مجلة البيان للبرقوقي/العدد 2/المقالات والرسائل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 2/المقالات والرسائل

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 9 - 1911



معرفة أخلاق الناس

للكاتب الانكليزي الكبير وليم هازلت

ما أقل ما نعرف من هذا الأمر مع كثرة الفرص وطول الدربة فكلما زاد فيه المرء علماً قل فهماً وزاد حيرة.

وإني لأذكر في حديث جرى بين جماعة منذ سنين أن أحدهم ذكر رجلاً تزوج امرأة بعد أن عاشرها ثلاث عشرة سنة فقال له آخر لعله استطاع في هذه المدة الطويلة أن يعرف أخلاقها. فأجابه الأول كلا فلعلها تظهر له في صبيحة العرس بصورة هي عكس ما أبصرها عليه أثناء السنين الثلاث عشرة. فسرني ذلك الجواب جداً وأخذني العجب لما ذكرت شدة صعوبة ذلك الأمر وأنه من المحال على المرء أن يقول لنفسه يوماً ما لقد انكشفت لي مغيبات صدر فلان. وقد خضت بنظراتي النافذات بين جوانح هذا الإنسان.

وهناك ثلاثة طرق للوصول إلى معرفة الأخلاق - من لوائح الوجه ثم من الحديث ثم من الفعال. والأولى أصدق الثلاث على ما يظهر للناس من ضعفها وبعدها من الحقيقة. وهي التي يجب أن يعتمد عليها مع إنكار الناس إياها وبراءتهم منها. فأما حديث الرجل وكلماته فطالما تكون دعاوي كاذبة لا معول عليها وأما أفعاله فربما كانت متكلفة غير حقيقية. ولكن لوائح الوجه هي ما لا طاقة للمرء بتكييفه كما يحب ويشتهي ولقد قال رجل من مشاهير الأدباء ما وهب الله المرء لسانه إلا ليستر به نواياه وأفكاره. وإنك إن تنظر إلى صورة كرومويل رأيته قد زر فمه كأنه يخشى عثرات اللسان إذا هو أرسله. وقد نصح إلينا اللورد شستر فلد في رسائله أنا إذا شئنا أن نعرف كوامن وجدان من نحادثه فلننظر إلى وجهه فإنه أشد سلطاناً على لسانه منه على أعضاء وجهه. وربما نافق الرجل طول عمره وتصنع حتى أصبحت حياته خدعة للناس ولنفسه. ومع ذلك فلو أتيح له مصور بارع فصوره لأثبت على الرقعة أخلاقه الحقيقية لإبصار الخلف والذرية وأبرزه بظهر اللوح عارياً من ثياب نفاقه واضحة للعيان حقيقته ما وضحت الشمس في رابعة النهار. وقد كانت آراء الناس في الأمير شارل الخامس شتى لعله من اختلاف الأهواء والأغراض ثم من تناقض أعماله وتباين أحواله ولكن من ألقى نظرة في صورة ذلك الأمير كما أبدعتها ريشة المصور الكبير تيتان عرف لأول وهلة من حقيقة أخلاق شارل الخامس ما تفرقت فيه ظنون من جالسوه وحادثوه وجهاً لوجه وفماً لفم. ولخير لي من أن يرثيني الشاعر بعد وفاتي بالكلام المنمق ويكتب سيرتي المؤرخ أن أخلف صورة لي من ريشة مصور صناع. فإن وجه هذه الصورة لينطق للناس بما جال في خاطري وحك في وجداني فأما ما جرى به لساني وفعلته يداي فهذا ما لا قيمة له بجانب الفكر والإحساس وصورة الشاعر دون أدل عندي على فضله من جميع ما نظمه. ولو أن صورة يولوس قيصر أشبهت صورة الدوق أوف ولنجتون لما رفعته في عيني أماديح المؤرخين والشراح. وقد قال صديقي فوسيت أنه لو سمع العالم الكبير اسحق نيوتن يلثغ في نطقه لما حفل به ولا رآه ذلك العظيم النابغة. وعلى كل حال فلست حاملاً نفسي على أن تشهد بالعظمة والبطولة لمن حمل وجهه صورة الحمق. وبدت في أساريره آية الغباء والخرق. وقد أكون في ذلك مخطئاً ولكني لا أبالي.

