مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/مختارات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/مختارات

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 5 - 1917



أدب الملوك

من الكلمات المتداولة الكثيرة الذيوع والإنتشار قولهم كلام الملوك ملوك الكلام، وإن هذه الكلمة لتصدق على كثير من كلام الملوك ومن إليهم من الأمراء والعظماء وذوي السلطان ونحن ننشر هنا شيئاً مما عثرنا عليه من الكلمات الحكيمة والآداب الرفيعة التي أثرت عن بعض الخلائف والملوك والأمراء والعظماء من المتقدمين عسى أن يكون فيها لمن بقي اعتبار. حدث الأصمعي قال: لما عزم الرشيد على الأنس بي قال لي في أول يوم أحضرني للأنس والمحادثة يا عبد الملك أنت أحفظ منا ونحن أعقل منك، لاتعلمنا في ملأ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلوة واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا وشدة التعجب مما يكون منا، وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر وفي أعطاف الخطب وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار وإياك وإطالة الحديث إلا أن نستدعي ذاك منك، ومتى رأيتنا صارفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت من غير تقرير بالخطأ ولا إضجار بطول الترداد - قال الأصمعي: فقلت يا أمير المؤمنين. إني إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البر - ونهض هشام بن عبد الملك يوماً من مجلسه فسقط رداؤه من منكبه فتناوله بعض جلسائه ليرده إلى موضعه فجذبه هشام من يده وقال مهلاً إنا لا نتخذ جلساءنا خولاً - وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إن قوماً صحبوا الملك بغير ما يحق لله عليهم فأكلوا بخلاقهم وعاشوا بألسنتهم وخلفوا الأمة بالمكروه والخديعة والخيانة، كل ذلك في النار، ألا فلا يصحبنا من أولئك أحد. فمن صحبنا بخمس خصال فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ودلنا على ما لا نهتدي إليه من العدل وأعاننا على الخير وسكت عما لا يعنيه وأدى الأمانة التي احتملها عامة المسلمين فحيي هلاً به. - وتناظر المأمون ومحمد بن القاسم في شيء ومحمد يغضي له ويصدقه فقال له المأمون أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرآسه لصدقت وإن كنت كاذباً وصوبت وإن كنت مخطئاً وعدلت وإن كنت جائراً ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة، وإن أضعف الملوك رأياً وأوهنهم عقلاً من رضي بصدق الأمير - وسخط الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالسيف والنطع فبكى فقال ما يبكيك قال والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنه لا بد منه وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي فضحك وعفا عنه وقال: إن الكريم إذا خادعته انخدعا: وكتب علي بن عيسى الوزير عن المقتدر كتاباً إلى ملك الروم فلما عرض على المقتدر قال فيه موضع يحتاج إلى إصلاح فسألوه عن ذلك فكان قد كتب في الكتاب أن قربت من أمير المؤمنين قرب منك وإن بعدت عنه بعد عنك فقال ما حاجتي إلى أن أقرب منه. اكتبوا إن قربت من أمير المؤمنين قرب وإن بعدت عنه أبعدك - وقال أبو عبد الله ابن حمدون النديم: لقد رأيت الملوك فما رأيت أغزر أدباً من الواثق، خرج علينا يوماً وهو ينشد لدعبل بن علي الخزاعي:

خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني النوم وهو مكين

وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به من خلتي لضنين

فانبرى أحمد بن أبي دؤاد كأنما انشط من عقال فسأله في رجل من أهل اليمامة فأطنب وأسهب وذهب في القول كل مذهب فقال له الواثق يا أبا عبد الله لقد أكثرت في غير كثير فقال يا أمير المؤمنين إنه صديقي:

وأهون ما يعطى الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما

فقال الواثق وما قدر اليمامي أن يكون صديقك، ما احسبه إلا من عرض معارفك فقال يا أمير المؤمنين إنه قصدني في الإستشفاع إليك وجعلني بمرأى ومسمع من الرد أو القبول فإن أنا لم أقم له هذا المقام كنت كما قال أمير المؤمنين آنفاً:

خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين

فقال الواثق لمحمد بن عبد الملك الزيات أقسمت عليك إلا عجلت لأبي عبد الله بحاجته ليسلم من هجنة الرد وكدر المطل.

ـ ولما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة نهد إليه إبراهيم بن هرمة الشاعر ممتدحاً فلما دخل عليه أنشده شعره الذي يقول فيه:

له لحظات عن خفاء سريرةٍ ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فأم الذي آمنت آمنة الردى ... وأم الذي حاولت بالشكل ثاكل

فاستحسن المنصور شعره وقال له سل حاجتك قال تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إذا أتى بي إليه وأنا سكران وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب كثير السكر - فقال له المنصور هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله قال فاحتل لي يا أمير المؤمنين فكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة من أتاك بإبراهيم بن هرمة وهو سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين فكان الشرطي يمر به وهو سكران فيقول من يشتري ثمانين بمائة ويمضي لطيته ولا يعرض له بشيء.

ليلة أكتوبر

بقلم شاعر الشبيبة الخالد الفرد دي موسيه

الشاعر

لقد طار العذاب الذي عانيته طيران الحلم، وتبدد ألمي كالطيف. ولست مستطيعاً تشبيه ذكراه اليغيدة، وآثاره المتنائية، إلا بالسحائب الخفية، الرقيقة الوشائح والحجب إذ يرفعها الفجر، ويزيحها السحر، فتهرب مع الندى، وتختفي مع القطر.

إلاهة الشعر

ولكن أيها الشاعر أنبئني قبل أن تبسط لي ألمك، هل أنت منه أبللت، وهل أنت من الأسى قد تعافيت. ليكن كلامك الآن بلا حب ولا بغض، واذكر أنك أسميتني من قبل معزيتك، ومنحتني الاسم العذب الجميل وهو أنيستك إذن فلا تجعل مني شريكة في العواطف التي أساءت إليك ولا تحملني تهمة جرم الجانحة التي أضاعتك.

