مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/تاريخ الأدب التركي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/تاريخ الأدب التركي

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1918


كثير من قراء العربية لا يعرفون شيئاً من أدب اللغة التركية وتاريخه وتطوره ومناحي أدباء الترك في منظومهم ومنثورهم - لذلك رأينا أن ننشر في البيان كلمة ممتعة تبصرنا بعض الشيء بآداب هذه اللغة، نقلها من الانكليزية حضرة الأستاذ الفاضل حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي - قال:

أدب العثمانيين مثل حضارتهم مستمد من الفرس بواسطة السلاجقة ومن الطبيعي أن تجد مشابهة عظيمة بين كتاباتهم وكتابات أساتذتهم الفرس ولا يدهشنا أن نرى في آداب الشعبين الفارسي والتركي روحاً واحدة واستعارات وتشابيه متوافقة وأوزاناً وبحوراً للشعر متشاكلة، وترى الشعر التركي أرقى في مجموعه من النثر التركي كما أن الشعر الفارسي أرقى من النثر الفارسي وأمهات القصائد الفارسية والتركية البليغة من مميزاتها عذوبة اللفظ وصفاء المعنى والتناسب بين أبياتها عبارة وموضوعاً على أنها من الجهة الأخرى مظهر من مظاهر الصناعة والتكلف فترى الشاعر ينحو نحو الإغراق والمبالغة ويأتي بالمعاني المبتذلة المألوفة ويكثر من التورية ونحوها من أبواب البديع حتى لقد تسقط معانيه للهوه بهذه المحسنات اللفظية إلى درجة المعاني الصبيانية وأبواب الموضوعات الشعرية التركية والفارسية محدودة ما عدا القصائد التاريخية الطويلة فإن موضوعاتها متعددة ومعانيها مختلفة، والعشق بما فيه من الآلام واللذائذ يحق له أن يكون في المحل الأول من الأدب التركي وكذلك يتغنون بمدح الربيع ويصفون أصوات البلابل وجمال الأزاهر ومظاهر الكون الجميلة كل هذا ممزوج بالإحساس الديني كشكر الله والابتهال إليه والتضاؤل أمام قوته ومن الغريب أن الترك مع أنهم من الشعوب الحربية ليس لهم من الشعر الحماسي ما يعتد به وهذا إنما سببه أن الفرس أساتذتهم لم يرد لهم شعر حماسي إلا ما جاء في قصائدهم القصصية الطويلة.

والقصائد التاريخية المشار إليها فيما سبق مقفاة كل بيتين من قافية واحدة من أول بيت لآخر بيت والقصائد التركية في العادة لا تزيد على 24 بيتاً يضمن البيت الأخير اسم منشئها.

أما النثر التركي على أحسن حالاته عندهم فإنما يصفه الفرنجة يميل كتابه إلى الغلو والمبالغة وحب المحسنات اللفظية والإسجاع مع تكلف المعاني وتشويش العبارة، والفرنجة وأصحاب الأذواق السليمة من كتاب العرب يكرهون تكلف الأسجاع والتزامها في كل عبارة فلا بدع إذا عابوا على أدباء الترك شغفهم بالسجع إلى درجة الإفراط مثل سعد الدين المؤرخ التركي القديم أما حيث لا يلتزم السجع في النثر التركي فترى المعاني أقرب إلى الطبع وأدنى إلى الذوق السليم.

وإذا بالغ الكتاب في تجريد كتاباتهم من المحسنات اللفظية وأقصوا كل سجعة أو لفظ رشيق أصبح كلامهم جافاً غير جذاب.

والأدب العثماني واسع غني فالمنشئون من كل نوع وخصوصاً الشعراء وجدوا في كل العصور وكانوا متعددين يقصدون القصائد الكثيرة العدد والطويلة المدى ولذلك سنكتفي في هذه العجالة بذكر قليل من أشهر مشهوري الشعراء الذي لهم المحل الأرفع في تاريخ بلادهم الأدبي.

