مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/هل كان مجنونا
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/هل كان مجنونا
ً
تقدم إلى القراء في هذا العدد رواية بسيكولوجية، غريبة الموضوع، مدهشة الوقائع، مخيفة المغزى، بلغ من أهميتها وغرابة حوادثها، إن عقد مجمع الأخصائيين في الأمراض العقلية بمدينة سان بطرسبرج مجلساً خصيصاً بها، وأخذوا يتباحثون في أمرها، ويحللون دقائقها تحليلاً طبياً نفسياً لكي يخرجوا منها بنتيجة كبرى في علم النفس وفن الطب، وقد كانت مثاراً لتضارب آراء المفكرين والباحثين، وانقسام الأطباء والسيكولوجيين، واشتهرت في الغرب وعظم شأنها، هذا وواضعها ليونيداس أندريف كاتب من أبدع كتاب الروس، وروائي من خيرة روائيهم، وناهيك بما للأدب الروسي الآن من السلطان الفكري في أوروبا، بل لقد بذ الآداب الفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وسما عليها جميعاً في الروائيات والنفسيات، حسبه أنه أخرج للعالم تولستوي، ومكسيم غوركي، وتورجنيف، ودستوفسكي وأندريف، وجوجل، وبوشكن، وكوربوتكين، مهذبي الفكر الحديث، وهادمي الآداب البالية العتيقة.
وقد بدأ هذا الروائي الكبير حياته فقيراً جائعاً مشرداً، ولم يصب أول أمره النجح في حرفته، ولا وجد ما يسد إرماقه بقلمه، حتى بلغ به يأسه من بهجة الحياة وفرحتها إن أجمع أمره على الانتحار، قال عن نفسه أطلقت على رأسي رصاصة من المسدس، ولكنني لم أنجح حتى في قتل نفسي، لقد عرفت الخصاصة في أخبث حدودها، وبلوت الفقر في أقسى غاياته، كنت أجوع أكثر أيامي، كنت لا أجد ما أمسك به ظمأ حياتي اليوم واليومين.
ومضى على سوء حاله أينما طوالاً، حتى كتب هذه الرواية التي نقدمها للقارئ اليوم، فكأنما لم نخرج من قلمه، بل من قلم الأقدار، ومداد الوحي، فكانت آخر عهده بالجوع، وأول عهده بالشبع، وارتفعت به الرواية إلى أوج الشهرة وذروة المجد، وأخذت المجلات والصحف تتناقل روايته، وتنوه بعبقريته، وعدت من أرقى ما خرج من الروايات في العصر الحديث.
في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1900، ارتكب الدكتور أنتوني كرجنتزف أحد الأطباء جريمة القتل، وبدا من الظروف التي وقعت فيها الجريمة والحوادث التي سبقتها، ما يشير إلى اضطراب في ذهنية القاتل، فسيق الطبيب إلى مستشفى الأمراض النفسية لفحصه، وهناك عرض على أمهر الأطباء والأخصائيين ولكن ما كاد الشهر يتولى بعد دخوله المستشفى حتى قدم الدكتور كرجنتزف إلى أطبائه مذكرة له بسط فيها ما وقع من أمره، وها نحن ننشر للناس بعض شذرات من الرسالة وقد وجه الخطاب فيها إلى أطباء المستشفى.
ـ 1 ـ
حتى هذه الساعة، وأنا أكتم عنكم يا سادتي الحق وأخفيه، ولكني أشعر الآن بقوة تدفعني على إظهاره، وستفهمون من معرفته أن حادثتي ليست من السهولة كما يبدو للنظر السطحي المتسرع البسيط، ليست حادثتي من تلك الجرائم العادية التي تقود إلى السلاسل والأغلال، وتسوق الجاني إلى الاشتمال في أكسية المجرم، وسترة القاتل، بل أن في جريمتي عنصراً رهيباً، بل أرهب مما تظنون، عنصراً غريباً موحشاً، ستنتفعون منه وتستفيدون.
إن الرجل الذي قتلته، اليكسين سافيلوف، كان رفيقي في المدرسة، ثم قريتي في الجامعة، وإن كانت وجهة درسي غير وجهته، وأنتم تعلمون أنني طبيب، وكان هو محامياً، ومحال أن يقال عني أنني كنت أبغضه، كنت أجده أبداً رقيق القلب، وثاب الشعور، فوار الإحساس، ولم أصادق دهري أحداً آخر من صداقتي له، ولكن لم يكن اليكسين، على الرغم من رقته ووجدانيته ذا شخصية كبيرة تلهمني الاحترام له، وتوحي إلى عاطفة التبجيل، وإن حلاوة طبيعته وتواضعه المدهش الغريب، وإن تقلبه في آرائه وعواطفه ومشاعره، أن تطرفه الشديد في أفكاره المتحولة المتغيرة، كل هذه كانت تضطرني إلى أن أعتبره طفلاً، بل أعده امرأة، وكان أصحابه وأهل وده أبداً هدفاً لثورة هذا الإحساس، وبركان هذا المزاج، ولكن ما أبعد الطبائع البشرية عن المنطق! إذ كانوا في الوقت نفسه يحبونه أعظم الحب، وكانوا يجتهدون أن يجدوا شفيعاً لهناته وهفواته، واقتفيت في ذلك أثرهم، فشاركتهم في الرأي، وجعلت أغضي لا لكين عن هفواته الصغيرة، نعم أقول الصغيرة وأصر على القول، لأن الكين كان عاجزاً عن أي شيء كبير، حتى في الهفوات، وإذا أردتم أيها السادة دليلاً على ما أقول فليس علي إلا أن أعد عليكم آثاره الأدبية. كلها سخيف حقير. وإن اثنى بعض النقدة الحمقى خيراً عليها. نعم هي لا شيئيات جميلة كما أن مؤلفها لا شيئية حسناً.
