مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/جنون الإنسانية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/جنون الإنسانية
لم تكن الإنسانية يوماً من الأيام، من أبعد حدود التاريخ إلى عهد هذا الكوكب الأرضي بما يدعونه الحضارة، عاقلة رزينة سليمة الذهن، بل لقد ظل الوحش المفترس الذي درج مع الإنسان الأول في يوم واحد، يجري في عروق هذا الإنسان ويسري في دمه، ولقد ظلت الإنسانية في جنة حتى انتهت إلى هذا الجنون الأكبر الذي يعانيه المجتمع منذ أربعة أعوام أو نحو منها، وقد بدت جنة الإنسان في سلسلة طولى من الحماقات والتطرفات، دوّنها بيده في التاريخ وأبى إلا أن يلبسها ثوباً طلياً مفوفا حتى تبدو للأجيال المنحدرة إلى المستقبل مفاخر وفعالاً جساماً رائعة، وقد وثب في القرون الماضية عدة من العظماء والقواد والمنارات العليا فحاولوا هداية الناس واجتهدوا في أن يكونوا قدوة ومثالاً للإنسانية، ولكن نجاحهم لم يلبث أن ذهب، وعاد الناس بعدهم يتابعون ضروباً متعددة من الحماقات والجنات، والرغبة الأولى التي يلتمسونها في الحياة هي أن يطأ القوي هامة الضعيف ويسبح الجميع في أنهار من الدماء ويمشون في سوح من المجزرة.
وقد دأب الفلاسفة والمفكرون والكتاب منذ القدم على البحث في العلاج الناجع للإنسانية والأشفية المؤكدة، وانطلقوا يلتمسون الحاجة الكبرى لصلاح الناس، والذهاب بعنصر الشر والجريمة في الأرض، فذهب كل منهم مذهباً، وتضاربت الآراء، وتزاحمت النظريات، فلم يسع الإنسانية المريضة إلا أن تضحك من أطبائها وأساتها وتهزأ بهذا التناقض والتعارض على مقربة من سرير العليل، فلم تلبث أن طرحتها جانباً ومضت في سبيلها تجري وراء نزعة نفسانية مجنونة، هي نزعة القتل الاجتماعي، وإبادة الملايين من النفوس لينعم بالحياة ملايين مثلهم.
والآن ما هي الحاجة الكبرى لصلاح الإنسانية، وما هو المطلب الواجب لكي يثير في الإنسان السمو والنزعة إلى الخير، ويطهر القلوب من جنة الأنانية، ويبعثهم على التماسك والفعال النبيلة السامية، وجواب ذلك كلمة واحدة، وحقيقة بسيطة في صميمها، تصرخ أبداً في أذهاننا وتطالعنا في وجوهنا، ولكن الإنسانية لم تستطع الاهتداء إليها في العهود الذاهبة من التاريخ، وهذه الكلمة هي السلامة، ونعني بها سلامة العقل والجسم، وهذه السلامة هي التي توحي إلى الناس أنه ينبغي عليهم أن يطيعوا قوانين الله وشرائعه وإلا كان نصيبهم الدمار والانقراض.
ويجب أن تكون سلامة العقل والجسم هي القانون الأول الذي ينبغي أن يسود في مناحي الحياة وأصولها الأولية، فينبغي أن تسود في الزواج وفي العلم والدين والتربية.
ونحن نعلم أن الزواج الحاضر في الإنسانية لا يقوم على قاعدة صحيحة، ولا ينهض على شيء من الشروط الهامة لاتفاق روحين على تكوين أرواح أخرى، وكثيراً ما كان الزواج في الإنسانية الحاضرة هو سلسلة جرائم وجنايات نكراء وهو الذي جعل العالم حافلاً بالمجانين والمرضى والمشوهين والضعفاء، لأن هناك قواعد بينة في الصحة أغفلها الناس وأنكروها ورضوا بأن تكون عقود الزواج هي الشرط الأول فقط لصحته ونسوا النظر إلى الزواج من الوجهة الصحية والنفسانية، وذلك اتباعاً للرياء الاجتماعي الذي نحمله في كل فروع الحياة، وللتقاليد التي لا نستطيع انحرافاً عنها، ولو استبان باطلها ووضح فسادها، بل لعل كثيرين من قواد هذه الحرب المدهشة إنما اندفعوا وراء لوثتهم هذه من أثر نزعة مجنونة استحرت في أذهانهم وورثوها من زواج لم تراع فيه القواعد الصحية، وأمراض عصبية أصابتهم من الإصلاب التي انحدروا منها، فإذا كانت الإنسانية تريد أن تكون شعوباً عاقلة وحكاماً وملوكاً وقواداً عقلاء سليمي النفوس فيجب أن تعمل على أن تحتفظ بالنظام والتعقل في تربية الأطفال وتهذيبهم، وتسير على قوانين الصحة والشروط الواجبة لتربية الذهن والأعصاب، لأن كل جريمة ليست إلا نزعة من نزعات الجنون ولا يرتضي أي عقل منظم سليم أن يتصور قتل نفس زكية واحدة فضلاً عن حصد ملايين من النفوس.