فمن أقدم الشعراء العثمانيين الغازي فاضل

وقد دبج يراع الشاعر شيخي القرمياني قصيدة تاريخية طويلة ضمنها ذكر خطوب شرين البطلة الفارسية المشهورة في حكايات الفرس كما أن يازجي أوغلو كتب السيرة النبوية الشريفة شعراً وسمى قصيدته المحمدية وأهم كتب منثور العصور التركية القديمة كتاب حكايات الأربعين وزيراً جمعه جامع في النصف الأول من القرن الخامس عشر سمى نفسه شيخ زاده ولعل اسمه الحقيقي كان أحمد والحكاية الآتية بلسان الوزير العشرين تظهر روح حكايات هذا الكتاب وترى منها أن عبارته كانت بسيطة لا تكلف فيها.

كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن وقد خرج مرة للصيد والقنص وفيما هو عائد إذ بصر بشبح فقير في أسمال بالية وحال رثة ينادي من نقدني ألفا ذهباً بعته نصيحة من النصائح الغاليات قال الراوي فلما سمع الملك مقالته وفهم دعوته لوى عنان فرسه إليه وأقبل عليه وسأله ما هي تلك النصيحة الغالية فقال إذا أردت ذكرها فانقدني مهرها فأمر الملك حاشيته وغلمانه بإعطاء الشيخ المدعي ما طلب - ألفاً من الذهب - فلما حصل على غنيمته شرع يشدو بنصيحته قال: أيها الملك المهيب الرفيع الجناب إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما أتم مقالته سخر منه غلمان الملك وأهل حاشيته وقالوا هذه نصيحة مألوفة معروفة على أن الملك لم يكترث بهم وزاد الشيخ إكراماً وإحساناً وأمر بكتابة النصيحة على جدران قصوره وأبوابها، قالوا وكان لهذا الملك خصم لدود ملك جبار عنيد يتربص به الفرص ويكيد له ما استطاع لذلك سبيلاً ولما أعيته الحيل ولم يصل إليه بمكروه قال في نفسه لماذا لا أذهب إلى حلاق الملك وأعده بالمال الجزيل وأعطيه موسى مسمومة يفصد بها الملك فيموت وأتخلص منه علي أهون سبيل وسرعان ما غير ملابسه وتنكر وذهب إلى الحلاق وأعطاه ألفاً ذهباً وموسى مسمومة فأجابه الحلاق وكان شرهاً يحب المال حباً جماً إلى ما طلب ووعد بتنفيذ ما رغب ولما مرض الملك أرسل في طلب الحلاق ليفصده فسار إليه ومعه الموسى المسمومة فوجد الغلمان قد هيئوا له آنية يتلقى فيها دم الفصد وكان مكتوباً على حافتها نصيحة ذلك الشيخ الذي اعترض الملك وهو راجع من الصيد والقنص وهي إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما تأملها الحلاق قال في نفسه إنني الآن على وشك فصد الملك بهذه الموسى المسمومة فلا بد أنه يموت وإذا مات لا يتركونني حياً بعده وإذن لا أنتفع بالمال الذي أعطيته قال هذا في نفسه ثم أخفى الموسى المسمومة وأخرج غيرها بريئة من السم فلما رآه الملك يبدل موسى بغيرها سأله عن السبب فقال إن الموسى الأولى قد علا حدها التراب فراب الملك أمره وقال له إن الموسى الأولى لم تكن من المواسي الخاصة بي فلا بد من سر دفين وأمر خفي أخبرني سريعاً وإلا أذقتك كأس المنون فعندها لم يسع الحلاق إلا أن يقول الحق وحكى له السر من أوله إلى آخره وإن عزمه على الإيقاع بالملك قد تحول منذ وقع نظره على النصيحة المكتوبة على الإناء قال الراوي: فسر الملك من صراحته وانتصاحه بالنصيحة فخلع عليه خلعة سنية وأجاز له الانتفاع بالذهب الذي أخذه من عدوه ثم قال الملك: حقاً إن نصيحة ذلك الشيخ المبارك تقدر بمئات الألوف من الذهب لا بألف واحدة.