الشاعر

لقد شفيت من المرض، وخرجت من العلة، حتى لقد أشك في أنني كنت بها يوماً مريضاً، ولبثت دهراً بها عانياً مهموماً، وإذ أنا أفكر في الأماكن التي جازفت فيها بحياتي، والعهود التي خاطرت عندها بعيشي، لا أتصور في مكاني إلا رجلاً غريباً عني لا أعرفه، ووجهاً عني مجهولاً لم أنظر إليه. فلا تخافي إلاهة الشعر ولا تجزعي. وهلمي على خفقات أنغامك التي توحي إلي بها، وأنفاس لحنك التي تنفخينها، نتجاذب في هدوء أطراف الحديث ونتسار بلا خشية أسرار الأفئدة ونبكي لذكرى الهموم، إذ البكاء جميل، ونبتسم لحديث الأحزان، إذ الإبتسامات عذبة مروحة مطهرة.

إلاهة الشعر

إني لأحتضن قلبك الذي أغلقته دوني، وأميل على هذا الفؤاد الذي حجبته عني، كالأم الرؤوم الحنون، تسهر عند مهد ابنها المحبوب، وسرير طفلها المعزز. تكلم يا صديقي وأفض. إن قيثاري المتنبه المستمع سيتبع نبرات صوتك في لحن خافت أجش حزين، حتى تتولى ظلمات الماضي في ظل خيط من الضياء أشبه شيءٍ بشبح عارض يمضي مسرعاً هارباً

الشاعر

أي أيام العمل. . . أي زمن الجهد والدأب أيتها الأيام التي أحسست فيها وحدها أنني أعيش، وحقاً أحيا. أيتها العزلة العزيزة المحببة، حمداً لك الله وشكراً، إذ عدت إلى حجرتي المهجورة، ورجعت إلى معهد درسي القديم المنبوذ، أيها المكان الفقير المعتزل الساكن، يا جدران بيتي الصامتة الفريدة المقفرة. يا مقاعدي التي عدا عليها التراب، يا مصاحبي الصادق المخلص الأنيس. . أي قصري وعالمي الصغير وأنت يا ربة الشعر. يا رفيقتي الأبدية الصغيرة، حمدك رب وشكرك، ها نحن عدنا نتغنى سوية ونصدح، وجئنا معاً نتباكى ونترنم. إذن فإليك الآن أفتح مغاليق فؤادي، وأمامك أرفع الحجب المخطرفة فوق جانحتي. وستعلمين كل شيء، وتعرفين أي ألم تستطيع المرأة أن تضرم ناره، وأي شر تستطيع أن تحدثه، لأن مصابي، يا صحابتي، كما تعرفون، من امرأة. امرأة واحدة صغرت لها وخضعت، صغار العبد لسيده، وخضوع الرقيق لمولاه. أيها السلطان المستبد. أيها النير المطلق، أيها السيد اللعين الجبار، إنه منك وحدك قد فقد فؤادي قوته، وأضاع لديك شبابه، وأسرف على نفسه. ولكن لا أكتمك إني قد رأيت السعادة على مقربتها، وشهدت البهجة في جنابها، وكنا عن كثب من الجدول الفضفاض نسير معاً، في هدأة المساء، فوق الرمل الفضي، نستهدي أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، ونسترشد بها عن بعد منحدر السبيل، وإذ أرى على ظل القمر وخيوط البدر هذا البدن الجميل متثنياً بين ذراعي. ولكن حسبي وكفى كلاماً. . . . . . . . . . . . إنني لم أتنبأ بالخاتمة، ولم أكن أعلم الغاية. ولم أتصور في أضعاف القدر خفي النية. إن غضب الآلهة ولا ريب كان يطلب فريسة، وحنقها كان يسأل فدية، إذا عاقبتني وعدتني مجرماً إن حاولت أن أكون سعيداً.

إلاهة الشعر

إن صورة الذكرى الحلوة قد عادت تتفتح لذهنك، وتتجلى لخاطرك. فعلام تخشى أن تعود إلى الأثر التي تركته في نفسك، والجزء الجميل الذي أحدثته في فؤادك. أإنكاراً للأيام الجميلة، وكفر بالعهود الناضرة، وأنت تريد أن تقص القصة صادقة، وتشرح همامة نفسك إخلاصاً وأمانة، أيها الإنسان الفتي الصغير إذ كان حظك قاسياً، ونصيبك محزناً آسياً. إذن فابتسم لحبك الأول، وليومض ثغرك للهوى القديم.

الشاعر

كلا. إنني أتباسم لآلامي، وأتضاحك لعذابي يا إلاهة الشعر. إني أريد أن أقص عليك خيبتي وأحلامي وهذياني، بلا تأثر ولا حزن، غير ذكر الزمن، ولا شارح المكان، ولا باسط الفرصة والعهد. . . في ليلة من ليالي الخريف، في ليلة قرة متجهمة، أشبه بليلتنا هذه وإليها أقرب، وأنة الريح، وحشرجة الهواء في رأسي الملتهب. وذهني المتعب. تشق صميم همي، وتنفذ إلى جوف حزني، وكنت لدى الناقدة على مرتقب عشيقتي، أتسمع في هذه الظلمة المنتشرة السائدة خفق قدمها وحفيف ثوبها وأنا أحس في نفسي حزناً غريباً. ومصاباً أليماً، إذ ثارت ريبة الخيانة في خاطري، ووسوسة الغدر في ضميري، وكان الشارع الذي أسكنه قفراً مظلماً. ورأيت أشباحاً تروح، وأبصرت أشباحاً تمر، وريح الصبا تنفذ من بين شقتي الباب، وكأن في عزيفها أنة إنسانية، وفي زفيفها آهة نفسانية، ولا أدري لماذا أحسست روحي تجري في سبيل الشك، وتندفع إلى توقع الشر، وأنا أجاهد شجاعتي، ولكن لم ألبث أن شعرت بالرعدة تسري في جميع بدني، إذ الساعة آذنت، وإذ دقات الزمن توالت، وهي بعد لم تعد، وطلعتها لم تقتبل، وجعلت أجيل البصر وحيد، مطرق الرأس، منكس الجبين إلى فسحة الطريق، ومرمى السبيل. وأنا لم أنبئك بعد أي هيام مجنون أرسلت هذه المرأة في نفسي، وأي نار طائشة هوجاء أضرمت في وجداني. ولم أكن أحب غيرها في نساء الدنيا، وكنت أتصور اليوم الذي أعيشه بدونها قدراً أروع من الموت، وفاجعة أشد إرعاباً من الفناء وإذ ذاك جعلت أجهد نفسي إن أقطع بيننا الرابطة، واستحث فؤادي على أن أبدد العلاقة، ورحت في ضميري أدعوها مائة مرة الفاسدة، ونعتها الغادرة الخائنة، ورجعت إلى سجل آلامي التي عاينتها منها. أستعيدها ألماً ألماً، وأذكرها عذاباً عذاباً، واأسفاه!. . عند ذكرى جمالها المشؤوم. وحسنها المميت، أي ألم لم يهدأ، وأي حزن لم يسكن وأي غضبة لم تفتر وتهن. . .!