ولقد رأينا جمعاً من سادة العلم توفروا على ابتكار الأساليب المتعددة من المخترعات ومتابعة قوانين الطبيعة إلى أبعد حدودها لإنقاذ الحياة الإنسانية من ويلات المرض والضعف والمهلكات، ولكنا لا نزال نرى الفريق المجنون من العلماء يحشدون كل ذكائهم وكفاءاتهم للوصول إلى ابتكار وسائل جديدة من أسلحة الحرب لإبادة الحياة والصحف اليوم في دول الغرب المسهمة في المجزرة تصيح اليوم جازعة من قلة عدد المواليد ولعل هذه الصرخة الجازعة أنكر ما وصل إلى المسمع من المناقضات المخيفة الأليمة لأن الدعوة إلى إخراج جموع من القطع الإنسانية الصغيرة في الوقت الذي يدأب الناس فيه على إخراج جموع كبرى من المدافع والمهلكات ليست إلا إهانة عظيمة للأمهات المحزونات والثكالى الحادات، إذ لماذا يجب أن تلد الأمهات وتربي الوالدات، لكي يلقى أبناؤهن منونهم إطاعة للحكومات، واستماعاً إلى نداء السياسات والوزارات، بل إن دعوة مثل هذه ليست إلا دليلاً على جنون مرعب ورغبة شديدة في الهدم والقتل لا تصدر عن عقل منظم سليم.
والآن نحن آخذون في الوجه الثالث الذي أكسب الناس الجنون فأعماهم عن سلطانه، ونعني به الدين، فقد ظلت الأديان والنبيون والقديسون وأهل الخير يصيحون بالناس ويدعونهم إلى الوئام والتحاب والسكينة ولكن الشرائع السماوية والتعاليم الدينية لم تستطع شيئاً لتطهير النفوس من أثر الحيوانية والعواطف الشريرة الراسخة العرق في أعشار القلوب، وأصبح كثيرون ممن رزقوا سعة العقل، وشيئاً من الذكاء المتقد، والفطنة الوثابة، يذهبون في سبل طويلة من العقائد الملحدة، وينكرون القوى الإلهية التي تحرك الكون، ويعدون ذهنهم - وهو هذه الصندوقة الصغيرة المحدودة - مركز الكون كله، ولعل الحاد الأذكياء والقواد والأبطال باعث من البواعث الأولى التي خلقت هذه الحرب، فقد خرجوا عن العقائد المقررة الصحيحة إلى اعتناق دين القوة، وعبادة الأنانية، وأصبح جمع كبير من العلماء ينشرون في العالم جملة من النظريات الطبيعية والفلسفات العقلية التي لا تؤمن إلا بالمحسوس وما يستطيع العقل الإنساني أن يتناوله، فانطلق وراءهم كثيرون يدينون بعقائدهم، ويسلمون أنفسهم إلى الوساوس والنزعات التي سداها ولحمتها الأثرة والسمو على كثبان من الجثث الإنسانية، وقد فقد أهل الدين في المجتمع اليوم سلطانهم الأول، وأصبحوا لا يستطيعون مناهضة الأفكار الجديدة الشريرة التي طحت بالناس وأفسدت أذهانهم، ولكن قبول الدين والانصياع إلى القوانين والتعاليم التي جاءت بها الأديان ليس إلا أكبر وسيلة لإمساك النفوس عن غيها وقمع النزعات الشريرة فيها.
وقد سرى هذا الفساد إلى الخلق، لأن النزعات الشريرة تؤثر في الخلق كما يتأثر الجهاز الهضمي والمزاج العصبي بطعام غير صالح أو غذاء سيء ولهذا كان الطفل بحاجة إلى الرقابة والرعاية في الأحوال الأولى من سنه لأن الأطفال يأخذون عما يرونه من أفعال آبائهم والقائمين على تعهدهم بالتربية، وكل والد قلق الروح سريع الغضب يخرج أولاداً حمقى غير مكترثين، وأبناء ساخرين هازئين، لأن الأطفال من شأنهم الضحك من آبائهم إذ يرونهم محتدين غاضبين، ويسخرون من إشفاق أمهاتهم وخوفهن وقلقهن، فلا تزال عاطفة السخرية تنمو فيهم كلما شبوا عن الطوق حتى تنشئ منهم ناساً أشراراً مخوفين في المجتمع يضحكون ويبتهجون لآلام غيرهم ويتلهون بنكبات سواهم.
فإذا كنا نريد أن نقتل روح الجرائم، فلنأخذ بالأساليب الصحية في تربية الأبناء والاحتفاظ بخلقهم والبيئة التي يعيشون فيها.