وبوادر الوجه (أعني أول ما تحدثه في نفسك هيئة الرجل وسحنته) هي في الغالب أصدق الشواهد. فإن سيما الوجه هي نتيجة السنين المتوالية وقد طبعتها على صحيفته أيدي الحوادث والصروف بل يد الطبيعة والفطرة فيتعذر على المرء أن يمحوها من وجهه. وقد يرى أحدنا الرجل لأول مرة فيشعر له بكراهة لا يعلم لها سبباً ثم تبدو من الرجل أفعاله جميلة وأحوال حسنة فتنسي في أثنائها تلك الكراهية حتى تكشف ظواهر الرجل عن باطنه فإذا هو قبيح خبيث وحينئذ نعلم أن الكراهة التي وجدناها له أول ما رأيناه كانت بحق وكان أهلها وجديرا بها. ومن الناس مننحس لهم كراهة وإن كنا قد عاشرناهم طويلاً ثم لا نذكر لهم عيباً. فنقول عن هؤلاء أن وجوههم أعداء لهم. وهذا خطأ لو دقتنا النظر. وما كان الوجه قط ليكون عدواً لصاحبه وإلا كان ذلك تناقضاً في مذهب الطبيعة. والطبيعة فوق كل هفوة وخطيئة. وإنما هناك سبب حقيقي لشعورنا نحو هؤلاء بنوع من الكراهة وهو إما جفاء في طباعهم أو أثرة (أنانية) أو قلة إخلاص لا نراها في فعلة أو كلمة معينة من أفعالهم أو أقوالهم ولكنا نراها في الرجل كله وفي شخصه أجمع. ومحاولة الرجل إخفاء هذه النقيصة بكل ما يمكنه هو أحد الأسباب التي تمنعنا أن نراها في شيء معين من أفعاله أو أقواله. وهذه نعمة من الله أن جعل لنا على أخلاق الناس فراسة تنظر بظهر الغيب إلى خبيات الصدور فتراها قبل أن تفشيها أعمال الرجل وأقواله وقد كنت أرى في بعض المنتديات رجلاً دمث الطباع لين الجانب حسن المنظر ولكن لعينيه معني منكراً تخاله ينظر إليك من خلال أهدابه ثم يفر منك بلحاظه فلا تكاد تراه. وقد كان هذا الرجل غشاشا ولصاً فأما من فاق أهل الرياء جميعاً وحمل لواء النفاق والخداع فتلك فتاة صغيرة حسناء حيية خجول منكسة الرأس في غالب الأحيان خاشعة البصر لها رقة كأنها السحر. وإنما كان يحدوني إلى اتهام أخلاقها أني كنت أرى في عينها نظرة ساجية شاخصة كأنما غشيت حدقتها طبقة من لماء أو الزجاج ثم كانت تقبل بهذه النظرة على الفضاء كأنها قد عزمت على أن لا تناقش عينها عينك ولا تتفاهم ألحاظها وألحاظك وكأني كنت أرى تحت سطحيهما (سطي عينيها) اللامعين الراكدين ما يكمن لي من الصخور والأوعاث.

ولا أرانا في تمام أنس وراحة مع ذوي العاهات وذلك لأنهم إذ كانوا ساخطين على أنفسهم فهم بالسخط على الجلساء أخلق وأولى. وبأن يأخذوا من الخلطاء والعشراء ثأرهم عند الطبيعة أجدر وأملى.

ومعرفة الأخلاق أمر شاق ومطلب عويص يحار فيه ويصدر عنه بالعجز والجهل. وجهلنا به ليس بقاصر على الأمم الأجنبية والطبقات التي هي فوقنا أو دوننا على الأصدقاء والأهل والأقارب بل أنا لنجهل من أنفسنا مثلما نجهل من الغير. وضلالنا في شأن الغير بسبب بعدنا من الموضوع كضلالنا في شأن أنفسنا بسبب شدة القرب منه.