وبدأ الصبح، وأشرق النور. . . وأنا لا أزال عند الشرفة متعباً من الإنتظار، ذابل الجفن من أثر التهويم، ففتحت عيني أستقبل بها الفجر الوليد، ورفعت محجري أشهد اليوم الواثب من مهده، وتركت بصري الزائغ يمرح في الطريق ويدور، ولكني لم ألبث أن سمعت وقع أقدام عند منعطف السبيل، وملتف الشارع الصغير. أي إله السموات. أي رب العظيم. إذ بي أراها هي بنفسها. أواه هذه هي قد دخلت بيتها. . . من أين كانت قادمة. . . ماذا كانت تصنع الليلة. . . أجيبي من الذي يقودك هذه الساعة، في أي مكمن رقد لي الصباح هذا البدن الجميل. وفي أي فراش امتد هذا الجسم البض الناعم وأنا عند الشرفة مسهد العين، وحيداً، ندي الجفن. أنبئيني في أي سرير، وأي خلوة، وأي مضطجع. من كان الساعة يشهد ابتساماتك، ويرى مشرفة أساريرك، إلى أي رجل كنت تضحكين، وأي فتى كنت تقبلين، أيتها المرأة الملوثة. أيتها الوقاح الفاسدة. أتراك جئت تعرضين فمك للثماتي، ورضابك لرشفاتي. . . ماذا تريدين مني، وماذا تسألين. أي ظمأ مخيف بعثك الآن على أن تأخذيني بين ذراعيك العاطشتين، وتحتضنيني بين ساعديك الظامئين الناضبين. أيتها المرأة الخائنة اذهبي عني. . . ويا شبح عشيقتي انطلق مبعداً قصياً. ادخل قيرك الذي منه نشرت، وحفرتك التي منها بعثت. دعني أنسى إلى أبد الأبدين شبابي، وإذا أنت يوماً هجت بي الذكرى، وعدت إلى الفكرة، فلا تصور أنني تصور أنني في منام، ولا تخيل إنني في حلم.

إلاهة الشعر

هون عليك يا شاعري إني استحلفك، ورفقاً بنفسك إنني أتوسل إليك. لقد أرعدني كلمك وأزعجني حديثك: حديثك. أي فتاي المحبوب. إن جرحك لا يزال يريد أن ينتقض. ولا يزال يطلب أن ينفتح. وا أسفاه. إنه جرح ولا ريب عميق، وطعنة ولا شك نجلاء وكذلك جراحات الحياة ما إن تزل بطيئة البرء، وهموم هذه الدنيا متوانية الشفاء، فعليك إذن بالنسيان واطرد من روحك اسم هذه المرأة، وامح من صفحة نفسك أثر هذه الغادرة.

الشاعر

اللعنة عليك أيتها المرأة الأولى التي علمتني عذاب الهجر، ولقنتني نقيضة الخيانة والغدر. وذهبت بعقلي رعباً، وأطارت لبي حنقاً وغضباً، خزياً لك وعاراً يا ذات العين الظمياء التي قبر حبها المشؤوم فصل الربيع من حياتي - ودفن أيامي الحلوة الحسناء، يا من صوتها وابتسامتها ورنوتها الخادعة، ونظرتها الغاوية علمتني أن أذم السعادة، وألعن الراحة والهناء، ويا من شبابها ومفاتنها بعثتني على اليأس، إذا كنت الآن أشك في صدق الدموع وأستريب لغة العبرات، فذلك أني رأيتك تبكين وألفيتك تذرفين ماء الشؤون وتجهشين. خزياً وعاراً أيتها المرأة. إذ كنت أشد بلاهة من الطفل، وأنقى ذهناً من الوليد، وإذ كان فؤادي متفتحاً لحبك كالزهرة للفجر،. . . بعداً لك أيتها المرأة وضلة. . . أنت أم أحزاني وأنت والدة همومي أنت جعلت جفني للدموع عيناً وجعلت عيني للبكاء مصباً ومصدراً ولكن ثقي أنها الآن تسح وتنهمل، لا حاجز يحجزها، ولا مانع يكفكفها. إنها تخرج من جرح عميق لااندمال له، ولكني من هذه العين الثرة، والصدر المنهمر، والسيل السخين المر، سأغتسل الآن وأتطهر، ثم أنفض عني ذكراك المرعبة، وأنطلق من أثرك الكريه المرذول.

إلاهة الشعر

حسبك أيها الشاعر حسبك. إذا كان وهمك في هذه الخائنة لم يلبث إلا يوماً واحداً، فلا تفسده إذ تتكلم عنها، ولا تشنه إذ تنبئني نبأها.

أيها الشاعر، أحترم حبك إذا أردت أن تكون محبوباً وإذا عز على الضعف الإنساني أن يغفر عن الآلام التي نالته من غيره، ووقعت به عن يد سواء، إذن فأغن عن نفسك ألم الحقد، وتحرج من الضغينة.

وإذا لم تجد في نفسك القدرة على العفو والغفران. فاستقبل عنه العزاء والنسيان. إن الموتى يرقدون بسلام في جوف الأرض، ويضطجعون في أحشاء الغبراء، إذن فلترقد كذلك عواطفنا المنطفئة، وليدفن جبنا الخامد، فإن لرفات القلوب ترابها. ولأشلاء الأفئدة رغامها، وخليق بنا أن لا نمس مضاجعها المقدسة أو نلمس بأيدينا مواقدها المباركة.

