مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/عالم الأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/عالم الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1914



ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين.

شذرات من فلسفة الشاعر موسية

الملاحدة

رأى هؤلاء الملاحدة الفقير ينزل على جور الغني، والضعيف يرضى بظلم القوي رأوه يقول لنفسه في نجواه ليعسفني الأغنياء في هذه الأرض، وليرهقني الأقوياء فإني لواقف يوم القيامة على باب الجنة، أحول بينهم وبين عرائشها ومقاصيرها شاكياً إلى الله سوء ما لقيت، رافعاً إليه الظلامات التي عانيت ثم رأوا المسكين وا أسفاه يعتصم من هذه المسلاة بالصبر، ويعدل من هذه المناجاة إلى الراحة والسكون، عند ذلك يهيبون به وما بالك تخلد إلى الصبر حتى يوم العدل، وليس هناك من عدل، وترتقب الأبدية لتأخذ بثارك وتظفر بترتك، وليس من أبدية، إنك لتجمع قطرات الدمع التي فاضت بها عينك، وتدخر لآلئ العبرات التي ذرفها أطفالك وسكبتها زوجتك، وتختزن صيحات أفراخك، وعولات صبيانك، وأنات امرأتك، لتحملها يوم الحساب إلى ربك، وليس ثمة من رب.

فلو سمع الفقير ذلك زجر دمعه، وكفكف غرب عبرته، وحظر على امرأته الشكاة ومنعها الأنين، وعمد إلى بنيه فصحبهم إلى العقل خفيف الروح مرير القوى، شديد المراس. إنه ليصرخ إذ ذاك في وجه الغنى أنت يا من كنت تظلمني وتعسف، لست إلا رجلاً مثلي، وإنه ليصيح بالقسيس أنت يا من كنت توجرني السلوى، وتجرعني العزاء، لقد كنت تكذبني.

هذا ما يريد الملاحدة، هذا ما يطلب أعداء المؤمنين، ولعلهم يعتقدون أنهم بهذا يريدون السعادة للناس، بتحريضهم الفقراء على الحرب للحرية.

ولكن أربعوا على أنفسكم أيها الملاحدة، إنه لو تعلم الفقير يوماً أن القساوسة تخدعه، وإن الأغنياء تنهبه وتجيعه، وإن الناس جميعاً في الحقوق سواء. وإن الخير كله في هذا العالم، ولو ركن إلى نفسه وحدها وإلى قوة ذراعيه، فلعله قائل يوماً الحرب الحرب على الأغنياء! لي مثلهم نعمى هذه الأرض وبهجتها، إذ ليس هناك غيرها. لي الأرض! إذ كانت السماء خلوا فضاء، لي بل وللجميع، إذ كان الجميع في الحق سواء، فليت شعري أيها العقلاء المنطقيون الأعلام، ماذا تراكم قائلين له إذا عاد من هذه الحرب بالهزيمة، ورجع من الملحمة بخيبة المسعي؟.

أنتم ولاشك قوم أخيار محسنون وأنتم على حق في تدبير مستقبلكم، وسيأتي اليوم الذي فيه تسعدون، أما اليوم فنحن لا نستطيع أن نسعدكم ولا نستطيع أن نرضيكم الآن يقول الظالم لي الأرض!. . فيرد عليه المظلوم ولي السماء! ولكن بماذا هو مجيب إذا انكفأ من الحرب على الظالم مذموماً مدحوراً؟.

عبادة الملحدين

نعم - ولسوء الحظ - إن في الاجتراء على الله والتسخط عليه ترويحاً عظيماً للقلب المفعم المترع إن الملحد الذي يخرج ساعته من جيبه فيفرد بضع دقائق الله يتمرد فيها عليه ويثور ويلعن ويشتم، برى في هذه الدقائق القليلة كأنه استرجع لذة شقية شريرة، بل إنها لنوبة عصبية من نوبات اليأس، إنها لاستصراخة في الحقيقة بكل قوى السماء، إنها مخلوق شقي ضعيف يئن تحت القدم التي تسحقه، هي صيحة يأس عظيمة - ولكن من يعلم؟ لعلها في عين الذي يرى كل شيء نوع من أنواع الصلاة، وضرب من ضروب التسبيح.