على أن الآثار القلمية للترك قبل الاستيلاء على القسطنطينية سنة 1453 ليست بذات شأن كبير أما بعد الاستيلاء عليها بقليل فقد راجت فيها أشعار غزلية لأمير تتري اسمه الأمير علي شير نواي فتن بها الوزير أحمد باشا أحد رجال السلطان محمد الثاني ونقلها وكان هذا الوزير شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له المقطعات البليغة ذات المحل الرفيع في الأدب التركي وقد نسج فيها على منوال الأمير التتري وفتح بنظمها عهداً جديداً للغة التركية فأقبل الترك على تلاوة الأشعار ونظمها وكان سنان باشا من وزراء محمد الفاتح أيضاً من الذين فازوا على الأقران في حلبة النثر الرقيق الحاشية الخفيف الروح كيف لا وهو مؤلف الكتاب الديني المشهور الموسوم بالتضرعات وهو كتاب ممتع جليل فيه الأسجاع اللطيفة والإشارات الظريفة ننقل منها ما يلي:

أنت الخالق الذي لا يحتويه ظرف مكان، البارئ الذي لم ينشأ من أي شيء كان، الحكيم الذي ضلت في معرفة حقيقة أمره الإفهام، المنيع في ملكه فلا سبيل إلى أن تصل إلى دائرة وجوده الأوهام، قد عجزت العقول البشرية عن أن تحلق قريباً من سماء وجودك الرفيع، وحاول أحد الأذهان تصور مكان عظمتك القدسية فلا تستطيع.

وجاء بعد أحمد باشا الشاعران المتغنى بشعرهما نجاتي وزاتي ففاقا عليه وممن هن جديرات بالذكر من شاعرات هذا العصر عصر محمد الثاني زينب ومهرى وقد كان محمد ينشط العلوم والآداب ويخلع الخلع السنية ويعطي العطايا الحاتمية للشعراء والأدباء.

هذا وقد كان محمد الثاني نفسه شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له الشعر الرقيق الذي لا يزال محفوظاً في بطون كتب الأدب على أن حفيده السلطان سليم الأول المعروف بياوز أو الغضوب كان أعظم سلاطين آل عثمان فلم تكن كفاءته الشعرية بأقل من كفاءته الحربية والإدارية وأن من الخمسة والثلاثين سلطاناً الذين تولوا الأريكة السنية العظمى واحداً وعشرين نظموا شعراً معروفاً لهم وليس بينهم من يستحق فضل السبق غير السلطان سليم فإنه كان شاعراً لا يجاري وأديباً لا يبارى على أن مما له يؤسف له أنه نظم معانيه الرائقة وضمن أفكاره الشيقة اللغة الفارسية فلم ينظم بلغة آبائه وأجداده ولو أنه نظم بالتركية لعادت عبقريته على اللغة بأعظم الفوائد على أنا نثبت هنا ترجمة معنى شيء من قصائده التركية القليلة.

فمن ذلك أنه ندب خلانه وأقرانه ووصف هطول الدمع من عينيه أبدع وصف وقد شبه حاجبيه وأنفه بجسر تمر منه الأفكار الحزينة الكثيرة البارزة من مخه على جبهته وجعل الدموع بمثابة بحر عظيم في أسفل ذلك الجسر ثم أشار إلى عبث الأقدار به وهو شريد طريد ثم ذكر صعوبة العثور على الخل الوفي وقال إن العثور عليه أصعب من معرفة أسرار الأكوان.