أيها الشاعر، لماذا تريد، أن لا ترى في قصة عذابك الأليم إلا حلماً موهوماً، وحباً مخدوعاً، وهوىً كاذباً، أتظن العناية الإلهية لا غرض لها من تعذيبك، ولا باعث لها على ألمك، وهل ترى في نكبتك مسرة لله الذي نكبك، ألا تعلم أيها الطفل أن الضربة التي منها تشكو وتئن قد أفادتك وحفظتك، لأن فؤادك من الضربة تفتح، ومن العذاب نضج.

أيها الشاعر. إن الإنسان طفل والحزن معلمه، ولن يتهذب حتى يحترق بنار الألم، ويخبز في موقدة العذاب، تلك شريعة صلبة قاسية، ولكنها سنة عالية سامية، قديمة كالعالم، عتيقة كالقدر، وكما ترى الحبوب لا تنضج إلا بالري والسقاء، تشهد الإنسان لا يعيش ويحس إلا بالدموع والبكاء.

أيها الشاعر ألم تقل أنك من جنتك قد أبللت ومن نزقتك قد أثبت، ألست فتى في مطارف الشباب، ومنعماً في إبراد الهناء، ومحبباً مكرماً في كل مكان، فهل كنت تعرف هذه المباهج الناعمة، والمسرات الرفيعة، لو أنك لم تذرف قبلها دمعاً، وتسكب أول أمرك عبرات وشؤوناً. لعمرك نبئني، هل كنت من فرح ترفع الكأس المترعة إلى شفتيك، عند منحدر النهار، على ضفاف النهر، بجانب صديق قديم، في مائدة خمر وشراب، لو لم تدفع من قبل ثمن هذا الفرح، وتقضي حق هذا السرور، خبرني هل كنت ستحب الأزاهر وتهوى الحقول النواضر، وأناشيد بترارك وأغنيات الأطيار، وصور ميشيل أنجلو، والفنون الرفيعة، وشكسبير والطبيعة، لو لم تجد في خلالها أنات قديمة وشهيقاً، وتشهد في أضعافها نحيباً وعويلاً، وهل كنت مدركاً من طلعة السموات الإنسجام المعجز، والإئتلاف المدهش وسكون الليل، وخرير الموج، لو لم تسهد عينك ليلة فبت للنجوم راعياً، ولم لم تصبك الحمى فبعثتك على تخيل الراحة الأبدية.

ليت شعري. أليس لديك الآن عشيقة حسناء، وخليلة فاتنة، وإذ تشد على يدها. عند الوداع، ألا ترى ذكرى آلام شبابك الأول تجعل ابتسامتها المقدسة أشد روعة، وأعذب تأثيراً، وأفتن نعمة، ألا تذهبان في أعماق الغابات المزهرة متنزهين، ألا تنطلقان الآن ذراعاً لذراع في صميم الأحراش اليانعة متصاحبين، ألا تمشيان فوق الرمل الفضي مختليين، ألست الآن وعشيقتك الحاضرة تسيران معاً وكما كنت العشيقة الأولى - في هذا الصرح الأخضر الناضر، تستهديان أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، وتسترشدان بها عن منحدر السبيل، ألا ترى الآن، كما كنت من قبل، على ظل القمر وخيوط البدر، بدناً جميلاً متثنياً بين ذراعيك، إذن فعلام الشكوى، ولم الصراخ والأنين وقد نشر بفضل العذاب أملك الخالد، وأبل على يد العذاب رجاؤك الأبدي، وعلام إذن تحقد على التجربة الأولى، وتكره شراً جعلك خيراً مما كنت، ومصاباً هذبك وسما بك.

أي بني العزيز. لتشكر هذه الخائنة الحسناء التي أرسلت عبراتك، واحمدها أن أسالت ماء فؤادك. ألا أشكرها إنها امرأة، وقد قربها الله إليك لتحسن بعد العذاب سر العداء، وكان واجبها شاقاً، ومهمتها معذبة مؤلمة، ولعلها كانت تحبك، ولعلها كانت مولعة بك، وكانت تعرف الحياة، فعلمتك، وكانت بها خبيرة، فلقنتك، ثم جاءت امرأة أخرى فقطفت ثمر ألمك، وحظت منك بنتاج حزنك. أي طفلي العزيز. أشكرها. فإن حبك المحزن المخيب قد زال كالحلم، وثق أن دموعها لم تكن كذباً، وعبراتها لم تكن خدعة، أشكرها يا بني إنك تعرف إذ ذاك تحب. . . .

الشاعر

لقد قلت حقاً، إلاهة الشعر، ونطقت صواباً، إن الحقد شر، والبغضاء إثم، تثير رعدة مخيفة، ورجفة مرعبة، إذ ينتشر في الفؤاد دخانها، ويتصاعد في أعشار القلب بخارها، إذن فاستمعي إلي أيتها الإلهة وأنصتي، ثم لتقومي شهيداً على قسمي، عيناً ليميني.

أقسم يا ربة الشعر بعيني عشيقتي الزرقاوين، ولون السماء المصحية، بتلك الشعلة المتوهجة، والشرارة الساطعة التي يسمونها نجمة الزهرة. . . بعظمة الطبيعة، ورحمة الخالق، بالضياء النقي الطاهر الذي يرسله النجم لهدى الساري، ومفتقد الطريق بأعشاب المرعى، وسرحات الغاب، بالحقول الخضراء، والمروج الفيحاء، بقوة الحياة، وجلال الكون،. . . . أقسم يا أشلاء حبي القديم، وبقية غرامي الطائش المجنون. إني سأباركك في ذاكرتي، ويا أيتها القصة المظلمة الموحشة الراقدة في مضاجع الماضي المنسي الذاهب، إني سأقدسك في ثنايا ذهني وخاطري ومخيلتي، وأنت يا من حملت من قبل اسم العشيقة، ولقبتك لقب الحبيبة الصديقة، لتكن اللحظة السامية التي فيها أنساك، لحظة العفو والغفران.

إذن إلى الغفران، إذن إلى العزاء والصفح، إني الآن، أقطع رابطة الفتنة التي ربطتنا معاً أمام الله. وبدمعة متحدرة، دمعتي الأخيرة، أقرئك الوداع المستديم، وأتلقى منك الفراق الخالد.

والآن هلمي يا ربة الشعر، وتعالي أيتها الشاعرة الحسناء، نعود إلى الحب، ونتطارح ذكر الهوى. . . . وأسمعيني أغنية منك بهيجة مفرحة، كما كنت تطربينني في أيامي الأولى الراغدة، وزمني الماضي الجميل. وهذه نفحات الحقول، وعقبات الأزاهر، تنم عن مقرب الصباح، وتكشف الغطاء عن مطلع الضياء.