عباس حلفظ

فردريك نيتشه الفيلسوف الألماني

ليست الفلاسفة جميعاً باجاً واحداً، بل هم ضربان مختلفان، وفريقان متباينان، فمنهم من نسميهم بالفلاسفة الأكاديميين أو النظريين، وهم أصحاب النظريات والطوبويات والمذاهب المتباينة المتعددة، وأولئك أمثال لوك وهوبز وهملتون وكونت وكانت وستوارت مل وسبنسر وغيرهم، ومنهم من ندعوهم بالإصلاحيين العمليين، مثل لوثر وروسو وفولتير وشوبنهور، أما الأولون فيفيدون الفكر الإنساني أكثر مما يخدمون الإنسانية نفسها، هم يعملون على توسيع نطاق العقل وتجديد ضروب المنطق والتخريج والتدليل، على نحو ما ترى من أصحاب الفرق والنحل في الإسلام، وأما الآخرون فهم الذين في حرب شديدة مع أبناء أجيالهم، هم الهادموا القديم البانوا الجديد، هم خدام الإنسانية العمليون، ومصلحوها الحقيقيون، وفي رأس هؤلاء يقف فردريك نيتشه الفيلسوف المتوقد المستعر العظيم.

ونحن مقدمون إلى القراء شذرات غريبة من حياة هذا الرجل الغريب المجنون في نظر أعدائه وكارهيه. وأعقل العقلاء في أعين شيعته ومريديه ومنصفيه، ومنه يتبين القراء كيف تعيش العظمة، وكيف يكون العبقري خارجاً على طبائع الناس شاذاً متمرداً على أخلاق الطبيعة، متوثباً متهجماً على شرائع العالم، وإننا مازلنا نري صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوفاً بلوثة أو سبة.

من أبدع ما وقع من الاتفاق إن هذا الرجل الذي كان أعدى أعداء الديمقراطية وأشد الأرستقراطيين كبراً وشمماً وزهواً وأرستقراطية، وأشدهم بغضاً لكل ما هو حقير - يحمل اسم نيتشة ومعناها في اللغة البولندية الرجل الحقير!.

بل أغرب من ذلك وأعجب أن نيتشة الخارج على المسيحية الواقع في تعاليمها الشائم لمبادئها، كان وهو غلام يتمنى على الله أن يصبح قسيساً كوالده، وكان يلقب في المدرسة القس نيتشه!

ثم لم يكد يجوز الربيع العشرين وهو في الجامعة، حتى بدأ هذا القس الغلام يخلع عنه الرداء المسيحي الذي خلعه عليه آباؤه وأجداده، بل تصور لنفسك مقدار دهشة أمه ابنة القسيس واستنكارها لولدها إذ رفض الفتى نيتشة يوم شم النسيم سنة 1865 أن يأتي كما هي العادة إلى العشاء الرباني وقد كتب يوماً وهو في المدرسة إلى أته وكانت تغار عليه من الريح إذا كنت تطلبين اطمئنان الروح وسعادة القلب فاعتقدي، وأما إذا كنت تريدين أن تكوني من خدام الحق ففكري ونقبي!.

وقد تعرف وهو شاب بواجنر أكبر الموسيقيين في العالم كله وكانت دار الموسيقى غير بعيدة عن داره، فلم يلبث أن أصبح الشاب نيتشه من المتحمسين لمذهب واجنر في الموسيقى الغاضبين له الناضجين عنه، وكان لواجنر في ذلك العهد أعداء كثر، فكم يوم مشرق جميل بهيج قضاه نيتشه في دار واجنر، وكم من لقاء حلو دار وحديث لذا طورح، ومضت أيام فأصبح نيتشه أعز عزيز في البيت وأحب زائر وأخلب جليس وكانت كوزما زوجة واجنر تميل إليه وتحب قربه، وتصبو إلى سمره، حتى لقد كانت توصيه بشراء اللعبات لأطفالها.

ولما ظهر كتابه (منشأ التراجيديا) وهو باكورة كتبه لم يصادف من الجمهور إلا الاشمئزاز والتأفف والإعراض، بل أنه لم يجد في أول الأمر من أصحاب المطابع من يرضى بطبعه، وكان هذا الكتاب تحية من نيتشه لواجنر، ودفاعاً عنه وإعلاء لذكره وتشييداً بمكانه، وليس من ريب في أن الموسيقي وزوجته قابلاً الكتاب بالهتاف والتصفيق والترحاب على الرغم من اشمئزاز الجمهور وتأففه، وأما الأساتذة رصفاء نيتشه فهزوا له أكتافهم، بل قال أستاذ منهم لتلاميذه (إن الكتاب سخافة بحتة لا معنى لها) وحتى أصبح الناس ينصحون للشبان بأن لا يذهبوا لتلقي علم اللغة في جامعة بال.