كان الكسيز يوم مقتله في الواحدة والثلاثين. كان أصغر مني بربيع ونصف، وكان الكسيز متزوجاً، وإذا كنتم أيها السادة قد رأيتم زوجته وهي محزونة أرمل. فما أنتم بقادرين على أن تعلموا كيف كانت قبل المقتل، إنها فقدت كثيراً، هذه وجنتها قد ذبلت، وهذا خدها الأثيل قد أظلم، هذه بشرتها الناعمة قد ظهر فيها التخدد والغضون، كانت تحب زوجها أعز الحب، هذه عينها لا تشرق ولا تلمع كما كانت بالأمس، ولم تعد تضحك وكانت أبداً مومضة ضاحكة، وقد رأيتها عرضاً في فناء دار الشرطة، فكدت أصعق للتغير الذي طرأ عليها، إنها لم تستطع أن ترمقني بلحظة ساخطة متوحشة مفترسة، واهاً للمسكينة!.
كان هناك ثلاثة فقط، الكسيز وتاتيانا وأنا، هم الذين يعلمون وحدهم إنني منذ خمسة أعوام قبل زواج الكسيز بعامين كنت سألت تاتيانا يدها فرفضت الطلب وأعرضت. ولكن من الحماقة أن أقول لم يكن هناك إلا ثلاثة فقط، لا ريب أن لتاتيانا حلقة من الأصحاب والأحباب. والصواحب والحبائب. وكلهم قد علم - ولا شك - بأن الدكتور كرجنتزف طلب يوماً إليها الزواج. فكان نصيبه حرارة الرفض.
إني لأتساءل أتراها تتذكر أنها ضحكت في ذلك اليوم، نعم إنها كم ضحكت في الدهر مراراً وكم ابتسمت، ولكن ذكروها أيها السادة بأنها في الخامس من شهر سبتمبر ضحكت فإذا أنكرت وهي لاشك منكرة، فذكرها أنها حقاً ضحكت، وأنا الرجل القوي العتيد، الذي لم يسكب عبرة واحدة، ولا ذرف يوماً دمعة منحدرة، ولم يعرف الرعب ولا الخوف، وقفت يومذاك أمامها مرتجفاً مرتعداً، رأيتني مرتجفاً ورأيتها تعض شفتها، ففتحت لها ذراعي لأضمها، فرفعت عينيها، ورأيت تينكم العينين تضحك، هنا تراخت ذراعاي، وراحت هي تضحك، وضحكت كثيراً، كما شاءت ولكنها عادت بعد ضحكاتها فاعتذرت.
قالت، وعيناها لا تزالان تضحكان (أتوسل إليك أن تصفح) فابتسمت أنا كذلك، ولو استطعت الآن أأصفح عن ضحكها، فما أنا بمستطيع أن أصفح لنفي عن تلك الابتسامة!.
حدث ذلك في الخامس من سبتمبر، الساعة السادسة من المساء على حساب سان بطرسبرج. أقول على حساب سان بطرسبرج لأننا كنا في تلك الساعة على أفريز المحطة، وها أنا لا أزال الآن أنظر إلى ساعة المحطة وأتبين موقع عقربيها، أحدهما في رأس الساعة والآخر في أسفلها، وفوق ذلك فإن الكسيز قتل في الساعة السادسة تماماً، وهذا لعمري اتفاق غريب، اتفاق ذو معان كبيرة عند الرجل اليقظ البصير.
قلتم يا سادتي إن أحد الأسباب التي صاقتني إلى هذا المستشفى هو أنكم لم تجدوا أي باعث على ارتكاب الجريمة، فهل تجدون اليوم باعثاً، قد تقولون الغيرة، ولكنكم على ضلالكم القديم، إن الغيرة من شأن الطبيعة الحادة، والمزاج المستعر الناري، وليست من شأن رجل هادئ المزاج رصين العقل بارد الروح كشأني، إذن فهل يكون الانتقام؟ نعم هذا أقرب إلى الحق وإن كانت إلا كلمة قديمة لإحساس جديد وشعور غريب مجهول.
هنا لابد لي من أن أقول أن تاتيانا خيبت ظني مرة أخرى، كنت أعتقد أنها بزواجها الكسيز وأنابه خبير لن تجد الهناء يوماً واحداً، وأنها ستندم على رفضها مطلبي ولهذا السبب اجتهدت في تعجيل زواجهما. وكان الكسيز قد راح بها صبا.
قال لي قبل فاجعة مقتله بشهر (إنني مدين لك بهذه السعادة) ثم التفت إلى زوجته يسألها (أوليس كذلك يا زوجتي؟).
فنظرت إلي ثم تمتمت (نعم) وضحكت عيناها فضحكت، وضحكنا جميعاً والكسيز يضمها إلى صدره، وكانا لا يستحييان من شيء أمامي.
قال الكسيز (نعم، إنك يا صديقي قد خسرت الصيد).
هذه النكتة الباردة المؤلمة الثقيلة هي التي قصرت من حياته أسبوعاً كاملاً، لأنني كنت قد أجمعت أول الأمر أن لا أقتله حتى اليوم الثامن عشر من ديسمبر.
أجل، كانت الحياة قد طابت للزوجين، ولاسيما تاتيانا فقد كانت سعيدة السعادة كلها وأما الكسيز فلم يكن حبه لها في أعشار قلبه، لأنه يعجز عن أي حب عميق، وكان الأدب ملهاته يؤثره على مناعم البيت ومباهج الزواج، ولكن هي! هي لم تكن تحب إلا هو، وكانت لا تحيا إلا له هو، وكان أبداً متوعك الصحة، ينتابه الصداع، وينهكه الأرق، وكانت تاتيانا ترى في تمريضه والعناية برغباته أعظم السعادة، وأكبر النعمة، والمرأة يوم تحب، تفقد كل شخصيتها.
كذلك كنت أرى كل يوم وجهها المبتسم ومحياها الباهر المشرق الناعم فكنت أقول لنفسي وأتساءل (أنا سبب كل هذا، أردت أن أرسفها في غل زوج مغفل لكي ترى بنفسها مبلغ خسارتها يوم رفضتني فإذا بي أراني قد جئت إليها بالرجل الذي أحبت!) وأنتم يا سادة ترون غرابة موقفي، كانت أخصب ذهناً من زوجها كانت تحب حديثي وتطارحنيه، فإذا انتهينا من الحديث تركتني في رفق مبتهجة إلى ذراعي زوجها!.