تعالي يا ربة الشعر أيقظي الحبيبة الجديدة من منامها، واجمعي أزهار الحديقة، واقطفي ورود البستان، تعالي انظري الطبيعة الخالدة تخرج من كلة النوم. تعالي نعود إلى الحياة في منبثق أول خيط من خيوط الشمس.

نصيحة

للشاعر محمود باشا البارودي

بادر الفرصة واحذر فوتها ... فبلوغ العز في نيل الفرص

واغتنم عمرك إبان الصبى ... فهو إن زاد مع الشيب نقص

إنما الدنيا خيال عارض ... قلما يبقى وأخباراً تقص

تارةً تنجو وطوراً تنجلي ... عادةً الظلل سجا ثم قلص

فابتدر مسعاك واعلم أن من ... بادر الصيد مع الفجر قنص

لن ينال المرء بالعجز المنى ... إنما الفوز لمن هم قنص

يكدح العاقل في مأمنه ... فإذا ضاق به الأمر شخص

إن ذا الحاجة ما لم يغترب ... عن حماه مثل طير في قفص

وليكن سعيك مجداً كله ... إن مرعى الشر مكروه أحص

واترك الحرص تعش في راحة ... قلما نال مناه من حرص

قد يضر الشيء ترجو نفعه ... رب ظمآن لصفو الماء غص

ميز الأشياء تعرف قدرها ... ليست الغرة من جنس البرص

واجتنب كل غبي مائق ... فهو كالعير إذا جد قمص

إنما الجاهل في العين قذي ... حيثما كان وفي الصدر غصص واحذر النمام تأمن كيده ... فهو كالبرغوث إن دب قرص

يرقب الشر فإن لاحت له ... فرصة تصلح للختل فرص

ساكن الأطراف إلا أنه ... إن رأى منشب أظفور رقص

واختبر من شأت تعرف فما ... يعرف الأخلاق الأمن فحص

هذه حكمة كهلٍ خابر ... فاقتنصها فهي نعم المقتنص

طرفة تاريخية

المساواة في الإسلام

حديث جبلة بن الأيهم

حدث المؤرخون قالوا: لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني - وكان من ملوك آل جفنه - كتب إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه فسر عمر رضوان الله عليه وأمر الناس باستقباله وبعث إليه بأن زال وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير وركبوا الخيول معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطة مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم يبقى بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطف وأدنى مجلسه ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة فبينما هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري فاستعدي عليه عمر رضوان الله عليه فبعث إلي جبلة فأتاه فقال ما هذا قال نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمد حل أزراري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد أقررت فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم أنفه كما فعلت قال وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك قال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله بشيء إلا بالتقي والعافية قال جبلة قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية قال عمر دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك قال إذن أتنصر قال إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال أنا ناظر في هذا ليلتي هذه وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا أذن له عمر في الإنصراف حتى إذا نام الناس وهدأوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع فلما انتهى إلى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه فسر هرقل بذلك جداً وظن أنه فتح من الفتوح عظيم وأقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزل ما شاء وجعله من محدثيه وسماره.

ثم أن عمر رضي الله عنه بدى له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز وإلى الإسلام ووجه غليه رجلاً من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الإنصراف قال له هرقل هل رأيت ابن عمك الذي جاءنا راغباً في ديننا قال لا قال فألقه قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أرى بباب هرقل مثله فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سرير من قوارير قوائمه أربعة أسد من ذهب وإذا هو رجل أصهب ذو سبال وعثنون وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح فما رأيت أحسن منه فلما سلمت رد السلام ورحب بي وألطفني ولامني على ترك النزول عنده ثم أقعدني على شيء لم أثبته فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال مالك فقلت إنا رسول الله نهى عن هذا فقال جبلة أيضاً مثل قولي في النبي حين ذكرته وصلى عليه ثم قال يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ما جلست عليه ثم سألني عن الناس وألح في السؤال عن عمر ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه فقلت ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام قال أبعد الذي قد كان قلت قد ارتد الأشعث من قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام فتحدثنا ملياً ثم أومأ إلى غلامٍ على رأسه فولى يحضر فما كانت إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه فوضع أمامي خوان خليج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها فلما فرغنا دعى بكأس من ذهب فشرب منه خمساً عدداً ثم أومأ إلى غلام فولى يحضر فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلى فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسة من ورائي فإذا أنا بعشرٍ أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة وفي يده اليمنى جام فيه مسك وعنبر وقد خلط وأنعم سحقهما وفي اليسرى جام فيه ماء ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتعك بين جناحيه وظهره وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة ثم قال للجواري أطربنني فخفقنا بعيدانهم يغنين:

لله در عصابةً نادمتهم ... يوم بجلق في الزمان الأول

بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم ... شم الأنواف من الطراز الأول

يغشون حتى ما نهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل

فاستهل واستبشر وطرب ثم قال زدنني فاندفعنا يغنين:

لمن الدار أقفرت بمعانٍ ... بين شاطئ اليرمول فالصمان

فحمى جاسم فأبنيةالصف ... رمغنى قبائل وهجان

فالقريات من بلاس فداريا ... فكاء فالقصور الدوان

ذاك مغنى لآل جفنة في الدار وحق تعاقب الأزمان

قد دنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعاً أكلة المرجان

لم يعللن بالمغافير والصم ... غ ولا نقف حنظل الشريان

قد أراني هناك حقاً مكيناً ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني

فقال أتعرف هذه المنازل قلت لا قال هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله قلت إما أنه مضرور البصر كبير السن قال يا جارية هات فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج فقال ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام ثم راودني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه أبكينني فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن قوله:

تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قال لي عمر ويا ليتني أرعى المخاض بدمنةٍ ... وكنت أسير في ربيعةٍ أو مضر

ويا ليت لي بالشآم أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي ذهب السمع والبصر

ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلمت عليه وانصرفت فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها فقال أورأيت جبلة يشرب الخمر قلت نعم قال أبعده الله تعجل فانية لإشتراها لباقية فما ربحت تجارته فهل سرح معك شيئاً قلت سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج فقال هاتها وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنى فسلم وقال يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة فقال عمر رضي الله عنه قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وأتاك بمعونة فانصرف عنه وهو يقول:

إن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغذهم آباؤه باللوم

لم ينسني بالشآم إذ هو ربها ... كلا ولا متنصراً بالروم

يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم

وأتيته يوماً فقرب مجلسي ... وسقي فرواني من الخرطوم

فقال له رجل أتذكر قوماً كانوا ملوكاً فأبادهم الله وأفناهم فقال ممن الرجل فقال مزني قال أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله لطوقتك طوق الحمامة وقال ما كان خليلي ليخل بي فما قال لك قل قال إن وجدته حياً فادفعها إليه وإن وجدته ميتاً فاطرح الثياب على قبره واتبع بهذه الدنانير بدناً فأنحرها على قبره فقال حسان ليتك وجدتني ميتاً ففعلت ذلك بي.

قطعة من فلسفة شوبنهور

(1)

الإستقلال الذهني

مكتبة صغيرة منظمة خير من عظيمة مشوشة وكذلك مقدار صغير من الأفكار قد نظم وركب في ذهن صاحبه خير من أكبر كمية من أفكار مشوشة قد جيء بها من ههنا وههنا.

الإنسان قادر باختياره على القراءة والتحصيل ولكنه غير قادر على التفكير. وإنما يشعل التفكير ويشب كما توقد النار بتيار من الوحي وزكي لهيب التفكير بالرغبة كما يزكي لهيب النار بمنفاخها. وهذه الرغبة إما أن تكون خارجية أي غير ذاتية (ويراد بهذا النوع من الرغبة ذلك الذي يبعث الإنسان على الإهتمام بكل شيء خارج عن نفسه لاستطلاعه وبحثه والتفكير فيه والكتابة عنه) أو تكون رغبة باطنية أي ذاتية (وهي التي تغذي الإنسان بالتفكير في ذاته وأحواله الشخصية والكتابة عن تجاربه وأحواله وعواطفه) وهذه الرغبة الثانية هي التي عنها يكتب معظم الكتاب. أما الأولى فهي مزية الفئة القليلة منهم أعني الفحول الذين هم مفكرون بالفطرة فالتفكير فيهم غريزة كالتنفس لكل ذي رئتين.

القراءة تدفع في الذهن أفكاراً قد تكون منافية لحالته أثناء القراءة منافية طابع الحديد للشمع اللين الذي يطبع بذلك الطابع. فترى أن الذهن يكابد في هذه الحالة أشد الإكراه والضغط من الخارج. وذلك أنه يرغم على التفكير في هذا المعنى ثم في ذلك مما لا رغبة له في ساعته.

وعلى العكس من ذلك إذا شرع الإنسان يفكر لنفسه فإنه لا عدو مجاراة خاطرة ومسايرة وجدانه مما قد أثاره في نفسه إذ ذاك شيء من الأشياء المحيطة به أو هاتف من هواتف الذكرى. ونحن لا ندعي أن المناظر المحيطة بالإنسان قادرة أن تنقش على صفحات ذهنه فكرة واحدة معينة محدودة كما تنقش القراءة ولكننا نقول أن المناظر المحيطة تمده بالمواد والبواعث على أجله الفكر فيما هو مجانس لطبيعته مؤتلف مع مزاجه في تلك اللحظة وهذا هو السبب في أن كثرة القراءة تسلب الذهن كل ما به من صفات المرونة واللين والرخاوة التي تجعله طيعاً في قبضة صاحبه يصرف عنانه كيف يشاء وكالعجينة يكيف شكلها كما يريد. ويكون الذهن في حالة إدامة القراءة وعد التفكير كاللولب الذي تبقيه مضغوطاً على الدوام تحت ثقل عظيم وعلى ذلك فإذا كان أحد الناس لا يريد التفكير فأحسن طرقة هو أن يتناول كتباً فيقرأ كلما وجد نفسه خلواً من العمل.

وهذا هو السبب في أن العلم يجعل أكثر أربابه أشد بلادة وحمقى مما كانوا بفطرتهم ويكلل مؤلفاتهم بالخيبة ويحرمها النجاح ويجعلهم كما قال الشاعر بوب لا يزالون يقرأون ثم لا تقرأ لهم كلمة.

العلماء هم الذين أطلعوا على محتويات الكتب أما المفكرون والنوابغ والأعلام الذين قادوا وأرشدوا فهم الذين قرأوا كتاب الكون وقلبوا صحائف الوجود.

وواقع أنه لا صدق ولا روح إلا في الأفكار التي نشأت واختمرت في ذهن الإنسان نفسه. إذ أن هذه الأفكار وحدها هي ما يفهمها المرء تماماً ويحيط بكنهها. فأما قراءته أفكار غيره فهي كتناوله بقايا طعام غيره أو لبسه منبوذ ثياب شخص سواه.

وأن نسبة الفكرة التي تقرأ إلى الفكرة التي تنبع من تلقاء ذاتها في ذهننا لهي كنسبة الأثر المتحجر من نبات كان في جاهلية الزمن (العصور السابقة للعصور التاريخية) إلى النبات الذي نراه بأعيننا غضاً مورقاً مونقاً.

هذا وأن كثيراً من الكتب لا تعدوا كونها مجاهل ومتائه وأن من عمل بها فإنما يركب متن الضلال ويلج في سبل الباطل، أما من استرشد بعقله أعني من فكر لنفسه وكان ذا بصرٍ فذلك يملك البوصلة التي تهديه المنهج القويم فيجب على المرء أن يقرأ إلا إذا غاض ينبوع فكره. وهذا كثير الحدوث حتى لأكبر المفكرين.

