مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الخلود
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الخلود
قصيدة نظمها الشاعر لامارتين يرثي بها حبيبته الفير وكانت قد قضت نحبها في ريعان الشباب وكان لامارتين نفسه مريضاً يظن أنه قد شفا الموت وقد جمعت القصيدة معاني شتى من الفلسفة والحب والجمال والموت والخلود حتى عدت أحر زفرات الشاعر وابلغ نفثاته.
هذه شمس أيامنا أصفرت وهي في مطلعها أنها لا ترسل الآن على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة إلا أشعة متحدرة مضطربة واجفة تغالب مطالع الظلام وتناصب هواجمه هذا الظل يمتد وهذا النهار يموت كل شيء يزول يفر ويطير.
لشد ما يرتجف المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتعش لشد ما يراجع الخطى عند حدود الهاوية وينكب بل لشد ما يخفق الفؤاد إذ يستمع عن كثب على تلك الأنشودة الحزينة المظلمة أنشودة الموتى تتردد في أعماق صدره منتشرة في أنحاء نفسه إن تلك الأنات المخنوقة والأنفاس المتحشرجة آهات الحبيب وزفرات الخليل وانتحابات الولي وهي تتراجع وتضطرب حول فراش الموت أن هذه الأصوات المضيعة المبددة تعلن الأحياء أن منكوداً منهم قد خف ومكدوداً قد رحل.
تحيتي إليك أيها الموت وسلامي أيها المنقذ السماوي الكريم ما عدت بعد اليوم تطالعني في ذلك المنظر المرعب المشؤوم برهبتك وخشيتك ولا عادت يمينك تشارفني بمرهف سيفك لست أيها الموت بالمتجهم الوجه ولست بالخائن العين أنت الذي تروح إلى الله الرحيم بأحزاننا وفجعاتنا ونستدعي رحمته على نكباتنا وويلاتنا أنت لا تعدم بل تنقذ أنت لا تقتل بل ترحم إن يدك يا رسول السماء تحمل إلى مشكاة الهية يوم تحرم عيني المتعبة الحسيرة مشرق الضياء ومطلع النور أنك تجيئني لتمطر الجفن وتبلل العين هناك يطفر الأمل إلى قربك يظلله الإيمان وتشده التقوى ويفتح أمام عيني عالماً أجمل أروع حلو المتقبل لذ المتفكه والمتنعم.
ألا تعال أيها الموت وأقبل تعال فاقطع عني أغلال اللحم وبدد عني قيود البدن تعال أكسر باب سجني وافتح مغالق محبسي أعرني أجنحتك الهفهافة وقوادمك ماذا يحبسك عني ويمسكك ماذا يعيق عن زورتي ويؤخرك ألا أطلع عليّ وأشرف أريد أن أطفر إلى ذلك الكائن العظيم اشهد عنده مبدئي ومختمي.
أموت ولا أعرف ما الوجود واذهب ولا أعلم ما البقاء أنت أيتها الروح المبهمة أيها الطائف الغامض المجهول سدى أسألك وعبثاً أستطلعك أية سماء بحقك تسكنين وفي أية دار ترى تعيشين أية قوة دفعتك إلى عالمنا المتحطم الضعيف الهشيم أية يد حبستك في محبس فخارك واعتقلت في قالب طينك لأي سبب عجيب وبأي سر غريب يرتبط بك البدن وبه ترتبطين لأية سفرة جديدة سترحلين عن الأرض وتتحملين أتراك نسيت كل شيء أم هل تذكرين أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أمثل وأحكى أم في حجر الله مخرجك ومربعك وموطنك ستنعمين مناعم الأبدية وتلعبين ملاعب الخلود؟!
نعم تلك علالتي يا نصف الحياة وتلك طماحتى تلك هي الأمنية التي كانت عزاء نفسي السجينة المغلولة يوم شهدت غلائل حسنك تزبل والربيع في صميمه ومزدهره هي اليوم مناي والحزن يفتك بي والأسى يقتل وأنا أجود اليوم بالنفس وأسلم أموت فينان الغصن رطب العود ولكن ها أنا ذا أبتسم!