أما كمال باشا زاده أحمد المعروف بابن كمال فكان من رجال القضاء الممتازين وكان له القدح المعلى في الشعر والنثر، من آثاره قصيدة تتضمن قصة يوسف وزليخة زوج بوطيفار كما أن له بحثاً يسمى النيجارستان يشبه في عبارته وأسلوبه بحث الشاعر الفارسي المشهور بالسعدي المسمى جولستان أو حديقة الورد، وكان الشاعر مسيحي من معاصري سليم الأول وله قصيدة فذة في الطبقة الأولى بلاغة وفصاحة وحسن انسجام خلدت اسمه عند المشارقة ولدى أدباء الفرنجة أيضاً وهي قصيدة في وصف الربيع نورد من معانيها ما يأتي:

اسمع يا صاح صوت البلبل الشجي فهو يناديك، لقد أقبل فصل الربيع الجميل كم في خمائله من الأزهار اللطيفة وفي رياضه من المشاهد الظريفة فأشجار اللوز تنثر من لآلئ الندى الناصعة البياض ما تقر به العين وينشرح له الصدر فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ما أجمل الورد والخزامى وقد تفتحت أكمامهما وعلقت حلقات من قطر الندى البراق بآذانهما الجميلة فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، لا تسكب عيون السحاب كل فجر دموعها الرقراقة المتألقة على خد الورود الأرضية ولما يختلط نفس الصبح البليل ونسيمه العليل بعبق كالمسك التتري ولما يكون وجه الدنيا ضاحكاً مستبشراً لا تقف وقفة الغافل ولا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ألا ترى إلى الجنان المزهرة والبساتين المثمرة كيف يعطر شذاها الهواء وكيف تذكو رائحة قطر الندى قبل أن تبلغ الأرض، ألا ترى إلى السماء كيف انعقد فوق الأرض كالفسطاط العظيم فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب.

ولغاية عهد سليم الأول كانت الآثار القلمية التركية ساذجة غير مصقولة فلما ولي سليمان الأول 1520 - 1566 انفتح عصر جديد زاهر فقد نبغ في أطراف دولته في الشرق والغرب شاعران عظيمان مجيدان وهما الفضولي والباكي وكان الفضولي نزيل بغداد وأحد المقدمين الأربعة في الشعر التركي القديم أول شاعر نال بحق سبق الإجادة الصحيحة في الآداب التركية ولم يفق عليه ممن تقدمه أحد ولأقاربه في الفضل وكان من خصائص هذا الشاعر أنه لم يتقيد بمعاني من تقدموه رغماً من احتذائه الفارسية ذوقاً وعبارة فقد اختط أسلوباً جديداً في التعبير عن المشاعر الحقيقية فكان يكتب وجدانه كتابة يخيل لقارئها أن نفساً تخاطب نفسه ومشاعر تتصل بمشاعره فلا يحس بتكلف أو صناعة ولا يسمع غير هاتف نفس الشاعر المحزون، وكان الفضولي له السلطان على القلوب يوجهها كيف شاء إن شاء فاضت النفوس بالحزن وإن شاء طغى السرور على القلب وله ديوان شعر رقيق كما أن له قصيدة عامرة في حب ليلى ومجنونها كما له ي النثر الآثار التي لا تقل عن شعره إجادة وحسن سبك وصفاء معنى وكانت أساليبه تخالف الأساليب المألوفة لدى أدباء العاصمة وهذا هو السبب في قلة من احتذاه ومن معاني الأبيات الآتية تعرف قدر ذلك الشاعر.

أيتها الحبيبة إني لأستقل عداوة العالم أجمع ولا أعبأ بها ما دمت راضية عني، وإني لأستصغر صداقة الأصدقاء بالنسبة إلى حبك، هل تبلغ نكاية الأعداء مني ما بلغه الحب وتباريح الغرام، إن حياتي سلسلة آلام وأحزان وأنا أبداً المعنى الدنف، لقد كنت قبل الحب لا أعلم لذة الوصال ولا أعرف مرارة الفراق ولقد أعماني النوى فلا أرى أشباح الأشياء الواضحة الجلية، ألا ترى أيها القلب نور هذا البدر الزاهي، وأنت يافضولي لو أن جسمك الفاني أصبح تحت جنادل وأحجار فإن معنى الحب الذي ملك عليك قلبك خالد لا يموت، إني كلما ذكرت أيام الشباب ولذات الوصال ذاب جسمي الناحل الفاني الذي بلغت به الشيخوخة باب القبر، وإذ قد حان مماتي فقد آن لك أيتها النفس والطائر المحبوس في قفص أن تكون طليقاً، ما ألذ ظلم الحبيب، لقد وطنت نفسي على تحمل جميع آلامه وشرب كأس عذابه حتى صباته وإذا كان من المستحيل الآن أن أتصل بك أيها الحبيب فحسبي أن أستعرض صور الوصال الماضية، فاستعراضها خيالاً ينبوع سعادة عظيم لي الآن، لقد فاقت أخبار عشقي أخبار مجنون ليلى فأصبح اسمه بي نسياً منسياً.

