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإنك لترى في سورة الحج في القرآن أن غرض القتال، ومقصد الحرب هو لحماية المساجد والمعابد والكنائس لأن اسم الله يذكر في كل منها على السواء. أفليس هذا أرقى ضروب التسامح والحد الأكبر من الرفق، ونحن لم نبلغ شيئاً منه إلا بعد قرون عديدة وأجيال. وقد عرفت كثيرين من المسلمين يكتتبون ويخرجون عن أموالهم تعضيداً للكنائس فنبوئني كم من المسيحيين اكتتبوا للمساجد - ومع ذلك لا يزال اسم الله يذكر في المسجد والكنيسة معاً!!.

وإذا ذكرني المسيحيون باضطهاد المسلمين لجموع منهم فأقول أن تلك الاضطهادات لا تذكر بجانب المذابح التي قتل فيها المسيحيون الجموع العظيمة من بني الإسلام وقد أقسم عمر بن الخطاب يوماً إلا أن يثأر لدينه من تلك المذبحة التي أقامها المسيحيون في بيت المقدس، بأن يذبح أهلها والمحاربين المدافعين عنها يوم أراد فتحها، على أنه إذ اقتحم أسوارها ودخلها عزيزاً منتصراً أبى ألا أن يحنث بيمينه وقال: لأهون علي الحنث بيميني من أن أقتل مخلوقاً واحداً من مخلوقات الله!.

ولا اجد ما أختم به بحثي هذا خيراً من هذه الحقيقة التي أصر على قولها وتردادها، وهو أن الإسلام والمسيحية والموسوية أقارب وأخوان من مصدر واحد وأصل واحد، وأتمنى على الله أن يقبل ذلك اليوم الذي أرى فيه المسيحيين يوقرون ويعظمون المسيح أكثر من توقيرهم إياه وتعظيمهم له اليوم، وذلك بتوقيرهم محمداً كذلك وتعظيمه لأنه هناك وجوه شبه، ونواحي مشتركة، وعواطف متفقة بين الإسلام والنصرانية، والمسيحي المسيحي من دان بتلك الحقائق التي دعا إليها محمد النبي العربي.