سيصبح قطيع أبيقور وجماعته أمل خلب كاذب! وذلك العالم الذي يفحص بيده عناصر الطبيعة ويدرس في زاوية صغيرة يسمونها العقل سيقطع دهره للمادة ويعيش في عالم المادة ويغفل عن الروح سيقولون جميعاً أيها الأحمق أنظر حولك ودر بعينك كل إلى فناء وكل إلى غاية وكل يولد لكي يموت أنظر ألا ترى الزهرة في الحقل تتعب فتضمحل فتموت ألا تشهد السدرة العظيمة في جوف الأجمة الكثيفة تفرع شامخة الرأس متطاولة الذؤابة ثم تسقط تحت ثقل الدهر ممتدة على العشب منتشرة فوق بطحاء الأرض أنت ترى البحار تنضب في قيعانها وتجف أنت ترى السماء نفسها تزوي وتصفر هذه الشمس تجري مثلنا إلى الفناء والانقراض هذه الطبيعة كلها تركم القرون والأجيال تراباً فوق تراب إن الزمن يقبر في جوف حوادثه ويرمس ولكن يا لا عظم حماقة الإنسان ويا لا سخفه لا يفتأ يوقن وهو في غيابات القبر إنه سيظفر بعد الحياة بالحياة ويحلم بالأبدية وهو في زوبعة العدم!
ولكن هوناً أي عقلاء هذه الأرض لعل أحدنا سيقول لكم أتركوني أيها العقلاء إلى ضلتي وإني أحب وعليّ أن أتمنى وأتعلل إن عقلنا الضعيف يتحير ويضطرب بل إن عقلنا أمام حجتكم يسكت ولكن غريزتنا ترد عليكم وتجيب.
وأما أنا فيوم أرى الكواكب في السموات العلى تنحرف عن سبيلها المسنونة ومنازلها المقررة وأشهد في حقول الأثير النجم يهجم على النجم والكوكب ينطك الكوكب وأسمع الأرض تتنهد منشقة الجوف وتتأوه وأرى كرتها مائدة هائمة تضطرب عن كثب من السموات وتمور تبكي إنسانها الفاني وابنها الدفين مترامية في أحضان الأبدية فانية وأدور حولي فأجدني الشاهد الوحيد والحاضر الفرد يحف بي الموت وتحوطني الظلمات عند ذاك سأنهض واثباً لا خوف ولا رعب أفكر فيك يا نصف الحياة وأحلم موقنا برجعة فجر الأبد وعود عالم الخلد أرقب لقائك وأرجو زورتك.
أتذكرين الرحلة الهانئة والسفرة الراغدة يوم نشأ حبنا الخالد وبدأ غرامنا المقيم حينا فوق ذوائب الصخور القديمة الوحيدة وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة الحزينة على جناح النعيم بنجوة من هذا العالم يوم خضنا معاً متصاعد الظلال ومنتشر الأفياء نهبط الربى وننزل الجبال نصغي إلى غناء النجوم وصدحها موسيقى حلوة لا صخب فيها ولا ضوضاء كنت تقولين الله محجوب وهذه الطبيعة معبده هذه الدنيا صورة كماله وماويته إن النهار نظرته وهذا الجمال ابتسامته أيها الأبدي اللانهائي القدير الجليل إن القلب في كل مكان يعبدك إن الروح تهفو مشوقة إليك إنها تريد أن تطفر نحوك وتثب تشعر أن الحب ختام حياتها فهي تحترق إلى معرفتك شوقاً وتلتهب
كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين وكان قلبانا يجمعان تنهداتنا ويمزجان أناتنا وزفراتنا يبعثان بها صوب ذلك الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا ويشهد به غرامنا يحمل إليه الليل تخشعاتنا وضراعاتنا ويرفع إليه الفجر تذللاتنا وابتهالاتنا والعين سكرى تتلدد بين الأرض منفانا والسماء مسكنه.
أواه. . . أللعدم خلقت أرواحنا أللفناء كانت حياتنا أيجري على الروح في ظلمة القبر حظ البدن أياتهمها جوف اللحد كما يلتهم اللحم ويدق العظم أتعود مثلها تراباً وتستحيل هباء أتراها تطير وتحلق أم تراها تتبدد كأجزاء الصوت المتردد.
بعد حسرة ضائعة وزفرة راجعة وتوديعة لمن أحبك باكية أيغني المحب ويبيد المغرم أواه. . إن أمام هذا السر العظيم لإنجاحك أيها العقل ولكن نسألك أيتها الغريزة أي ألفير إن محبك يسوق بنفسه فهل من رد. . هل من جواب!.