فترى أهل الطبقة العليا والوسطي في معظم الأحيان على جهل تام بأخلاق من هم دونهم من الخدم وسكان القرى. وإني لأرسلها قاعدة عامة في هذا الموضوع أن جميع غير المتعلمين أهل نفاق ورياء. ولا هم لهم في الدنيا إلا الغش والخداع. لأنهم يرون أن بينهم وبين الطبقات العالية شبه عداوة وحرب ويرون أن الحرب خدعة وللخدم ملكات إبداعية وقوى اختراعية لا بد أن تصيب أهدافاً وأغراضاً والخال تقتضي أن تكون هذه الأهداف والأغراض هي أغراض أسيادهم ومن يشابهونهم ويشاكلونهم ويجرون مجراهم من الدرجة والحال والمنزلة. نعم إن مواد ذكائهم وأجزاء فطنتهم وبديهتهم لا تطرد بها مجاري القصص ولا تستقل بها مسايل الشعر والرواية وإن قرائحهم لا نغمس في غمرات الكتب ولا تشتمل عليها غيابات الأسفار ولكنها تبقى يقظة تتوقد منتصبة كأنها شوك القنفد أما تري تيار حديثهم يتقاذق بزبد الفكاهة ويتدافع بحباب المجون والمزح ويرمي بكل درة عذراء من جيد القول ولؤلؤة بكر من بارع الكلم. وما يزال أسيادهم يرفعون أنفسهم فوق هاماتهم وما يزالون هم يغضون من أقدار أسيادهم ويحطون من مقاماتهم لكي يلتقوا وإياهم في صعيد واحد ويجمع الفريقين طرفاً سواء. ويفعلون ذلك بتأليفهم من سقطات العائلة ومعايبها وعوارتها رواية يومية يمثلها بعضهم أمام بعض زائدين فيها من مخترعات قرائحهم وبنات أفكارهم ماشاؤا ثم يقلبون أخلاق أسيادهم وسيداتهم ظهرا لبطن ويبرزون مخبات ضمائرهم ومهما يصطنع لهم السيد من حسنة تكن أغرى لهم به وأهيج لهم عليه. وما كنت لتغلبهم بسلاح الحسنة ولا لتستبيهم بمصايد العرف والجميل. وما من حيلة لك تدفع بها احتقارهم إيالك واستخفافهم بك. وإنما يكون المعروف أبعث لهم على النقص من قيمته وعلى تسويد عرضك. وإنهم ليشعرون بأنهم فئة قد انحطت درجتها ظلماً وعدواناً وهضمت حقوقها بغياً وجوراً ثم لا يفهمون لماذا يذهب الأسياد بجميع النعم والمزايا ويبؤون هم بالذلة والحاجة والضعة من كل جانب. ثم لا تستطيع قط أن تصلح ما بينك وبينهم وترضيهم عنك وعن منزلتهم منك. ولو حاولت لاتهموك بأنك تخدعهم. فهم لا يتحلون قط عن إساءة الظن بك. فمن المحال أن ترجو لديهم الشكر وحسن النية وإرادة الخير لك. وكيف وما بينك وبينهم رابطة إخاء وعقد مساواة. فلا ثقة لهم بك ولا استئناس إليك ولا سكون لك. هم يرون أنك تنال منهم بتسلطك عليهم فينالوا منك بخديعتهم إياك وبالحيلة والكذب والمرواغة حتى يستردوا منك مسلوب حقوقهم ثم لا يمنعهم عن طرق الغش والنفاق مانع وما تألفت إلا من ذلك حياتهم. وأين منهم الصدق وهم لا يعرفونه. وإنما حب الصدق شأن من جعل الصدق ديدنه ومبدأه ممن انقطع لفن من الفنون أو لعلم من العلوم حيث يكد الذهن وينصب فيعتاد أن يتمسك بدقة الحساب ويفخر بصحة النتائج. ولا يمكن أن يتولد للنفس حب للصدق خال من الغرض حتى يكون المرء قد طال مزاولته