أما الباكي شاعر القسطنطينية فكان دون الفضولي في المنزلة الأدبية ولكنه مع ذلك فاق سائر من تقدموه، له في السلطان سليمان مرثية خالدة نثبت منها هنا ترجمة منثورة لبعض أبيات استهلها بتوجيه الخطاب إلى القارئ.

أيها المغرور بالدنيا وزخرفها متى تفيق من نومك وتعلم أن الدنيا متاع الغرور، ليكن نصب عينيك ذلك اليوم الذي فيه تفارق الدنيا ولذاتها، لا بد أن تذبل خزامى الربيع وتسقط أوراقه الخضراء وأنت أيها الإنسان لا بد من صيرورتك إلى حفرة من تراب، لا بد للزمان من أن يرنق كأس سرورك المترع الصافي إنما الإنسان حقاً وصدقاً من صغت نفسه لقبول الحقائق، وما أحرى الرجل المتصف بصفات الإنسانية الراقية بأن يتحلى بالشفقة ويخلص نفسه من أشواك القسوة والوحشية ألا يفيق الإنسان وقد سطا ريب المنون على أمير لا ككل الأمراء أمير خضعت لسيفه رقاب الكافرين وخلعت صوارم كفه قلوب الفرنجة والمسيحيين وبعد أن كان له في الحياة بأس تذل له الهام أصبح الآن ساكناً تحت جنادل وركام.

لقد كان سليمان بهجة الأنام وزينة أعيان الإسلام فكان في عزم الاسكندر وأبهة دارا ولقد طأطأت الأرض رأسها إجلالاً وإعظاماً لسدته العلية وكانت أصغر عطاياه تصير الشحاذ المعدم أميراً سخياً. . . .

(وبعد أن أفاض في مدحه). . . قال وهو وإن خضعت عنقه لداعي الموت فقد كان له عزم القدر والسلطة القاهرة.

وظهر نجم الشاعر القدير نافع الأرضرومي في أفق عصر السلطان أحمد (1603 - 1607) فجدد معالم الشعر التركي القديم وقد اشتهرت قصائده بالرقة والانسجام كما اشتهر غزل الفضولي بحسن الذوق وسلامة البيان وقد خط لنفسه طريقاً في التعبير ونهجاً في الأسلوب فكان شاعراً حراً كالفضولي وقد حذا حذوه شعراء كثيرون اشتهر منهم صبري على أن نافعاً كان نقاداً شديد الوطأة فسبب له ذلك غضب الناس والعظماء الملتفين حول مراد الرابع فما زالوا به حتى أمر بقتله وهاك إحدى قصائد نافع المشهورة وهي مدح في السلطان مراد قيل أن السلطان أمره بمدحه فارتجلها ولكنا لا نميل إلى تصديق ارتجالها لأنها من البلاغة بالمحل الأرفع وقد وصف الربيع فأبلغ الألفاظ وأجمل المعاني وهو موضوع محبوب من الشعراء الترك.

يهب نسيم الربيع المبكر وتفتح أكمام الزهر في الفجر فلتفرح قلوبنا، أيها الساقي املأ الكأس واسقني بيدك لقد حلت أيام شهر مايو الجميلة وتعطر الهواء وأصحت السماء ولبست الأرض حلة عدنية وليس في الأرض مكان إلا كأنه ناحية منعزلة من بستان أنيق.