ولا أستطيع أن أتذكر متى كان أول تفكيري في قتل الكسيز، وكل ما أعلم أنني ألفت هذه الفكرة حتى لكانها ولدت معي وأعرف أنني كنت أريد أن أنزل بتاتيانا العذاب والألم، أعرف إنني فكرت في وسائل أخرى لإنجاز غرضي، وسائل أقل خطراً على الكسيز، وويلاً، لأنني كنت دهري عدواً للقسوة كارهاً لها، وكنت أعرف ما هو القتل، واعلم أنه جريمة يشتد القانون في العقاب عليها، ولكن أليست كل أعمالنا جرائم مختلفة الضروب والأنواع.
كنت لا أشعر بخوف من نفسي، وهذا كل شيء عند المجرم، أن أخوف ما يخافه القاتل والمجرم ليست الشرطة ولا القاضي ولا العقاب، وإنما نفسه التي يخاف، هي أعصابه وإراداته وضميره، وجعلت أفكر في هذا الموضوع وأروئ فيه البصر، جعلت أدرسه وأعيه وأفحصه، ولا أقول إنني وثقت الوثوق المطلق من هدوء أعصابي وثبات إرادتي، فإن وثوقاً كهذا لا يصدر إلا عن رجل مفكر عاقل يعتد بكل الاحتمالات والممكنات، ولكني بعد أن وزنت إرادتي، وصلابة أعصابي واحتقاري التام للقيمة الأدبية، شعرت أنني أستطيع أن أعتمد كثيراً على نجاح خطتي.
والآن وقد تحققت خطتي عساكم تسألون ترى أيحزني الآن ضميري، وهل أشعر بندم أو أسف؟ وأجيبكم. كلا، ولا ذرة من ندم.
أشعر بألم، نعم، بألم شديد هائل، ما أظن أحداً غيري في العالم عاناه، إن شعر رأسي الأسود يستحيل الآن إلى البياض، ولكن هذا شيء آخر، نعم شيء آخر. شيء مخيف مفزع خارق غريب، لا يمكن أن يصدق مع بساطته الفظيعة الهائلة.
ـ 2 ـ
وكذلك أجمعت على أن أقتل الكسيز، ولكني أردت أن تعلم تاتيانا أنني أنا الذي قتلت زوجها، ولكنني كنت أريد مع ذلك أن أتجنب عقوبة القانون، وإن كان عقابي لن يغني تاتيانا عن نكبتها شيئاً، لأنني كنت كأكثر الناس أكره السجن وأحب الحياة، أحب أن أرى الخمرة مشرقة في الكأس، وأن أمد ذراعي وساقي على فراش ممهد وثير، وأحب أن أملأ سحري بنسمات الربيع، وأشهد الشموس الزاهية في مطالعها ومغاربها، وأقرأ الكتب، وأنعم بالمطالعة، أحب نفسي، قوة عضلاتي، وصفاء ذهني، ورجاحة لبي. ولم أفهم يوماً ما يريد الناس بقولهم (متاعب الحياة).
ومع ذلك كان من الهين على أن أنجو بنفسي من العقاب إذ هناك ألف وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يقتل في خفية إنساناً آخر، ولاسيما إذا كان مثلي طبيباً، ومن بين الخطط التي فكرت فيها ثم أعرضت عنها، خطة واحدة تدبرتها طويلاً وفحصتها، ذلك أني فكرت في أن أدبر له مرضاً عضالاً قاتلاً، ولكن الصعوبات التي تعتور هذه الخطة مما يتبين لكن أيها السادة، على حين أن ألن الضحية المستطيل المستمر سيكون خشناً فظاً قاسياً، وفوق ذلك فإن تاتيانا ستتنعم بشيء من السعادة حتى في مرض زوجها وأصعب ما في خطتي أنني كنت أريد أن تعلم أية يد أوقعت برجلها، وما كان مثلي لتخفيفه العوائق، إذ العوائق لا تخيف إلا الجبناء.
وسنحت لي الفرصة والفرصة حليفة العقلاء، وهنا استرعى أبصاركم أيها السادة، إلى نقطة هامة، أقول لكم إنها الفرصة وحدها لا إرادتي التي خدمتني، هي وحدها التي كانت أساساً للجريمة، وهي التي خلقت الحوادث التي جرت بعد ذلك.
أقول لكم يا سادتي إني قرأت في إحدى الصحف، ولعل نسخة الصحيفة لا تزال في بيتي، إذا لم تكن قد وقعت في أيدي القضاء، إن رجلاً ادعى أنه أصيب بنوبة عصبية جنونية، فقد في خلالها المال الذي أؤتمن عليه، وكان في الحقيقة قد اختلسه، على أن الرجل كان هيابة جباناً، فاعترف بذنبه، وبلغ به جبنه أن دل القضاة على المخبأ الذي وضع فيه ما سرق، ولكن الفكرة نفسها لم تكن سيئة ولا صعبة الإنجاز (نعم) إن التظاهر بالجنون، وقتل الكسيز في نوبة جنونية ثم الرجوع إلى الرشد، هذه هي الخطة التي وثبت إلى رأسي. عندما كنت أقرأ قصة ذلك الرجل. وكنت كالداني الأطباء أعرف شيئاً من علم النفس وجعلت أصرف أكثر وقتي في قراءة أسفار هذا العلم والمؤلفات الموضوعة في دقائقه. حتى تبينت أن الخطة لابد موفقة ناجحة.
وأول شيء يجب أن يسترعي أذهان علماء السيكولوجيا هو تأثير الوراثة. ولشد ما كان ابتهاجي إذ وجدت التأثير الوراثي موافقاً لغرضي، كان أبي مدمناً تعلى الشراب ملحاً على الكحول. وقضى أحد عمومتي في مستشفى المجانين، وتوفيت أختي الوحيدة. وكانت عرضة للتشنج العصبي.
وبدالي أن من الهين على أن ألعب دور المجانين، فعمدت إلى قراءة ما يدور حول طبائع المجانين في الكتب، وأضفت من عندي بعض الاختراعات الجنونبية، كما يكون من الممثل الصنع الحاذق الأريب.
وخطر لي، وأنا أقوم بمبادئ خطتي خاطر غريب. لا أظنه يقع يوماً لمجنون، ذلك ني فكرت في الخطر المفزع المخيف الذي تجره تجاريبي المجنونة الممرورة.