للصدق وتأمله إياه في الأمور العقلية والمسائل البعيدة. والجاهل المنحط لم يزاول من الأمور والمسائل إلا ما اتصل بمنفعته. واختلط بمصلحته فكل أفكاره محلية شخصية ولذلك كانت خسيسة وضيعة. وكل ما سنح بخاطره جرى به لسانه لا ينظر حسناً كان أم قبيحاً. ويحول مجرى كل حادثة في طريق فائدته ولا يبالي أي أكذوبة يصوغون وأي باطل يزخرفون ما دام يلائم غاياتهم ثم لاذمة لهم ولا ورع ولا تقى ولا حياء من العار ولا خجل من الفضيحة ولا يقنعون بالبرهان ولا يذعنون للحق وإذا ناقشتهم بالحجة ضحكوا منك سخرية واستهزاء وليس لك عليهم من سبيل إلا أن تأتيهم من جهة مصلحتهم عندك كأن تطردهم من خدمتك فإذا تظاهروا لك بشيء من الندم ورجوك الصفح فإنما هو رياء منهم يضمرون وراءه شراً كبيراً. وهكذا يظل ذوو اللب والفضل والمروءة ولا حيلة لهم على أولئك المتوحشين اللابسي أزياء المدنية. وكيف وإنك لا تدري ماذا يهجس لك بخاطرهم ولا مبدأ هنالك ولا علامة تدل على ذلك. وليس بينك وبينهمز أدنى اتفاق في رأي أو فكرة. بل كل تناقض وتباين في الإحساس والنظر والمصلحة. وأنت تبني أعمالك على مبادئ ثابتة في الأخلاق. وعلى غاياتهم وأغراضهم لا على غيرها يبنون أعمالهم طرا. فإذا عناهم أمر أخلاقهم والتفتوا إلى تهذيب آدابهم كان باعثهم الوحيد على ذلك هو طلب المنفعة والفائدة لا حباً في الكمالات ورعياً لحرمة الأدب والواجب. فهم أبداً يكدون القرائح في أمرين - تصحيح السمعة وامراض الضمائر. وجملة القول أنك لن تصل معهم إلى حال من التفاهم والتوافق حتى لكانهم في ذلك صنف غريب من الحيوان وليسوا أبناء أبيك آدم. فإن وثقت بهم كذبوك. أو ائتمنتهم خانوك. ثم لا يغرنك منهم ملق وخضوع وطاعة وخشوع. فلقد تتفضل على خادم أحد المطاعم بمحادثتك إياه وعطفك عليه ثم لا تكاد تعطيه كتفيك حتى تسمعه ينبذك باللقب الخبيث. وإذا أهديت ابنة المرأة التي أنت نازل عندها هدية كان جزاؤك منها أنها تغالطك في الحساب وتشتط عليك في الأثمان. حتى لكان الذي بينك وبين أولئك اللؤماء حرب عنيفة وقتال. والحقيقة أن الإنسان مفطور على كراهة أن يكون عليه لأحد عليه رئاسة أو سلطة فهو أبداً يدأب في أن يزيل عن نفسه آثار فضل الغير ويحط عن عاتقه أعباء سلطتهم ويمحو ما بينه وبين من فوقه من آيات التفاوت الظاهر والفرق المشاهد وإذا ساقت الظروف بعض هؤلاء السفلة إلى الاحتكاك بالعلية لم يعدموا وسيلة إلى إيجاد نوع ما من المساواة بينهم وبين - سادتهم - وبئست المساواة! ولقد جاء في الحكمة أنه لا بطل يكون بطلاً في عين خادمه. لأنه لا يفهم البطولة إلا من كان به شيء من البطولة فهو إذن يفهمها ويجلها ويكبر ربها بما أنه أعلى منه واشرف وأعظم. ولكن الخادم الخسيس الذي لم يوفق إلى إدراك معني العظمة لا يعرف ما هي العظمة ولا يظن أن الله قد خلق إنساناً خيراً منه وأشرف.