ومنها، ليحضر الساقي بكاس الخمر وتعزف القيان على الأوتار وإن أعقل العقلاء من اغتنم ساعة السرور وأسعد السعداء من قبص بإحدى يديه على قدح من النبيذ المعتق وأخذ يعبث بالأخرى بشعر حبيبه الجميل وأنت أيها الساقي لا تن في أن تترع الأقداح واحذر أن تنقصها شيئاً، ويا غصن البان أشرق بوجهك المنير علينا ويا شفاهاً تزري بحمرة الورد أبسمى فإن الزمان يبتسم لابتسامك.

سلم أمورك للقدر ... واغنم أويقات السرور

والحزن لا يمنعك من ... شرب العتيق من الخمور

وإن خمر المحبين ترياق الهموم وراحة النفوس، وقد كان لها من المنزلة في فارس القديمة إن كان يجلها رجال الدين، وإن الخمر مجلبة السرور في مجالس العاشقين، وإنما مثل الخمر إذا صبت في الكاسات مثل ذوب الحديد وقد صهرته النار ولها لمعان الخزامى وهي في كؤوسها الدرية، وإن مثل الخمر في كاساتها كمثل الندى في شقائق النعمان، فاسقنا أيها الساقي من خمر الأمير الهمام وأترع الكاسات فإنا نريد أن نبدد الأحزان واجبنا إلى طلبنا ولا تبخل علينا ببنت الكرم فإنا عشاق معذبون قد برح الغرام بأجسامنا.

ومن مشاهير الشعراء نابي وكان في عصر السلطانين ابراهيم (1640 - 1648) ومحمد الرابع (1648 - 1687) وكان في فارس عصرئذ شاعر قدير نحا بالأسلوب الشعري نحواً جديداً مؤسساً على الروح الفلسفية الحكيمة فقلده نابى ونقل تلك الروح إلى التركية، لذلك تجد غالب شعره أدبياً حكيماً فلسفياً وقد احتذى أستاذه الفارسي في بعض الأحيان إلى درجة فقد فيها شخصيته التركية وسار على نهجه من الشعراء المشهورين راغب باشا والشاعر سامي وكثيرون غيرهما.

أما في عصر أحمد الثالث (1703 - 1730) فقد ظهر نابغة الشعراء الأتراك القدماء نديم، ويمتاز نديم بكونه نحا أسلوباً خاصاً به خالف فيه كل من تقدمه من الشعراء ولم يستطع أحد ممن أتوا بعده محاكاته فيه، ولنديم هذا من الشعر الغزلي ما يسيل رقة وانسجاماً فيه من خفة الروح والظرف والرشاقة ما ليس في شعر غيره من شعراء التركية في أي عصر من العصور، وقصائده مع كونها أظرف وأرشق من قصائد نافع إلا أنها ليست دونها متانة ودقة صناعة وتمتاز عنها بخلوها من التنميق وبعدها عن التزويق ولا يعرف من أمره غير أنه كان من أبناء القسطنطينية وكان أميناً على المكتبة التي أنشأها الصدر الأعظم إبراهيم باشا كما أنه معروف أنه كان حياً لغاية سنة 1727 وهاك شيئاً من غزله: أتلفني الحب والغرام، وأضعت في مداعبة الغيد الحسان الأيام، وقد نفد صبري وذهب جلدي وبلغ الحنق بي مبلغاً ذهبت فيه إلى تمزيق ثيابي، وما عانقتني ووضعت ثديها الجميلين وصدرها المحبوب على صدري حتى استلت راحة الضمير والهناء من بين جنبي فلا أعرف لهما الآن مستقراً، أيها المخلوق الظريف الصغير ما أقساك كأن قلبك قلب الكفرة الذين لا يعرفون للرحمة اسماً ومع أنك جميل، جميل في كل شيء في شعرك وعينيك إلا أنك مع ذلك نصراني العاطفة، وإن جمالك فيه قسوة عليّ ورب الكعبة كم مرة أخلفت وعدك وحنثت في يمينك.