(2)

المرأة

قد قلدت الطبيعة المرأة وظيفة تربية الأطفال لأن المرأة بفطرتها صبيانية الذهن قصيرة النظر حمقاء. أو بعبارة أخرى هي طفلة طول حياتها - هي شيء بين الطفل والرجل (صاحب الرجولة التامة). انظر إلى الصبية كيف تقضي اليوم أثر اليوم في ملاعبة طفل صغير ترقص معه وتغني له. ثم تصور لو أن صبياً كان مكانها مع الطفل فماذا كان يصنع؟ أكان يصنع مثلها؟

الطبيعة تهب الفتاة حظاً وافر من الحسن والملاحة لمدة بضعة أعوام قلائل أثناء الشباب ثم تسلبها بعد ذلك الجمال والسر في ذلك هو أن الطبيعة تمد الفتاة في تلك البرهة بالسلاح اللازم لاقتناص رجل يكون عائلاً لها وقائماً بشؤونها وحافظاً لحياتها. حتى إذا تم لها ذلك نزعت الطبيعة عنها ذلك السلاح. فالطبيعة تبدي في ذلك مبدأها الإقتصادي المعهود. وهو تقديم ذخائرها لأبنائها وقت الحاجة فقط. فشأنها في ذلك كشأنها مع النملة الأنثى متى حملت الجنين فقدت أجنحتها إذ لا لزوم للأجنحة بعد ذلك بل ربما كانت عقبة لها في سبيل تربية النسل. وكذلك تفقد المرأة جمالها بعد ولادتها مرة أو اثنتين لعله لعين ذلك السبب.

وكذلك نرى أن الفتاة تعتقد أن شؤونها المنزلية والعائلية إنما هي مسائل ثانوية بل ربما عدتها تافهات يسخر منها ويهزأ أما المسائل الجوهرية والأمور الأساسية لديها فهذه هي الحب والمغازلة واقتناص القلوب وكل ما يدخل تحت ذلك من ضروب الحلى والزخرف وصنوف اللهو والرقص وما شاكلها.

لا يخفى أنه على قدر عظم الشيء وشرفه وكماله يكون بطء تكونه وطول مدة نمائه فالرجل لا ينضج عقله قبل الثامنة والعشرين من عمره. أما المرأة فتبلغ ذلك في الثامنة عشرة. ولكن عقلها ضيق النطاق قريب النظر. وهذا هو السبب في أنها تبقى طفلة طول عمرها لأنها لا ترى من الأمور إلا ما بين يديها ولا تتعلق إلا بالحاضر وتغتر بالظواهر فتحسبها حقائق وتؤثر الحقير على العظيم والتافه على الجسيم. وإنما بفضل العقل الراجح ترى الرجل لا يقصر نظره على الحاضر بل يمده إلى المستقبل والماضي ومن ثم ينشأ الحزم والتبصر والتدبير مما يمتاز به الرجال على النساء. وقلة اهتمام المرأة بالمستقبل هي التي تغريها بالتبذير المجاوز كل حد - المشرف على الجنون. فهي تحسب أن الرجل ما خلق إلا ليكسب لها المال وإنها لم تخلق إلا لتبدده.

المرأة مجردة من صفة العدالة والإهتداء إلى الحق ولذلك سببان - الأول هو ضعف الإدراك وقلة التبصير اللذان أشرنا إليهما آنفاً. والثاني هو أن الطبيعة لما وهبتها الضعف والوهن جعلت سلاحها المكر لا القوة. وهذا سبب ما ترى للمرأة من الكيد والحيلة وتأصل رذيلة الكذب في طباعها. وكما أن الأسود قد زودت بالمخالب والفيلة بالأنياب والثيران بالقرون فكذلك المرأة قد زودت من الطبيعة سلاحاً تدافع به عن نفسها - هذا السلاح هو الرياء - فالرياء في المرأة يقوم مقام قوة الجسم والعقل في الرجل. ولذا فالرياء هذا خلق غريزي في المرأة تستوي فيه الذكية والبليدة. فمن البديهي إذن أن تلجأ المرأة إلى الرياء عند الحاجة مثلما تلجأ الحيوانات الآنفة الذكر إلى أسلحتها التي أشرنا إليها عند الضرورة. ومن ذلك ينتج أن المرأة الصادقة التي لا ترائي هي إحدى المستحيلات. وينتج أيضاً ما قد عرف عن المرأة من سرعة استكشافها خلق الرياء في الرجل. ولا عجب فإن من يحاول إجازة الرياء على معدن الرياء لكمن يهدي المطر إلى السحاب فمن الحماقة والأمر هكذا أن يسلك الرجل مع المرأة سبيل الرياء ومن هذا الخلق (أعني الرياء) ينشأ ما يعرف عن المرأة من صفات الكذب والغدر والخيانة ونكران الجميل وهلم جرا. وقد ثبت في سجلات المحاكم أن النساء أكثر ارتكاباً لجريمة الحنث من الرجال ومما يشك فيه جواز تحليفهن اليمين وقبول شهادتهن وتشهد سجلات القضاء أيضاً أن قد يصادف من حين إلى آخر المرأة الغنية الممتعة بكل ما تشتهي وهي مع ذلك تعمد إلى الأمتعة في حوانيت الباعة فتسرقها.

وما كان قط لمن له مسكة من العقل أن يسند ذلك الإسم الجميل الجنس اللطيف لذلك الجنس الدميم الضئيل الضيق المنكبين العريض الكفل القصير الرجلين. فإن هذه المقابح هي جل محاسن ذلك الجنس. وأقرب إلى الحقيقة أن يسمين الجنس المعادي للجمال لجهلهن بالفنون الجميلة - الشعر والموسيقى وما يجري مجراهما. فإنهن لا طبيعة لهن البتة ولا استعداد ولا ميل ولا إدراك لشيء من هذه الفنون. فإن رأيت منهن تعلقاً بشيء منها فما هو إلا إدعاء باطل إذ يتخذن إحدى هذه الفنون ذريعةً للتقرب من الرجال قصد اصطيادهم. والحقيقة أن المرأة لا يهمها شيء سوى الرجل فميدانها الرجل وغايتها الرجل. والقلعة التي تريد مهاجمتها والإستيلاء عليها هي الرجل. ولذا فالرجل يجوز العلوم وهي تحوز الرجل. فإذا رأيتها تحاول إحراز شيء من الفنون فإنما تفعل ذلك لإحراز الرجل. فاشتغالها بالطلب والدراسة نفاقٌ ورياء ومن ثم قال روسو المرأة بوجه عام لا رغبة لها في الفنون ولا تفهم العبقرية ولا تملكها. . والذي لا يغتر بالظواهر لا بد أن يكون قد عرف ذلك في النساء. ومن لم يكن قد أطلع على ذلك الخلق فيهن فما عليه إلا أن يراقب حركاتهن في دار التمثيل أو في دار الموسيقى. فإنه إذا رأى اشتغالهن أثناء أبدع الفصول وأعجبها وطربها وأغربها بصنوف الأحاديث الصبيانية من فصول القول ولغو الكلام علم مقدار فهمهن للفن. . ولنعم ما كان قدماء اليونان يصنعون من منع النساء حضور التمثيل. فإن ذلك السبيل الوحيد لاستطاعهم سماع الموسيقى وألفاظ الممثلين. ولعله قد يحسن في أيامنا هذه أن يكتب على ستار المسرح ممنوع الكلام بحروف كبيرة.