وأنت يا سادتي تفهمون ما أريد، إن الجنون ليس إلا ناراً محرقة تلهب من يلعب بها، بل لو كنتم في كهف مظلم مملوء بالبارود، فأرسلتم النار في جوانبه، لكان آمن عليكم وأقل خطراً من أن ينساب إلى عقل أحدكم أقل خوف من الجنون.
كنت أعرف ذلك، وكنت أحسه، ولكن أي خطر يستطيع أن يرد الرجل الشهم الجريء.
ـ 3 ـ
ولعلكم الآن تفهمون مبلغ تلك النوبة الجنونية المخيفة التي اعترتني في وليمة آل كارجوانوف.
كانت هذه النوبة أول تجاريبي، وقد نجحت أكثر مما كنت أتوقع، أقول لكم يا سادة إن المدعوين جميعاً رأوا عوارض تلك النوبة قبل أن تبتدئ، وبدا لهم أنها حادثة عادية قد تقع يوماً للأصحاء الأقوياء، فلم يظهر على أحد منهم أدنى أمارات الدهشة أو الاستغراب.
ألم ينبؤكم أنني كنت ساعتذاك شاحب اللون، مخيفاً مرعباً، وإن جبيني كان غارقاً في لجة من العرق البارد، ألم ينته إليكم أن شعلة الجنون كانت تطل من عيني ولما أنبؤوني بعد ذلك بكل ما رأوا مني في المأدبة اتخذت هيئة محزنة مظلمة متعبة، ولكنني كنت في أعماق ضميري مزهواً بنجاحي فرحاً مغتبطاً.
ولم تكن تاتيانيا ولا زوجها حاضري المأدبة، ولا أعرف يا سادتي إذا كنتم لاحظتم هذه النقطة، نعم، لم يكن تغيبهما عن الوليمة فرصة من الفرص، ولكني اخترت أن أقوم بالنوبة في غيابهما، كنت أشفق من إرعاب تاتيانا، بل مما هو شر من ذلك، من إثارة شكوكها، وذلك لأنه إذا كان في العالم إنسان واحد يستطيع أن يكتشف أمري، فذلكم الإنسان لا يكون ولا ريب إلا هي، هي وحدها.
واخترت ساعة العشاء لنوبتي، إذ يكون المدعوون منتدين جلوساً في المقاعد. وإذ تكون الخمر قد اهتاجت أعصابهم. ولعبت الشمول بالرؤوس. وأخذت مجلسي عند طرف المائدة بعيداً عن الشموع الموقدة. لأنني لم أكن أريد أن أثير حريقاً في الدار أو ألهب أنفي وأطرافي.
وسألت أحد المدعوين وهو بافل بتروفتش أن يكون جنيبي. لأني كنت منذ زمن بعيد أميل إلى مغاضبة هذا المخلوق المرذول المبطان البدين. وهو إذا أكل اشتد ثقل روح وازداد برودة دم. ولقد حسبت يوم رأيت هذا الثقيل يأكل إن الأكل لابد من أن يكون رذيلة الرذائل ومشت خطتي في هينة ورفق، وكان كل شيء في صالحي، حتى لم يستطع أحد منهم أن يلحظ أن الصفحة التي حطمتها بقبضة يدي كانت مغطاة بالمنشفة، لكي أتجنب تجريح يدي.
وكانت الرواية المضحكة التي قمت بتمثيلها حمقاء طائشة، ولكن ذلك ما كنت أبتغي وأريد، ذلك لأنني لو عمدت إلى حركة أهدأ وأعقل وأتقن لراحت عند القوم غامضة مبهمة، بدأت ألوح بذراعي في الهواء وأصيح في وجه بتروفتش أرعن مغيظاً، وجعل هو في دهشة وذهول يحملق إلي ببصره، ويدير عينيه في مبهوتاً، وإذ ذاك عدت إلى هدوء هامد مظلم حزين.
قالت أيرين بافيلوفونا في ابتسامة صغيرة، ماذا بك يا أنتوني، وعلام هذا الانقباض؟.
حتى إذا شخصت الأبصار جميعاً إلى، تضاحكت ضحكة محزنة مريضة قالوا أجمعين ما بالك، ألست في صحتك؟.
قلتأحس بدوار، إن رأسي يضطرب، ولكن أرجوكم يا سادة أن لا تنزعجوا فإنها عمل قليل تمر.
وعادت ربة الدار إلى طمأنيتها، ولكن بتروفتش جعل يلحظني بعين متهمة غير مصدقة وما كادت تمضي لحظة أخرى، حتى رأيته يرفع كأسه إلى شفتيه فوثبت إليه فحطمت الكأس قريباً من أنفه، وألقيت بقوة وعنف قبضتي على الصفحة التي أمامي فطارت شظاياها في كل مكان، أما بتروفيتش فجعل يتسخط ويلعن ويشتم وهو يدور حولي، وولولت السيدات وارتفع الصريخ، وضج الصياح، وصرفت بأسناني ثم جررت غطاء المائدة وما فوقها، صدقوني يا سادة، لقد كانت رواية طائشة مضحكة.
أجل، لقد كانت دعابة جميلة، وإذا بهم جميعاً قد التفوا حولي وتزاحموا، فأمسكوا بذراعي، ومنهم من جاءني بالماء يمسح به وجهي، ثم أجلسوني في مقعد كبير، وأنا أزأر زئير النمر قد احتبس وأنا أدور بعيني في الجميع بنظرات مفترسة متوحشة، وكان كل شيء مضحكاً، وكان الجمع الملتف حولي أحمق مغفلاً، حتى هممت بأن أنتهز فرصتي فانهال عليهم بالضرب وألطمهم فوق أنوفهم ولكنني تجلدت فأمسكت عن ذلك وسكت.
وبدأت أتوب نمت إلى رشدي،، ومضيت أرسل أنفاساً عميقة صاعدة متراجعة وأخلق عوارض إغماء متعددة. وأصرف بأسناني، وأعض على شفتي، وأفقت أخيراً وأنا أسأل أسئلة كهذه أين أنا؟ وماذا حدث؟.
ووقع هذا السؤال البارد موقعه المعتاد، فتكلف ثلاثة من أولئك الحمقى الرد عليه، فقالوا إنك عند آل كارجوانوف ثم في صوت رفيق مداعب أتعرف يا دكتور من هي إيرين كارجوانوف؟.
