مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/النوم والفضيلة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/النوم والفضيلة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1915



سمع الحكيم زارثوسترا بفيلسوف جليل يجيد الكلام على الفضيلة والنوم ويفسر أسرارهما وإن هذا الفيلسوف يأتيه طلاب العلم من كل فج عميق فيلتفون حوله ويشنف هو آذانهم بلالئ الحكمة، فوفد (زارثوسترا) على هذا الفيلسوف في الوافدين وانتظم في سلك حلقته حتى إذا التف المحفل واحتشد القوم انبرى الفيلسوف يقول:

إن للنوم لجلالاً وروعة وإن له لموقعاً عظيماً في صدور من يبصرون آيته، وهيبة وإكباراً في نفوس من يقفون في حضرته. ألا ترى اللص نفسه يرهقه الخشوع إذا صار في جوار النوم؟ ألا تراه يدب بالليل في خفية ويسير في الظلام الهوينا؟ وإن كان الخفير - أخزاه الله وآذاه - لا يرعي للنوم هذه الحرمة فتراه يصيح جوف الليل كالبعير.

ليس النوم مطلباً سهلاً وعملاً هيناً ودليل ذلك أنك لا تستطيع استدراجه إلا بإمضائك النهار الطويل مستيقظاً.

ولكي تضمن نيل النوم ليلاً يجب عليك أن تغلب شهوتك وتقهر نفسك عشر مرات بالنهار. فإن محاربتك النفس وقهرها يحدث في قواك وهنا مستلذا وتعباً مريحاً وهو بمثابة مخدر للروح ومنوم.

ولكي يأتيك النوم عفواً ينبغي لك بعد محاربتك النفس وقهرها أن ترجع إليها مسالماً ملا ينا فتصالحها لأن قهر النفس أليم. وخصيم نفسه خليق أن يبيت خصيم نومه وأيضاً ينبغي لك أن تحصل أثناء النهار عشر حقائق وإلا اضطررت إلى التماس الحقيقة أثناء الليل فحرمت طيب الوسن. وبت بروح جائعة.

وكذلك يجب عليك أن تضحك في خلال النهار عشر مرات وتبش وتنشرح وإلا لم تأمن أن تثور عليك بالليل المعدة - أم الشرور والمضار. وقرارة المحن والأكدار.

وعلى من طلب النوم المطمئن أن يشعر قلبه الفضائل كافة. فإنه لا نوم لمن حضرت فراشه هاجسات الرذائل والخباثث توسوس له فيطفق يناجي نفسه بمثل هذه الكلمات أأشهد الزور؟ أأقترف السفاح؟ أأغوي فتاة جاري؟؟. أأخون صاحبي؟ هذه الوساوس وأمثالها لا تجرئ مع النوم في طريق واحد.

ولا يكفيك استحضارك الفضائل حتى ثنيم هذه الفضائل في الوقت المناسب فإنك أن أبقيتها ياقظة ناقشتك الحساب وخاصمتك وحاجتك وما هذا مما يجلب النوم.

ومن مطالب النوم أيضاً طاعتك العمياء للحكومة وتحبيذها وتقديسها سواء أكانت قويمة أم عوجاء، صحيحة أم عرجاء، وماذا يجدي سهرك وطول تفكيرك إذا آثرت السلطة أن تسعى على رجلين عوجاوين، وقدمين عرجاوين؟.

وعندي أن الذي يسوق النوم إلى المرعي الأخضر الخصيب هو أكيس الرعاة وأحزمهم، على أن هذا من مستلزمات النوم.

لست أطلب الثراء الطائل ولا المجد المؤثل فإنهما من مهجيات الخاطر، غير أني أكره أن أعير جنبي الفراش وأنا بعد مجرد من طيب السمعة صفر من المال.

لا أحب خلو الدار من الضيوف، وللقليل من هؤلاء أحب إلى من كثرتهم، واشتراطي - بعد - أن يكون قدومهم وذهابهم في الأوان الموافق وإلا نغصوا على نومي.

هذا وضعاف الأحلام من هؤلاء الجلساء أشهى إلى من أولى الألباب ووقدة الذكاء إذ كانوا أجلب للنوم، بارك الله فيهم إنهم المسكنون لثائرة الذهن المنيمون هياج الأعصاب ولا سيما حين يتلقي أحدنا كلامهم بالموافقة، ويستقبل قولهم بالمطابقة. ط

كذلك يمر نهار الأخيار، ويختم يوم الأبرار، فإذا جن الليل تراني أحاذر أن أدعو النوم، لأن من خصال النوم أنه لا يحب أن يدعى.

ولكني أعرض على ضمير سجل يومي وأجيل نظري في صحيفة نهاري لا نظر ما أخذت وأعطيت وما صنعت وتركت، وما نفذت وفكرت. ثم أسرد تلك الأعمال والأفكار على مقلة النقد والتبصر كما تجتر البهيمة ما استودعته أمعاءها من الغذاء أثناء رعيها فأسائل نفسي:

ماذا كانت عشر غزواتك لنفسك؟ وماذا كانت عشر مسالماتك لها؟ وماذا كانت العشر الحقائق التي استنبطت؟ وماذا كانت العشر الضحكات التي سليت بها نفسك.

فبينما أنا وسط هذه الخواطر الأربعين تديرني وتقلبني إذا بالنوم يدهمني بغتة غير مدعو ولا منتظر.

ثم ماذا يصنع؟ ينقر على جفني خفيفاً فيثقل جفني ثم يلمس فمي فأبقي فاغراً فمي.

أجل يمشي النوم إلى الضراء. ويسري إلى في خفاء. يدب إلى هذا اللص المعشوق والسارق المحبوب فينهب أفكاري ويستلب لبي. فإذا أنا مفقود الحركة أشد تبلداً من الجماد. (انتهى كلام الفيلسوف).

فلما وعي زار ثوسترا مقالة الحكيم ضحك خفية فكنت تراه يسرق الضحك من شدة الحياء في جيبه وقال في نفسه:

إني لأضحك من هذا الفيلسوف الأبلة إذ أتخيله محفوفاً بأفكاره الأربعين ولكني أحسده على نعمة النوم العميق وأشهد له بالسبق في هذا المضمار وإحراز تلك الغاية - أعني النوم المطمئن الهني.

فطوبى لمن رزقه الحظ جوار هذا الحكيم وبشره بطول الرقاد. وقلة قلق الوساد. لأنه ليس فيما أعلم شيء هو أعدي من النوم حتى ولو حال دون العدوى جدار من اسمك الجدران.

بل إني لأحسب في أعواد منبره الذي منه يخطب طلابه لسحراً منيما - أعني بياناً يفيض في أذهانهم ينبهها كيما يكون تيقظها هذا أدعي إلى النوم العميق ليلاً. ولعمري إذا كانت الحياة كما يزعمون خلواً من الحكمة فلم أجد بداً من استماع الهذيان إذن فهذيان هذا الرجل أحب إلى وأشهى إلى أذني من كل لغو غيره والسلام.