ما أجمل تلك الغدائر المدلاة من رأسك! كل من رأى وجهك المشرق بالجمال يصرع ويجن ويذهل عن نفسه، ألا يحق لي الحزن والبكاء، ألست أشقى البرايا وأتعس العالمين، أنا النحيل المضني، أيها المعشوق الجميل من خلق ذلك القد المعتدل والعيون الساحرة، إن لك لعبقاً أطيب من الطيب وإن لك لوجهاً يزري بالأزاهير وقد فتحت أكمامها، إني أخاف على جسمك الناعم الحريري من وخز أشواك تلك الأزهار المعلقة في صدرك، ما أجملك وأنت تخطرين وفي إحدى يديك زهرة وفي الأخرى قدح خمر ولست أعرف أي الثلاثة تحملين الخمر أم الزهر أم الثغر الباسم.

والعصر القديم للآداب التركية ينتهي بنهاية حياة الشاعر نديم وأزهى فترات ذلك العصر العهد الواقع بين ابتداء حياة نافع وموت نديم أو من جلوس أحمد الأول (1603) إلى خلع أحمد الثالث (1730).

أما النثر وقد أغفلنا ذكره من عهد محمد الفاتح فمن أشهر ما كتب فيه الهمايومانه وهي ترجمة أنور السهيلي الفارسي ترجمها علي سلبي لسليمان الأول وقد ألف بعد ذلك بقليل العلامة سعد الدين لتلميذه مراد الثالث (1574 - 1595) كتاب تاج التواريخ وهو تاريخ أعمال السلاطين التسعة الأول وهذا التاريخ هو الحلقة الأولى من سلسلة كتب تاريخ الترك التي لم تنقطع، وقد عرف بتحريه الصواب مع بلاغة أسلوبه ورشاقة عبارته وهو من أوله إلى آخره مسجع وقد زينه مؤلفه بقطع غالية من الشعر النفيس بعضها له وبعضها لغيره من أدباء الترك والفرس، ومن المؤرخين الذين اشتهروا بعد سعد الدين المؤرخ ناعمة وتاريخه يتعرض لذكر الحوادث الواقعة بين (591 - 1659) ويختلف عن تاج التواريخ من جهة أن كاتبه لا يتكلف الأسجاع وإنما يكتب بالأسلوب البسيط السهل الذي تفهمه العامة ولا تنكره الخاصة فضلاً عن أنه ماهر الوصف دقيق في إبراز الماضي البائد في صورة الحي الماثل للعيان، أما أولياء أفندي فإنه ساح واخترق الآفاق وضرب في عرض القارات الكبرى الثلاث القديمة ثم ألقى عصا التسيار في القسطنطينية حيث دون رحلته في كتاب عظيم، أما الحاج خليفه المعروف أيضاً بكاتب شلبي المتوفى سنة 1685 فقد تعددت مؤلفاته القيمة في التواريخ والأخبار والسير وتخطيط البلاد وغيرها من العلوم وفي سنة 1728 ظهر أول كتاب مطبوع في تركيا وكان ترجمة قاموس عربي، والذي أنشأ أول مطبعة كان الوزير الأعظم إبراهيم باشا صاحب الأيادي البيضاء على الشاعر نديم وقد جعل عليها رجلاً مجرياً أسلم وسمى نفسه إبراهيم.

وآخر الأربعة المشهورين من الشعراء الأتراك القدماء الشيخ غالب وكان معاصراً لسليم الثالث (1789 - 1807) له قصيدة طويلة نهاية في الإبداع وغاية في حسن الانسجام بعنوان الحسن والعشق، ولقد صاغها في قالب روائي جميل من أبدع ما أبرزته العبقرية التركية، وقد تمثل بفضولي ونافع ونديم واختط له في الأسلوب خطة خاصة به ونحا نحواً جميلاً ناجحاً أربى به على الأقران.