حقاً إنهم لا يصلحون لحضور روايتي المضحكة الحسناء. . .
ووقعت النوبة الثانية بعد شهر من الأولى، وكانت هذه أقل حذقاً واتقاناً من تلك، ولم أكن أريد أن أحدث ضجة أخرى كالضجة التي أحدثت، ولكنني لما رأيت الظروف موافقة صالحة وجدت من الحماقة أن لا انتفع بها، وأنا لا زال يا سادة أذكر كل ما حدث، كنت مرة أخرى في حفل عند صديق لي، وكنا جلوساً في حجرة الاستقبال، آخذين في حديث طويل، وإذا بي قد شعرت بإحساس عميق حزين، ورأيت بكل وضوح وبيان موقفي، وجدتني غريباً بين القوم غير معروف، رأيتني وحيداً في هذا العالم، سجيناً آخر الدهر في محبس التظاهر بالجنون، وتولاني بعد ذلك أحساس آخر، هو احتقار كل من حولي والكراهية لهم، وهنا تميزت يا سادة من الغيظ، وعلا حنقي وتوحشي وشرعت أضرب بقبضتي الفضاء، وأصيح صيحات نكراء وأشتم شتائم شنيعة، وأقول كلمات عور مذمومة، وما كان أبهجني إذ رأيت وجوه الجمع تصفر من خوف ورعب!.
وانطلقت أصيح في القوم أيها الأوغاد، أيها السفلة الأنذال، أيتها المخلوقات القذرة المنتنة، أيها الأرواح الحقيرة الملطخة، إني ألعنكم، إني أبغضكم وجعلت في توحشي هذا وجدي أتلاكم أول الأمر مع خدم الدار وأتضارب، ثم هرع إلى سائقو مركبات الحضور فانطلقت فيهم ضرباً وصراعاً ولكماً ورفساً. والآن أعترف أمامكم في سذاجة وبساطة. إنني كنت أشعر بالسرور والابتهاج من ضربهم وشتمهم في وجوههم، وإذن هل من يعترف بالحق يكون مجنوناً، إنني أؤكد لكم، أيها السادة، إنني كنت أعي كل شيء، كنت أحس تحت يدي بأجسام حية تتألم من لكماتي وضربي.
وفي تلك الليلة بعينها، إذ ضمتني جدران مخدعي، رجعت أضحك من نفسي وأقول يا لي من ممثل بارع، وأويت بعد ذلك إلى الفراش، وقرأت في تلك الليلة وأنا مضطجع كتاباً بل إني أستطيع أن أقول لكم يا سادة عن اسم المؤلف. . هوحي ده موباسان، إذ كنت أبداً من المعجبين به، وبعد أن أتممت الرواية تولاني النعاس فنمت ليلتي نوماً هانئاً عميقاً كالأطفال، وأنا أسألكم الآن يا سادة، هل يقرأ المجانين كتباً، هل يجدون في قراءتها لذة ويحسون سروراً، وهل ينامون بعد القراءة نوماً طفولياً عميقاً؟.
إن المجانين لا يذوقون طعم النوم، إنهم يتألمون، إن اضطرابهم كله في أذهانهم هم يريدون أبداً أن يصرخوا ويمزقوا ويعضوا، هم يحبون أن يزحفوا على أيديهم وأرجلهم، زحفاً رفيقاً، هادئاً ثم يهبوا وقوفاً صارخين ضاحكين ها. . ها. . .
نعم، نعم، ولكنني نمت كالأطفال، وهل ينام المجانين نوم الأطفال؟.
ـ 4 ـ
وبدأ الناس بعد النوبة الثانية يخافون مني وامتنعوا عن دعوتي إلى بيوتهم وإذا لقيت عرضاً في الطريق بعض معارفي، قطبوا وجوههم وابتسموا ابتسامة مريضة سقيمة وهم يقولون يا صديقنا كيف أنت؟ وما كان أسهل على عند ذاك أن أمد إليهم يدي بالأذى، ولا ألام عليه ولا أعاتب، ولكنني تمهلت وأردت أن أنتظر حتى أفوز بتصريح طبي فعلي يكون كأذن لما سيقع من يدي وعزمت على أن أنتظر كذلك الظروف التي تجعل استشارة الأطباء في حالتي تبدو كحادث عرضي غير مقصود وإن كانت حيطتي هذه تهذيباً في خطتي لا حاجة إليه، وكذلك حدث أن تاتيانا نفسها وزوجها هما اللذان أخذاني إلى الطبيب، وكان هذا في رأيي نقطة بارعة متقنة مؤثرة قالت تاتيانا (أتوسل إليك أن تذهب إلى الطبيب يا عزيزي أنتوني؟) لقد كانت المرة الأولى التي نادتني في حياتي بلفظة (يا عزيزي) وهكذا كان يجب أن أجن لكي أفوز منها بتلك الكلمة!.
فأجبتها في استكانة وخضوع (سمعاً يا عزيزتي تاتيانا سأذهب) وكنا ثلاثتنا في الحجرة التي قدر لها أن تكون مكان الجريمة، فقال الكسيز في لهجة السيطرة والنفوذ (نعم يا أنتوني يجب أن نذهب دون تردد إلى الطبيب، وألا يعلم الله أي حادث أنت محدث؟!) فقلت في صوت ضعيف متخاذل جبان مرتعد محاولاً أن أخلي نفسه من التبعة في عيني صديقي القاسي الشديد ولكن ماذا أستطيع أنا أن أحدث؟ قال ومن يعلم. . . قد تفلق جممة إنسان.
وكنت أقلب بين يدي ثقالة ورق ضخمة من البرونز، فنظرت إلى الكسيز ثم إلى الثقالة وأنا أقول جمجمة إنسان؟ أتقول الجمجمة؟ فقال ولماذا، نعم أقول الجمجمة، قد تأخذ أداة كهذه فينتهي كل شيء!.
