مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/أفكار بليدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/أفكار بليدة

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 3 - 1917



لمفكر بليد في أوقات بليدة

الإنقباض

إني أستطيع أن أتلذذ من الحزن. وأجد الإبتهاج في التعب والشقاء، ولكني لا أرى أحداً يحب أن تصيبه نوبة الإنقباض، ومع هذا تأبى هي إلا أ، تصيبهم وتدنو منهم، ولا يستطيع أحد منهم أن يعرف سبباً لها أو تفسيراً، فأنت قد تصيبك النوبة في اليوم التالي لليوم لذى رزقت فيه الثروة الكبرى والغنى العريض، كما قد تنتابك في اليوم الذي تفقد فيه مظلتك في القطار، وترى تأثيرها على مزاجك أشد من التأثير الذي تشعر به عندما تصاب بوجع الأضراس وعسر الهضم ورطوبة الرأس في آنٍ واحد، إذ تصير قلقاً أحمق متهيجاً خشناً مع الأضياف والغرباء. خطراً على الأصحاب والأًصدقاء مشاغباً مشاجراً ثقيلاً على نفسك، وثقيلاً على كل من حولك.

وأنت في هذه الحال لا تستطيع أن تفعل شيئاً ما وتفكر في شيءٍ وأن كنت مضطراً إلى أن تقوم بعملك. ثم أنت لا تستطيع أن تجلس هادئاً، لذلك تضع قبعتك فوق رأسك تهم بأن تتنزه ولكنك لا تكاد تشرف على رأس الشارع، حتى تود لو أنك لم تخرج وإذ ذاك ترجع أدراجك إلى البيت. فتفتح كتاباً تحاول أن تقرأ، ولكنك تجد شكسبير مبتذلاً سوقياً. وترى ديكنز بليداً ثرثاراً. وتكري ثقيلاً، وكارليل متصنعاً متكلفاً. فلا تلبث أن ترمي الكتاب بعيداً وتأخذ في شتيمة المؤلفين. ولمن الكتاب، ثم تطرد الفظه من الحجرة وتغلق الباب في أثرها وعند ذلك يخطر لك أن تجلس لكتابة خطاباتك ولكنك لا تكاد تنتهي من هذه اليباجة. . . عزيزي فلان. . . . من بعد مزيد من السلام والسؤال عن صحتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. . .، حتى تمضي نصف ساعة ولم تزد عليها حرفاً واحداً، فتقذف بالخطاب في الدرج وتطرح الريشة الممتلئة بالمداد فوق غطاء المائدة، وتنهض بعزيمة جديدة وهي الذهاب لزيارة آل فلان. . . . ولكنك وأنت تدخل قفازتيك في يديك يخطر في ذهنك أن آل فلان هؤلاء مغفلون ثقلاء، وأن لا عشاء عندهم وأنك ستضطر إلى مناغاة طفلهم الصغير وملاعبته فتلعن آل فلان هؤلاء وتنوي المكث والبقاء.

وعند هذا الحد تحس أنك قد انهزمت، فتدفن وجهك في راحتيك. وتظن أنك تود لو مت واسترحت، ولهذا تبدأ تصور لنفسك سرير مرضك والأصحاب وهم حافلون من حولك والأقرباء وهم مجتمعون حول فراشك يبكون جميعاً وينتحبون، وأنت تباركهم أجمعين ولاسيما الأوانس والفتيات منهم وتروح تقول لنفسك أنهم سيقدرونك حتى قدرك إذا أنت ارتحلت، ويفهمون الخسارة العظمى التي خسروها، وتمكث تقارن بألم شديد بين احترامهم إياك ميتاً. وقلة اعتبارهم إياك الآن حياً وتجعلك هذه الخواطر هادئاً بعض الهدوء، ولكن لا يلبث هذا الهدوء أن يذهب، إذ لا يني يدور في رأسك بعد ذلك أنك لا بد أحمق معتوه إذ تتصور لحظة واحدة أن إنساناً سيحزن عليك أو سيتألم لمصابك، وتمضي على هذا تقول لنفسك من ترى يعني بي إذاً أنا: انفلقت: أو: شنقت: أو تزوجت: أو غرقت: لأنك لم تر من احترام الناس ما تستحق، ولم تجد من تقديرهم ما أنت به خليق، وتنطلق تراجع ماضيك وأيامك الأولى: فيبدو لك أنك أسئت من الناس منذ كنت في المهد.

ولا تكاد تمضي نصف ساعة عليك وأنت في هذه الخواطر المحزنة حتى تنهض خائفاً متوحشاً متسخطاً على كل إنسان، ومغضباً من كل شيء، ولاسيما من نفسك، ولو لم تكن الأسباب: التشريحية: تحول بينك وبين رفس نفسك إذن لفعلت، يجئ بعد ذلك أوان النوم فتثب إلى منامتك، فتخلع كل قطعة من ملابسك وتقذف بها في كل ناحية، ثم تطفئ الشمعة وتقفز إلى السرير، وهناك تتلوى وتنقلب ساعتين أو نحوهما، تضع الغطاء حيناً وحيناً ترفسه برجليك، وأخيراً يغلب عليك النعاس. فتحلم أحلاماً سيئة ولا تصحو الغداة إلا متأخراً.

هذا هو ما نعانيه نحن العزاب المساكين على الأقل في مثل هذه الظروف، أما المتزوجون فيهددون زوجاتهم، ويتسخطون على الأكل، ويصرون على ذهاب الأطفال إلى النوم!!