ولقد كان عصر محمود الثاني (1808 - 1839) عصر تطور وانقلاب في التاريخ التركي فلقد تناول التغيير والإصلاح النظم والقوانين والمرافق القديمة قليلاً وكثيراً فليس من العجيب أن تتأثر الآداب بالروح التي أثرت في غيرها ودخل في الشعر والنثر مذهب أوروبي ملك على اللغة التركية أمرها إلى اليوم غير أن النثر كان أسرع من الشعر في التأثر بمناحي الآداب الافرنكية وأشهر شعراء وشاعرات عصر الانتقال هذا واصف، وقد كتب أسفاره بلغة القسطنطينية الشائعة لعهده، وعزت منلا والسيدتان فطنت وليلى.

ولقد دخل التغيير جوهر الآداب التركية بشكل عظيم فعال واضح منذ ثلاثين سنة فقط وقد تعاظم أمر هذا التغيير والانقلاب من يوم إلى آخر وتناول الآداب التركية في المعنى والمبنى والجوهر والعرض شعراً ونثراً بحيث لا نبالغ إذا قلنا أن قصيدة أو مقالة من قلم شاعر أو أديب تركي من أهل هذا العصر الحاضر لا تفهم ولايكون لها قيمة عند أديب من أدباء الترك الماضين وهذا التغيير إنما سببه مطالعة دروس اللغة والآداب الفرنسية الأمر الذي لم يتعاظم شيوعه إلا منذ الثلاثين سنة الأخيرة وقد كان تأثير ذلك مدهشاً غريباً يدلك على ذلك أن غاية ما يرجو الأديب العصري في الأستانة وكل ما يصبو إليه ويريد أن يعرف به ويشهر عنه أن يكتب من غير تكلف، وقد دالت دولة السجع والبديع والمحسنات اللفظية وحل محلها الكلام البسيط الممتع الوافي بالغرض الصاعد بالمعنى إلى عقل القارئ من غير إجهاد نفس وأعنات فكر، وقد أدخل على اللغة التركية النمط الروائي في الكتابة وهو أمر جديد عليها لم تكن تعرفه من قبل وقد نبغ جم غفير من أدباء الترك في إنشاء الروايات الممتعة تمثيلية وغير تمثيلية وقد تناول حب التشبه بأدباء الفرنج الشعراء فهجر الترك إنشاء القصائد على الأنماط والقوافي القديمة واحتذوا الفرنجة في سائر أميالهم الشعرية وقد تناول التغيير اللغة نفسها فأهملت كلمات كثيرة قديمة لأنها أصبحت غير مفيدة وغير وافية بالغرض وعدلوا معاني كلمات أخرى بحيث أصبح يستطاع بواسطتها التعبير عن الأفكار والمصطلحات العصرية الحديثة التي لم يكن في الإمكان التعبير عنها بالأساليب والمفردات القديمة ولم تكن كل هذه التغييرات لتتم من غير معارضة ونضال فإن كثيراً من الأتراك المحافظين على القديم ممن يعجبون بالأساليب الفارسية ويكرهون كل ما كان أوروبياً لم يرقهم هذا التغيير وقاوموا العصريين طلاب الإصلاح بعنف وشدة ولا يزال منهم نفر قليل يجهر بالمعارضة والشكوى إلى اليوم.

وتظهر روح الإصلاح واحتذاء الأساليب الأوروبية الجديدة في تضاعيف منشآت عاكف باشا ورشيد باشا، أما شناسي أفندي المتوفى سنة 1871 فإليه يرجع كل الفضل في القيام بحركة الإصلاح الأوروبي دون غيره وقد عضد شناسي أفندي بكفاءة وقدرة كمال بك ذو المواهب الباهرة والآثار الخالدة وخير من عكف على خدمة الأدب من الأتراك وكذلك عضده وسار في ركابه كل من الأديبين الشاعر أكرم بك الذي كان إلى عهد غير بعيد أستاذ الآداب في المكتب السلطاني والروائي حامد زعيم الروائيين الأتراك وحامل لوائهم.