هذه يا سادتي مسألة لذيذة هامة. . لقد كانت هي الجمجمة التي عزمت على فدغها وهي هي الأداة التي أجمعت أمري على استعمالها والآن ترون أن هذه الجمجمة هي قد تخيلت الجريمة بحذافيرها قبل وقوعها، ولكن صاحب الجمجمة فاه بكلمته في ابتسامة غير مكترثة، ومع ذلك تجد هناك قوماً يعتقدون بوجود إحساسات هاجسة متنبشة. . أي حمق وأية سخافة!.
قلت لا يكاد الإنسان يستطيع أن يحدث بهذه ضراً، إنها خفيفة فأجابني الكسيز مندهشاً متعجباً ماذا تقول؟ خفيفة؟ وأخذ الثقالة من يدي فأمسكها من يدها وجعل يهزها مرات متوالية ثم دفعها إلي ثانية وهو يقول زنها في يدك قلت إني أعرف مقدار ثقلها ولكنه قال كلا، خذها في يدك وبعد ذلك احكم، فتناولت الأداة منه في ابتسامة ضعيفة، وهنا تداخلت تاتيانا بيننا، شاحبة اللون مرتجفة الشفتين، وهي تقول كيف يا الكسيز عن هذا، كف عن هذا فالتفت إليها مندهشاً ثم سألها ولماذا، ما بالك يا تاتيانا؟ فرددت القول امتنع عن هذا، أنت تعرف إنني أكره أمثال هذا المزاح وهنا ضحكنا جميعاً: ووضعت الثقالة على الخوان.
وكانت زورتي للطبيب ت. . . مثل ما كنت أتوقع، فقد كان الرجل محترساً مدققاً، واتخذ سيمياء الجد والاهتمام، وسألني أسئلة عديدة، عما إذا كان لي أقارب يعنون بأمري، ونصح لي أن لا أفارق بيني وأن أسكن إلى الراحة والهدوء وبحق مهنتي جعلت أناقشه وأحاجه وإذا كان قبل محاجتي له في ريب من حالتي، فقد تبددت جميعها بمخالفتي لآرائه في تشخيص مرضى وتشريحه، ومنذ تلك اللحظة وأنا في نظر ذلك الطبيب مجنون. نعم مجنون والجنون الذي بي جنون موحش مؤيس مطبق ولكني أؤمل أيها السادة أن لا تضعوا كبير أهمية لتلك المزحة الصغيرة التي موهتها على رجل من أهل صنعتكم. . . إن الأستاذ ت. . العالم البحاثة ليستحق ولا ريب كل احترام.
ومنذ اليوم الذي أصبحت حياة الكسيز في يدي وأنا أهتم كل اهتمامي بصحته ولم يكن الكسيز قوياً شديد الأسر. ومع هذا كان مهملاً نفسه غير مكترث بصحته لا يريد أن يلبس قميصاً أو يتدثر بصدار، يخرج في اليوم البارد المقرور دون خفية. وكانت تاتيانا تكلف نفسها صعود سلم داري لتحمل إلي أنباء زوجها المتوعك المريض وجاءت مرة لتقول لي إن الكسيز نام ليلة الأمس في هدأة ورفق - وكان هذا أمراً غير عادي عند الكسيز فأظهرت لهذا الخبر ابتهاجاً وغبطة وطلبت إلى تاتيانا أن تحمل إلى زوجها كتاباً مني وكان هذا الكتاب نادر الوجود وكان مشوقاً هو إلى قراءته. ولعل إتحافه بهذه الطريقة كان غلطة مني إذ قد يتهمونني بأني كنت أريد بهديتي أن أعمي القوم عن التماس الحقيقية، ولكن رغبتي في إدخال السرور على قلب الكسيز كانت شديدة حارة حتى أجمعت نيتي على أن أجازف هذه المجازفة الصغيرة، وسلكت في هذا اللقاء مع تاتيانا مسلكاً رفيقاً محبوباً جميلاً فرأيتني أكتسب بذلك شيئاً من انفعالها وتأثر مشاعرها ووجداناتها وهي وزوجها لم يشهداني في نوبتي الماضيتين، حتى لقد صعبا عليهما أن يفهما أنني حقاً مجنون.
قالت تاتيانا وهي تستأذن في الانصراف هلا جئت لزيارتنا فقلت مبتسماً لا أستطيع، إن الطبيب قد أمرني أن لا أبرح مكاني فقالت أية سخافة وأي هراء! أنت تستطيع أن تأتي إلينا، إذ تكون لدينا كأنك في بيتك، وإن الكسيز لتهفو نفسه شوقاً إلى رؤيتك.
وكذلك وعدتها الذهاب، وما وعدت في حياتي وعداً كهذا وكنت في إنجازه أوثق مني ذلك اليوم.
وكانت الثقالة البرونزية في موضعها اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر الساعة الخامسة من المساء، وأنا أدخل مخدع السكين، وكان ذلك قبل تناول العشاء، وعشاؤهما في الساعة السابعة، وكانا ساعتذاك في بهجة ومرح، وإزدار مراحهما برؤيتي قال الكسيز وهو يشد بيده يدي (أشكر لك يا صديقي الكتاب الذي أهديت كان ينبغي أن أذهب أنا لزيارتك، لولا أن تاتيانا أكدت لي أنك قد أبللت كل الابلال. وستذهب الليلة إلى دار التمثيل. فهل تصحبنا؟.
ومضينا نخوض في حديث عادي طويل، وكنت أتكلم بدقة وإيجاز ووضوح وجعلت عيني طول الوقت تستقر على عقرب الساعة، وقد عزمت على أني إذ تدق السادسة يجب أن أكون قاتلاً!.
حتى إذا بقيت على الميعاد سبع دقائق نهض الكسيز عن المتكأ متثاقلاً متبلداً وغادر الحجرة وهو يقول (سأعود بعد هنيهة).
وأردت أن أتجنب عيني تاتيانا ونظراتها فخطرت إلى النافذة ففرقت الأستار ووقفت هناك كأنني أنظر وأتأمل، وإذا بي أشعر بتاتيانا دون أن أراها تخطر في الحجرة متوجهة نحوي، وجاءت فوقفت بجانبي، وكنت أسمع تنفسها الصاعد المتراجع، وعرفت أنها كانت تنظر إلي لا إلى النافذة، فاعتصمت بالسكوت.