ولقد كانت السيدة الأديبة العالمة المسز سيدونز تلقى محاضرة لنخبة من عيون المتأدبين وخلاصة المهذبين في شعر شاكسبير وكان المحفل بكلامها معجباً. ولبديع آياتها مرتاحاً طرباً. وهي تنثر الدر بين الهتاف والتصفيق وإذا بأحد الخدام في الحجرة الخارجة يصيح مستهزئاً عجباً يا إخواني! أما ترون ما نحدث العجوز بين القوم من الصياح والضجة! عجباً من العجائز عجباً! وكذلك ما أقل الشبه بين بعض طبقات المجتمع وبعضها وما أبعد الأمل في التوفيق بين شتى العادات والأخلاق وأي هوة سحيقة بين جهل أولئك ومعارف هؤلاء.

ومما يعرض في هذا المبحث آراء الرجال في النساء وآراء النساء في الرجال فأقول إذا بنينا الحكم في هذا الموضوع على أمر اختيار الرجل زوجته والمرأة زوجها كان لنا أن نحكم على الفريقين بفساد الذوق وخطل الرأي وسوء الحكم وقد جاء في المثل أن الحب أعمى. وما هو إلا استبداد الهوى بالرأي وذهاب الخيال بالعقل. ولا شك في أن أحب الرجال إلى النساء هم الذين لا ينزلون من نفوس إخوانهم الرجل منزلة سامية ولا فازوا من احترام الذكور بالقسط الراجح. ويظهر لي أن النساء لا يثقن في أمر الحب بأرائهن وأذواقهن بل ينظرن إلى رأي الرجل في نفسه فيتخذنه رأياً لهن ولذلك كان أكثر الفائزين بحبهن هم ذووا الغرور والادعاء والوقاحة. ولا يخطب ود النساء ولا يستجلب رضاهن واستحسانهن بتلك المعالي التي يتنافس فيها الرجال كالفصاحة مثلا والنبوغ والعلم والعبقرية والشرف والنزاهة. ولا أنكر أنه يستمال جانب المرأة بقوة الذكاء والجرأة وما كان حسن الشباب ورونق الجمال وحدهما بكافيين لاستجلاب محباتهن والطريق إلى قلوبهن عسير الاهتداء إليه وأعسر منه ركوبه. على أنه لا بد أن يكون هناك حل لتلك العقدة ومفتاح لذلك القفل وسبب لهذا الأمر إذ كنا نرى أن الكروهين من النساء أشباه كأنهم صنف واحد. وكذلك نرى المحبوبين إليهن. أو ليس أكبر الأسباب التي تدنى منهن وتحبب إليهن وتستجلب ودادهن وشغفهن هو شدة إقبال الرجل عليهن وعنايته بهن وإيثاره إياهن على كل ما عداهن من الأمور والأشياء؟ فالحظى عندهن المقرب هو تبيعهن الخاضع وزيرهن الطيع المنقاد. الذي إذا تحدثن فكله آذان أو سكتن فكله أعين. أو غبن فكله خيال وذكرى وأين هذا من رجل مثلي يسمع حديث المتناظرين وهو ران إلى الكاعب الحسناء فتلفت المناظرة طرفه عنها وتلوى عنقه فلا غرو إن كنت في سوق الجدال والمحاججة اربح صفقة وأنفق سلعة مني في سوق الحسان والغواني.

والعلوم العالية والملكات الكبيرة لا تفهمها الغواني فهي لهن من قبيل الألغاز والمعميات وما استرسالك في الشيء لا يفهمه جليسك؟ أليس هو الحق بعينه؟ والأديب المحض الذي لم ير الدنيا إلا من خلال السطور في الصحف ضائع عند الفتيات على كل حال فهو إن تكلم لهن في العلميات كلمهن فيما لا يفهمن وإن طرق من الموضوعات ما يفهمن طرق مالا يفهم. فهو خاسر الصفقتين. خائب الكرتين. وقد جاء في إحدى القصص عن عاشقين أنه بينهما كان الفتي يكد اللسان أمام الفتاة في شرح صورة لشهير من المصورين كانت الفتاة تجرب على أديم الأرض بقدمها حركة من حركات الرقص.