ولا عجب فيما قد أوردناه ههنا من سوء انصراف النساء عن محاسن الفن إذا ذكرنا أن أعظم مشاهير النساء لم يخرجن قط للعالم من المؤلفات ما هو حقيق أن يعد في الطبقة الأولى من نتائج الذهن البشري وأبين ما يشاهد هذا في فن التصوير الذي قد عرف أن جزأه العملي هو سهل التناول على المرأة والرجل على حد سواء. فهن لهذا يتهافتن على الإشتغال بالتصوير. ومع ذلك فلست ترى لأنثى قط صورة مشهورة يصح مقارنتها بثمرات أنامل كبار الفن من الرجال. وذلك لتجردهن من الملكة التصويرية التي هي أس النجاح في ذلك الفن وإنما أقوى الملكات فيهن هي الملكة الوجدانية أي المنصرفة إلى ذاتية الإنسان ومتعلقاتها - وليس إلى تأمل الأشياء الخارجة عنه وتصورها (وهي ما قد سميناه بالملكة التصويرية). ولذا فالمرأة العادية لا إدراك عندها قط لمعاني هذا الفن (التصوير). وقد قال هويارتي في كتابه الذي لم يزل مشهوراً منذ ثلاثمائة عام أن النساء مجردات من الكفاءات العليا. على أن لكل قاعدة شواذ. ولكن النادر لا حكم له. فلا جرم إذا قلنا أن النساء بوجه الجمال ما زلن ولم يزلن سوقيات الأذواق (نسبة إلى السوقة وهم العامة) سخيفات الآراء ولذا لم يزل منهن محرضات لأزواجهن على كل خطة دنيئة وغاية سافلة. وكونهن سوقيات وسخيفات مع مالهن من السلطة والنفوذ في المجتمع هو سبب انحطاط المجتمع في هذا العصر الدنيء وفساده وما أصدق ما قاله شامفورت حيث قال إنما وظيفتهن العبث بحماقتنا وسفاهتنا وليس بعقولنا وأذهاننا فلا جدال في أنهن الجنس المؤخر. والذكور هم الجنس المقدم. فأقصى حقهن علينا هو أن نرمقهن بعين الصفح والتجاوز عن ذلاتهن. فأما إجلالهن واحترامهن فهذا بله منا وسخف وسفاهة لا ثمرة منه إلا أن يحقرنا في نظرهن والرجل مقدم على المرأة وهو أعظم شأناً منها وأرجح وزناً. وقد أحسن الشرقيون والقدماء في تفضيلهم الرجال على المرأة. لله درهم إنهم أنفذ بصيرة وأصح رأياً. وقبحنا الله إذ نقتدي بقدماء الفرنسيس في تقديسنا المرأة اتباعاً لمذهب الفروسية. . أسوأ العصور الوسطى وأسود بصماتها. وهل كان لهذا المذهب الفاسد - مذهب تقديس المرأة - من فائدة سوى أنه ملأ علينا ذلك المخلوق الضعيف خيلاء وغطرسة وطغياناً وعتواً. حتى صرنا يشبهن آلهة الهنود القردة المقدسة التي لشعورها بمنزاتها السامية عند عبادها قد أصبحت تظن أنها قادرة أن تفعل ما تشاء كما تشاء.

أما مركز المرأة أعني السيدة في أوروبا مركز كاذب لأنها لا تصلح - وهذا رأي القدماء وما أصحه - لما أصبحنا نخصها به من آيات التشريف والتقديس حتى عادت تشمخ على الرجل أنفاً وتقعد فوقه وتقدمه إلى صدور الحفلات والمجالس وتنافسه في حقوقه وامتيازاته. فحالتنا هذه قد أصبحت موضع استهزاء الشرق وسخريته. وأصبحنا نحن في نظر سكان آسيا أعجوبة وأضحوكة ولو بعث الله يونان وروما القديمتين لنظرتا إلينا كما ينظر الشرقيون الآن.

وخلاصة القول أنه لا بد من إنزال المرأة السيدة عن منزلتها الباطلة المكذوبة إلى مكانها الحقيقي. أجل إذا كان هناك مخلوق يجب محوه من الكون فهو السيدة الأوروبية لأنها خارجة عن نظام الكون. نحن لا نريد السيدة وإنما نريد ربة البيت الخبيرة بشؤونها العلمية بطرق تدبيره، المأدبة المتواضعة الخاضعة العارفة وظيفتها ومنزاتها وقدر نفسها. غير الشامخة ولا المتغطرسة ولا المتكلفة ولا السخيفة التي أضحكت منا أهل العالم بالحمق والجهل والإدعاء الكاذب. ويعجبني ما قال اللورد بيرون في هذا الصدد وهو من بعض رسائله مركز المرأة في يونان القديمة معقول مستصوب - مركزها الحالي بقية من وحشية العصور الوسطى - عصور الإقطاعيات والفروسية - وذلك أنه مركز كاذب مصطنع - الواجب عليهن الإهتمام بشؤون البيت - وأن يطعمن الطيب ويكسين الجديد - ولكن لا ينبغي إختلاطهن بالرجال أو دخولهن في حومة المجتمع ويجب تعليمهن الدين ومنعهن من الشعر والسياسة - وأن لا يصل إلى أيديهن من الكتب إلا ما كان خاصاً بالفقه والطبيخ. وقد أبصرتهن يشتغلن في إصلاح الطرق في بلدة إيبيراس فرأيتهن يجدن هذا العمل أهم.

(البيان) فماذا يقول دعاة السفور بعد كلمة هذا الفيلسوف الألماني الكبير؟