قالت تاتيانا (ما أشد وميض الجلد!) فلم أحر جواباً، وعادت تناديني وهي مترددة (أنتوني!) ولكنني كذلك لم أجب، فكررت النداء في صوت متهدج مرتجف فنظرت إليها.
وهنا أخذت تاتيانا ترتعش وتتمايل حتى أوشكت أن تقع، كأنما صعقتها تلك القوة المتوحشة المفترسة المرعبة التي كانت تطل من عيني، ثم وثبت إلى جانب زوجها، وكان في تلك الآونة قد رجع، وتمتمت الكسيز!. . السكيز. . . إنه. . . .
فقال (ماذا تريدين؟).
قلت دون ابتسام بل في صوت خشن مخيف (إنها تعتقد أنني أريد أأقتلك بهذه الأداة) هذا ورحت أرفع في سكون وخفة وصمت الثقالة وتقدمت رويداً نحو الكسيز، فشخص في بصره مصفراً مذهولاً مبهوتاً، وهو يكرر هذه الكلمات هي تعتقد. . . قلت (نعم هي تعتقد!) ورفعت ذراعي في رفق وأنا أشير بالأداة وألوح، وبدأ الكسيز في مثل رفقي يرفع هو الآخر ذراعه، وعيناه لم تغادرا وجهي، فصحت به في خشونة وغلظة أن (قف!) وعند ذاك تراخت ذراعاه، وبقيت عيناه مستقرة على، وبدت على شفتيه ابتسامة ضعيفة ذابلة متهمة، وصرخت تاتانيا صراخاً مرعباً مزعجاً، ولكن كان الوقت قد أزف!.
نعم بحد تلك الثقالة أهويت على الكسيز أضربه فوق جبهته، وقد أنبأني القضاة يا سادة إنني ضربته عدة ضربات، إذ رأوا جمجمة القتيل مفتتة مبددة، ولكن هذا أيها السادة مخالف للحقيقة، أنا ضربت الكسيز ثلاث ضربات لا غير، واحدة وكان واقفاً واثنان وهو مطروح على أرض الحجرة.
نعم، الحق أقول أن الضربات كانت شديدة قاسية، ولكنها ثلاث ضربات ولا تزيد، إنني أذكر جد الذكري، نعم، ثلاث ضربات!.
ـ 5 ـ
أرجوكم يا سادتي أن لا تتبعوا أنفسكم في تحليل هذه الكلمات التي كتبتها في ختام الفصل الرابع، ولا تلقوا كثير أهمية على شطبى بعض الكلمات وحذفاتي، لا تعدوها دلائل على عقل مضطرب مجنون، فإن موقفي الغريب الآن يدعوني إلى أن أكون دقيقاً موفياً كل صغيرة، أريد أن أكون أمامكم صريحاً حراً ساذجاً، فافهموا ذلك عني واحفظوه.
وتعلمون أنتم أن لظلام الليل تأثيراً شديداً على الأعصاب المتعبة المنهوكة، ولذلك ترون أن الأفكار المزعجة والخواطر السوداء المخيفة لا تجيئنا إلا مع الظلمة ولا تغشى رؤسنا إلا مع الليل، ولذلك كانت أعصابي في الساعات المظلمة التي أعقبت الجريمة غرضاً لاضطراب مدهش غريب، نعم ما أشد حاجة من كان في مكاني إلى قوة كبرى على ضبط مشاعره، إن قتل رجل ليس مزاحاً!.
فلما كان وقت تناول الشاي، بعد أن نظمت بزتي، وقلمت أظفاري، وغيرت أثوابي، دعوت طاهيتي ماريا فازيليفنا إلى الجلوس بجانبي، وكانت هذه المرأة الحمقاء هي التي ضربتني الضربة الأولى.
قلت لها تعالي فقبليني. .
فضحكت ضحكة بلهاء وظلت جامدة في مكانها، قلت (تعالي) فارتجفت، ثم أحمر وجهها، وبدت في عينيها إمارات الرعب، وأقبلت نحوي فاتكأت على الخوان في مظهر الذليل الخاضع المتوسل فقالت (يا صديقي أنتوني اضرع إليك إلا ما ذهبت إلى الطبيب) فقلت وأنا مندهش مغضب (ماذا، أأذهب إليه ثانية؟) فصاحت المرأة (ويلاه، لا نصح هذا الصياح، إنك تخيفني، إنني مرتاعة منك يا صديقي).
كل ذلك وهي لم تكن تعلم شيئاً عن نوباتي حتى تلك الساعة ولا عن المقتل، بل كنت أبدو أمام تلك المرأة هادئاً وديعاً حدباً حنوناً.
عند ذلك تولاني خاطر غريب. قلت (إذن إن بي شيئاً ليس بالناس، شيئاً يخيف القوم ويرعب) ولكني طردت هذا الخاطر في الحال، ومع ذلك غادر في إحساساً غريباً، وشعرت ببرودة في ظهري ومفاصلي، وجعلت أعلل نفسي بأن ماريا علمت ولا ريب بمرضي من أهل البلد أو من ألسنة الخدم، أو لعلها لاحظت ملابسي الممزقة التي خلعتها عني، فكان ذلك داعياً لهذا الرعب الذي أبدت، فقلت (اذهبي!).
فلما تولت مددت جسمي على المقعد الطويل أمام مكتبي، ولكنني لم أشعر بميل إلى القراءة، بل أحسست بتراخ ووهن شديدين، كما يكون من الممثل بعد الإبداع في دوره. وثقل جفناي، وتراخت أهدابي وشعرت بطائف النوم وإذا بخاطر جديد قد نفذ إلى رأسي، جعل ينساب بطيئاً بليداً متكاسلاً، وكان له كل المزايا التي امتازت بها خواطري - الوضوح والإيجاز والبساطة، نعم نفذ إلى رأسي واستقر، وها أنا ألقيه إليكم أيها السادة حرفاً بحرف، في صورة الغائب، وهكذا خطر لي، وإن كنت لا أعرف السبب، وهذا هو (إن من المحتمل جداً أن الدكتور كرجنترف حقاً مجنون. هو ظن أنه قد تظاهر بالجنون ولكنه في الحقيقة مجنون. إنه في هذه اللحظة مجنون وأعاد هذا الخاطر نفسه في ذهني ثلاث مرات أو أربع، وظللت أضحك، لأنني لم أفهم (إنه ظن أنه قد تظاهر بالجنون. ولكنه في الحقيقة مجنون، إنه في هذه اللحظة مجنون).