ولقد نعي على الشعراء أنهم لا يحسنون اختيار الغواني. ورأيي أن الأمر ليس باختيار. وإنما اضطرار. ولو أجاد الشعراء الانتخاب لأرونا الملائكة لا الفتيات. ولا بصرناهم مع الحور العين لا الغادات. ولكن الشاعر الذي امتلأ خياله بخواطر الحب والجمال وفاض لا يكاد يبصر من إحدى الفتيات دلائل الود والعطف حتي يفيض عليها من كنز خاطره ملاحة موهومة ويصب عليها من مغاصة وهمه لآلئ حسن سرابي. من مصاغة خياله حلي جمال خلبي. وماذا يضر الشاعر الذي هذا شأنه أنه يعشق باطلاً ويلذ خدعة كاذبة ما دام يلذ ويعشق ومادام طرفه من البرق الخلب في بهجة ومتاع. وصدره في ثلج من المنظر الباطل الخداع؟

وثمت غلطة أريد أن أنبه إليها الناس. وهي أن الأدباء والمصورين ومن يشاكلهم من أهل الفنون السامية ربما يتسرب إلى ظنونهم إن رفض الغانيات إياهم يرجع إلى نقص في ثروتهم أو جاههم وإنهم قد يبلغون آمالهم عند نساء الطبقات الأدنى حيث ينظر إلى أدبهم ويحفل بطيب خلالهم وقوة ملكاتهم. وهذا منتهى الضلال وغاية الخطأ لأن رفض الغانيات إياهم راجع إلى عدم رضاهن عن أشخاصهم لا ثرواتهم ومنازلهم - راجع إلى سخطهن على غريب أفكارهم وشواذ أحوالهم. والمرأة العالية قد تفطن بعض الشيء إلى مراميهم وفحوى كلامهم. وتهتدي بعض الاهتداء إلى فهم أخلاقهم وطباعهم فأما نساء الطبقات المنحطة فلن يكن من أحوالهم إلا على عمياء. وفي ظلمة طخياء. وإذا استقبل المرأة المهذبة غرائب أقواله وأحواله بابتسامة السخرية فلن تستقبلها المرأة الجاهلة إلا بالقهقهة العالية. وليس ببعيد أن تقذفه بالماء استهزاء واحتقاراً ثم تنادي أختها لترى تلك الأعجوبة والنادرة. وتحيل عليك حبيبها يسألك ماذا تعني بأقوالك تلك. وتهيج ليك القرية بأجمعها. حتى يصبح أمرك بينهم وكأنه رواية مضحكة وفكاهة تمثيلية ونادرة عجيبة يفنون في الضحك منها الليالي والأيام والعام فالعام فأولى بك أيها الفيلسوف والأديب والشاعر أن تصد عن الخادمات وبنات الطبقة المنخفضة إلى السيدات والعقائل وذوات البيوتات والاحساب فإن هؤلاء من محاسن الظن بأنفسهن ما قد ينطق عليه بعض أوصافك البديعة. وإن علوهن عن سائر النساء كعلو أفكارك عن سائر الأفكار! فأما الطبقة المنحطة والعيشة السافلة والخبث والجهل والمكر والخداع والخيانة فليس بينك وبينها شبه ولا تجمعك وإياها جامعة. ويا من يحسب أنه قد يبلغ إلا وطار ويدرك المنى من أهل هذه الطبقات بعقله وحكمته. وظرفه ورقته حذار من نزولك ذلك المعترك وأسلم بنفسك من وبال ذلك المرعى!