ولا تسل عن حزن نيتشه وابتئاسه، أضف إلى ذلك أن وجنر ترك منزله في لوزون، فحرم نيتشه كذلك لقاء كوزما وسمرها وحديثها الرطب الجميل وكان هذا الرحيل ممهداً للجفاء بين الفيلسوف والموسيقار ومدعاة للقطيعة والعداء، نعم إن نيتشه عمل كل ما في سعته بقلمه وحبيبه لإنجاح واجنر والصعود به ذروة الشهرة الخالدة ولكن كان نيتشه في الوقت نفسه يخشى أن يعد واجنر يا ليس إلا وأن لا يحترم لقيمته الشخصية، وكان الجفاء ينمو بينهما ويكبر ويزداد وإن لم يصارح أحدهما به الآخر نعم إن واجنر ولا ريب كان ينظر بعض الأحيان إلى نيتشه كآلة من آلات شهرته ولكن أي رجل يلقى في طريقه عبقرية كهذه ولا يستخدمها لصالحه؟ على أن واجنر كان رفيقاً بصاحبه حدباً عليه مكرماً له، وكان يهتم بشأنه ويعني بحاله. ولو كان نيتشه اتبع نصيحة واجنر له وهي (تزوج يا صاح ثم سح) فمن يدري لعلنا كنا مبصرين من نيتشه أعظم من هذا وأسمى؟.

ومرض نيتشه مرضاً شديداً فانتقل إلى إيطاليا طلباً للصحة واسترجاعاً للعافية وكان وهو في مدينة جنوه يعيش أخشن العيش، ويحيا حياة البؤساء، بل كان يجهز طعامه التافه بيده على السبرتو وكان إذا انتابه الصداع - وكثيراً كان ينتابه - يلقي بنفسه بعد العشاء متبطي على المتكأ غير مستصبح بمصباح، وكان يتشاور الجيران في أمره قائلين بعضهم لبعض إنه لفقير، لا يستطيع أن يوقد ولو شمعة واحدة ولذلك جاؤوه يوماً بمصباح، فكان يشكرهم نيتشه ويشرح لهم أوجاعه وعذابه ولكنهم كانوا لا يقولون عنه إلا (جارنا القديس).

ولما كان في نابولي مع صديق له تعرف بآنسة تدعى (مايسنباج) سيدة حلوة المحضر جذابة الحديث، لها في الأدب قسط، ومن القلم نصيب، ولقد فرح بها نيتشه فرحاً عظيماً، فكتبت له يوماً وهو في وحدته في جنوه تدعوه لزيارة روما فأذعن، وكانت ترأمه كما ترأم الأم وليدها، وكانت تعطف عليه وتهتم له، وكانت تريد أن تجد له زوجة تكون برداً على روحه الحزينة الوحيدة وسلاماً، بل أن نيتشه نفسه كتب إليها يوماً لا أكذبك حاجتي، أنا لا أريد إلا امرأة فوجدت من توسمت فيها الخير لهذا الفيلسوف الجوالة الهائم الحزين، وهي الآنسة سالومية، فتاة حسناء. فاتنة لم تكن جازت العشرين، فما وقع بصر نيتشه عليها حتى نزلت في حبة فؤاده، وما لبث أن راح في جمالها صبا مدلها، ومضي دهر فسألها الزواج ولكنها قابلت ذلك بالرفض فظل مع ذلك في قربها شهرين آخرين. ولكن لم يلبث أن تقاطعا وتهاجرا بغتة واحدة، ولا يعرف أحد من الناس ماذا كان يجري وراء الستار، لأن سالومية نفسها وأخت نيتشه قد سكتا عن ذلك حتى اليوم ولا يريدان أن يشرحا لنا أسرار هذه المأساة الكوميدية، ولم يخسر نيتشه فقط هذه الرفيقة الجميلة الحسناء - هذه المرأة الفاتنة التي أراد أن يظفر منها بالزوجة المخلصة الحنون العطوف، بل خسر من أجلها صداقة عزيز لديه وصاحب من أكرم صحبه عليه وهو صديقه (ري) لأنه اتهمه بالخيانة، وارتاب في سلوكه مع سالومية.

وكان نيتشه يميل إلى النكتة القارصة، قالت له يوماً سيدة إنكليزية مهزولة البدن غير موفورة الصحة نحيلة اللحم (أنا عالمة يا مستر نيتشه بأنك تاتب، فلهذا أريد أن أقرأ كتبك) فما كان منه إلا أن أجاب (كلا، إني لا أريدك أن تقرأي كتبي، فإنه إذا كان ما كتبته حقاً فإن امرأة ضعيفة مثلك لا يجب أن تعيش!).