وتوهمت أول الأمر أن هذه الكلمات قالتها ماريا، إذ بد إلى أن الكلمات قد وجدت صوتاً. وإن هذا الصوت يشبه صوتها، ثم ظننت أنه صوت الكسيز، نعم صوت القتيل الكسيز، وأخيراً تبينت أنني أنا الذي رددت هذا الخاطر، وكان هذا شنيعاً مرعباً.
هنا أمسكت بشعر رأسي ووثبت واقفاً في بهرة الحجرة أقول (هو ذلك. انتهى كل شيء! لقد وقع الذي خفت أن يكون، إنني اقتربت من الحدود ودانيت، والآن لا يحفظ لي المستقبل إلا شيئاً واحداً. . . هو الجنون!).
فلما جاءوا للقبض على كنت كما يظهر في حالة مخيفة رهيبة، كان وجهي المتوحش الشاحب تقشعر لرؤيته الأبدان، كانت ملابسي ممزقة قطعاً وإرباً، ولكن أنشدكم الله يا سادة، أن رجلاً يقضي مثلي المساء المخيف الذي قضيت دون أن يجن عقله، ألا يدل ذلك على أن لي عقلاً قوياً جباراً صلباً؟.
إنني لم أحدث شيئاً أكثر من تمزيق ثيابي وتحطيم الزجاج، وعلى ذكر الزجاج اسمحوا لي يا سادة أن أدلي إليكم بنصيحة، إذا قدر لأحدكم أن يعاني ما عانيت ذلك المساء فليثق من تغطية مرايا الحجرة التي هو بها وليغطها كما تغطى إذا مات في البيت ميت نعم احجبوها وأجيدوا الحجاب!.
ولا أذكر بعد ذلك شيئاً حتى وصول الشرط، وسألت كم الوقت فإنما نحن في التاسعة، فكدت لا أصدق بأنه لم يمض على قتل الكسيز إلا ثلاث ساعات فقط وإن كنت أتذكر فلا أذكر إلا شيئاً واحداً، هو خاطري، هو الصوت (إن الدكتور كرجنتزف ظن أنه قد تظاهر بالجنون وما كان في الحقيقة إلا مجنوناً).
وعند ذلك جسست نبضي فإذا هو مائة وثمانون، نعم، إن مجرد ذكرى ذلك الصوت كان كافياً لأن يثير دقات نبضي إلى هذا الحد.
ـ 6 ـ
والآن يا أساطين العلم وأرباب البحث إن منكم أطلب الجواب، هل أنا مجنون أم غير مجنون؟ إنكم ولا ريب ستنقسمون في أحكامكم، سيقول البعض رأياً، ويقول البعض الآخر نقيضه، ولكني أعدكم يا سادتي أن أصدقكم جميعاً، فأعطوني فقط آراءكم وها أنا أقص عليكم كذلك تافهة أخرى، ولكنها حادثة هامة قد نعين أذهانكم المنيرة وعقولكم الخصبة اليانعة.
في ذات مساء هادئ ساذج، بين هذه الجدران البيضاء لاحظت أن الممرضة ما كانت تنظر نظرات خائفة مذعورة مضطربة كأنما انزعجت من شيء مخيف، وتركت الحجرة فظللت وحيداً جالساً فوق الفراش وهنا جعلت أفكر وبدا لي أنني أريد أن أعمل أعمالاً غريبة - نعم، أنا الدكتور كرجنتزف أردت أن أنبح، نعم، لا أصرخ بل أنبح، كما يفعل الآخرون، أردت أن أمزق ثيابي وأجرح وجهي وأخدش، أردت أن آخذ بتلابيب القميص وأشقه شقتين حتى الحاشية، وأنا، أنا الدكتور كرجنتزف، أردت أن أنزل على راحتي وركبتي وأزحف! وكان السكون حولي سائداً، وقطع البرد تلمع فوق زجاج النوافذ، وعن كثب مني كانت ما تصلى لله في صمت، فلبثت مدة أعرض على ذهني أي عمل من هذه الأعمال، أن نبحث أثرت ضوضاء وضحكاً وسخرية، وإذا مزقت قميصي عرفت في اليوم التالي، وبكل تعقل وتدبير أردت أن أحقق الرغبة الثالثة، وهي أن أزحف، نعم لن يسمعني أحد وإذا جاء إنسان ورآني، أقول إنني كنت أفتقد زراراً سقط.
وهنا فكرت (ولكن لماذا أريد أن أزحف، هل أنا حقاً مجنون؟).
وتولاني الرعب، ثم تولتني رغبة شديدة في أن أقوم بالثلاثة معاً، أنبح وأزحف وأجرح نفسي، فأخذني الغضب.
وسألت نفسي (أتريد أن تزحف؟) فلم أسمع جواباً، فأعدت السؤال (أتريد أن تزحف؟) فلم يكن جواب.
قلت (إذن فلنزحف!) وشمرت عن ساعدي ونزلت على أربع وانطلقت أزحف وما بلغت وسط الحجرة حتى تبينت حماقتي فجلست على الأرض في فكاني ورحت أضحك، أضحك، نعم أضحك.
ولما كنت لا أبرح على اعتقادي أن المرء يستطيع بالبحث أن يهتدي إلى شيء من الحقيقة والمعرفة، قد أخذت على عاتقي أن أهتدي إلى مصدر هذه الرغبات المجنونة التي خطرت لي، أجل هي ولا ريب وليدة خاطري، وإن فكرة التظاهر بالجنون هي التي استدعت مني هذه الرغبات، فلما حققتها لم أعد مجنوناً ولكن يا سادة زحفت، زحفت، أي رجل أنا، أمجنون يعتذر عن نفسه أم عاقل ذو لب يمشي في دوره إلى الجنون. تعالوا إذن يا سادة إلى نجدتي، اجعلوا رجاحة ألبابكم تعلو أو تهبط بإحدى الكفتين، حلوا لأجلي هذا السؤال القاسي، آه ما أقلقني في انتظار حكمكم، هل أنا مجنون؟. (تمت).