وبدأ يعاني بعد ذلك آلام الأرق فكان يتحصن منه بالعقاقير، وأخذ مخه يضطرب رويداً في بطء، فقد كتب في سنة 1888 إلى الآنسة ما ينسباج (لقد أخرجت للعالم أعمق كتاب، أنا أكبر رجل في أوروبا، أنا الكاتب الوحيد في ألمانيا).

ووضع في تلك السنة وهو على هذه الحال من اضطراب الذهن كتاباً ساماً مراً مقذعاً في صديقه ومعبوده القديم واجنر يقول فيه، إن واجنر إن هو إلا ممثل وليس من الموسيقار في شيء، هو عارض من عوارض الحياة المنحطة الضئيلة المسكينة الفقيرة، هو أفعى سامة ذات ضوضاء وصليل، هو مثال الانحطاط التام الكامل، إن موسيقاه ليست إلا موسيقى مسيحية.

وكان آخر كتاب كتبه هو () أي (أناهو) فكان ختاماً حلواً لموته الذهني، كتبه في أسابيع قليلة، هو رسالة لذيذة ولكنها محزنة، بقلة ناضرة، ولكن سامة، تطرف فيها وأبعد وبلغ بها أقصى حدود الرضى عن نفسه وأبعد تخوم الهو بها، وترى أسلوبه في هذه الاعترافات وثاباً طافراً قافزاً، وإليك عناوين الفصول الشائقة في الكتاب - لماذا أنا عاقل إلى هذا الحد - لماذا أنا نشيط إلى هذه الدرجة - لماذا أكتب هذه الكتب الحلوة الجميلة - أنا وهايني أعظم كتاب الألمانية في الأرض - لقد قمت بأعمال هائلة، أعمال لا يقدر عليها أي رجل في هذه الأيام، إن قراءة كتاب من كتبي لأعظم شرف يمكن للإنسان أن يظفر به، لم يكن هناك بسيكولوجيا قبلي.

ووقع المصاب الأكبر في أوائل يناير سنة 1889.

جن نيتشه جنوناً متوحشاً مفترساً كطبقاً - كان كلامه صريخاً وحديثه شجاراً عنيفاً، كان يشتري أتفه السلع ويدفع في مقابلها الجنيه والجنيهين، كان يصور له الجنون أنه قاتل مشهور وأنه ملك إيطاليا وأنه. . . . الله.

وكان يصيح في شوارع المدينة ويصرخ في السابلة تعالوا إلى السعادة!. . إني مجنوناً عشر سنوات طوال، وقضى نحبه في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1900 ملتهب الرئتين.

هذا هو الرجل الذي قتلته الوحدة. وخنقه إهمال العصر، وذهب بلبه جهل الجيل.

تناسخ الأرواح

بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان لي صديق عريض الدعوى يزعم أنه عميد أهل العلم، وأمام أولى العرفان، وقبلة المحققين والمجتهدين، صاحبته دهراً فما عرضت لنا مسألة إلا ادعى أنه توفر حظه منها وأحاط بأصولها وفروعها، ووقف على جلائلها ودقائقها، ومن أقواله المأثورة التي يرويها عنه كل من أمتع به إن كل شيء أفعله له لو علمتم سبب يدفعني إليه فمن ذلك أن عنده قرداً صغيراً قد كلف به الكلف الشديد فسألته في ذلك مرة فقال: إنكم معشر الماديين لا تعرفون من الحقائق إلا ما يلمس باليد ولا تؤمنون إلا بما يناله الحس وتتطلع عليه المدارك على نقصها وعجزها أما ما وراء ذلك فلا قبل لكن به وكيف وأنتم لا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم ولا تنضون رواحل أذهانكم إلا إلى ما ليس وراءه طائل من الأمور المادية فإذا سمعتم شيئاً عن الروح قلتم سخف وهراء. فإذا جادلنا كم قلتم هاتوا دليلا علمياً، أفحسبتم أن الروح مما يوضع في موازينكم الحساسة ويطحن في هاوونكم العلمي ويغلى ويحلل على نار (بنسن)؟ كلا! يا سيدي آمنوا بالروح فإنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، قلت ومن أنبأك إني لا أؤمن بها. قال ما كنت أحسبك إلا كغيرك ممن سدت المعامل في وجوههم منافذ النظر والتفكير. ثم اندفع يحدثني عن الروح وأنا أنظر إليه كمن غبى عنه معني ما يسمع ويقول إن الأرواح بعد الموت لا تفني ولا يتقاضاها ما يتقاضى الجسم من البلى بل تلبس أجساماً أخرى وكلما بلى بدن خلعته وإكتست غيره وكثيراً ما حدث أني أبصرت عصفوراً يعذبه أصحابه فابتعته منهم وأطلقته إذ ما يدريني لعل في جسم هذا العصفور وروح قريب لي أو عزيز علي ومن أجل هذا تراني أكرم هذا القرد وأبالغ في توفير أسباب الراحة له ثم أطرق وجعل ينكت الأرض بعصاه وقال بصوت خافت كأنما يحدث نفسه إلا من لي أن يرحم الناس هذا الروح التي بين جنبي إذا انتقلت إلى جثمان غير جثماني! ثم ودعته وانصرفت وأنفق لي بعد ذلك أن زرته فأبطأ على وكان في المكان قلم ودواة وورق فتناولتها وكتبت له هذه الرسالة على لسان القرد وتركتها تحت عينه:

سيدي ومالك رقي

لقد حرمتني المقادير نعمة النطق بما سلبتني من الإنسانية ووهبتني من الحيوية فلم يكن في مقدوري وهذه حالي من العجمة إن أفصح لسيدي عن شكري لصنائعه وأياديه وأكشف له عن حقيقة أمري حتى قيض الله لي هذه الأدوات فأحببت أن أقفه على ما يجهل من أمري جزاء ما قلدني من النعم وطوقني من المنن فليعلم سيدي إني كنت في أول حياتي وبدء نشأتي كبير البراهمة وعميدهم في الهند يرجعون إلى في الشدائد ويستصبحون برأيي في كل معضل من الأمور وعويصة من المسائل ولم أزل بينهم مسموع الكلمة محترم الرأي ملحوظ المنزلة حتى وافاني القدر المحتوم فنفضت عني رمتي وانتقلت إلى جسم آخر فلم أزل صاعداً في مدارج الشرف ومراتب الجاه حتى صرت وزيراً لبعض الملوك ولكن طبيعة الإمارة والحكم أفسدت من خلقي ولوثت طهارة البرهمي لما تدعو إليه من الظلم وتحمل عليه من الجو والتعسف وأخذ الناس بالقسوة والعنف في بعض المواطن وحمل الرعية على الطاعة والاحتفاظ بما في اليد من قوة ونفوذ والحرص على السيادة لاسيما في تلك الأعصر الأولى فزينت لي نفسي أن أستأثر بالأمر دون الملك وسولت لي أن أنزله عن سريره فدبرت لذلك مكيدة وتآمرت مع الساقي على أن يدس السم في كأس الملك ولكنه لسوء حظي أخطأ فناولني الكأس المسمومة فمت لساعتي بين يدي الملك ونجا الساقي اللعين بحياته غذ زعم عند الملك أنه تواطأ معي ليوقعني في شر أعمالي.

وكأن الأقدار أرادت أن تسلط على بأس انتقامها وتجزيني بإساءتي الماضية فألبستني جلدة مصري فتزوجت امرأة جعلتني عبرة في الغابرين ومثلاً وأحدوثة في المتأخرين ولقيت من ذل العيش وثقل الدين وسوء العشرة ما جعلني أمضى سابقاً أجلي.

وكانت هجرتي الثانية إلى قاض شرعي فذكرت ما كنت فيه من الدين والحاجة والفقر فقبضت يدي كل القبض وعشت عيالاً على الناس وحميلة على أهل البر حتى صرت بغيضاً إلى الناس مشنوءاً من صغارهم وكبارهم على السواء فعزلت لسوء سيرتي وشناعتها وقضيت بقية أيامي في بؤس وخصاصة.

ثم صرت بعد 1لك نملة فسمكة ولو شئت أن أقص عليك كل أدوار حياتي وكيف تقلبت بي الأحوال. وتنقلت بي الظروف من مدرس إلى جرذ إلى عصفور لأحتجت إلى السنين الطوال لشرحها وتبيانها ولكن أذكرك يا سيدي بتلك الفتاة التي ملك عناتها حبك وخلب لبها فضلك وحسنك والتي كانت تطالعك مع الشمس من نافذتها كل صباح وتسهر لك الليل كل مساء حتى أصابها البرد وماتت، لترى يا سيدي أنا صديقان من قديم وإن ليست هذه أول مرة طوقتني فيها سلاسلك. فعسى أن تدوم لي نفحات برك لتقرن بين قديم النعم وحديثها وتجمع بين تالدها وطريفها.

عبدك العاني - القرد

فلما نزل صاحبنا ورأى القرد ينظر إلى الورقة ثم إليه تناولها وقرأها وما زال إلى اليوم في ليل من الشك مظلم لا يعلم أكتبتها له أم كتبها القرد.