ولا أحسب أن الحب لأول وهلة هو كما يزعم الناس نوع من الخرق والطيش لأن من عادة الإنسان أنه يصور لنفسه (قبل أن يعشق) - صورة الفتاة التي يود أن تكون محبوبته - يصورها في وهمه بيضاء أم سمراء. مكتنزة أم هيفاء. لعوباً أم خفرة. حتى إذا صادفتنا غادة قد اجتمعت لها تلك الصفات التي قد شغلبت أذهاننا وملأت مخيلاتنا أعطيناها الحب لأول وهلة واسكناها سويداء القلب للتو واللحظة. وكيف وإنها لضالتنا المنشودة وفيها تحققت تلك الآمال التي لم تك قبل رؤيتها إلا أضاليل أوهام. واضغاث أحلام. وإنها وإن لم تبد لنا إلا الآن فإن صورتها ما برحت نصب عين الذهن في كل لحظة وآن. وحشو ضمير الفؤاد وفراغ النفس في كل موضع ومكان. في اليقظة والمنام. والرحلة والمقام. ألا أيتها الغانية التي تامت فؤادي بأول نظرة وسحرت لبي لا تحسبي أن سلطانك على نفسي قد أزرى به أنه أتى فجاءة وجاء بغتاً. لأني وجدت في شخصك الحسن الجميل كل ما قد تمنيت من محاسن النساء وملائح المرأة!

انفيليس

لوليم هازلت

لا تكاد المرأة الوضيعة النسب تنسى أصلها أو تحسب الناس ينسونه ولا ضير عليها من لؤم الأعراق إذا حملت كرم الأخلاق ولا يشينها خبث المغرس إذا زانها طيب النفس ومن هذا القبيل منية الروح وريحانة القلب انفيليس وأما ويمين الله - حلفاً مؤكداً - لئن زينت بحضرتك السنية يوماً ما غرفتي وطيبت بوجودك العطر حجرتي وأضأت بغرتك المنيرة ظلمتي وآنست بنغمك الرخيم وحدتي وبجرسك الحلو وحشتي وبخصب حسنك وثمار جمالك وثروة بدائعك وملاحاتك جدبي وعدمي وفاقتي مثلما أنضرت بستان أملى وأكدت عريي أمنيتي لاروحن أسعد الناس طراً وأكثرهم نعمة وخيراً ولأصبحن بك داري كعبة ومنهل ومراد وذخر وكنز وروضة وفلك وليرين الناس فيك ماقرؤا من أقصى منتهي الشرف النسائي في تصوير شاكسبير وأبصروا في مبتدعات رافاييل وليطمح الطامحون بأبصارهم نحو الأميرات والشريفات فأنا الذي لا يتلع جيده إلا إلى بنات الرعاة والمتلببات وذوات الضراعة والتواضع وذرني من المسبلات الذيول الناعمات البنان الصادفات الاجياد المصعرات الخدود ولو ثنيت الأنامل على يراع شاعر كبير أو جعلت راحتي صهوة لريشة مصور شهير فجريت شوطاً في مضمار الوصف ونعت أولئك الفقيرات المتواضعات بما هن أهله لأنسيت رومير حب جوليت وأذهلت دون جوان عن جولياه! ثم لا أحب العالمات من النساء ولا أعبأ بمثقال ذرة بمن تعرف ما معنى التأليف والمؤلفين لأنه لا قيمة عندي بمعارفها الأدبية وإنما هي في نظري كمن يهدي القطر إلى البحر والثمر إلى هجر ولا أحب أن تقول لي الغانية أن كتاب كذا وكذا من وضعي وتأليفي لأنه شيء أنا به أعلم الناس ليس يزيد فتيلاً في قوتي وثقتي ببراعتي كلا أنا لا أريدها تفضي إلى فؤادي من هذا الطريق وإنما أود أن تقرأ صحيفة قلبي وما سطرت ثمت أقلام الهوى وتنظر إلى شغاف مهجتي وتبصر ما خرقت هنالك سهام الجوى إنما أريدها أن تحبني لذاتي من غير ما علة ولا سبب لأني أحب ذاتي من غير ما علة ولا سبب وكما أني أعشقها عاطلة من حليها عارية من حليها فكذلك أريد أن تعشقني عاطلاً من حلى الأدب عارياً من حلل الفصاحة والفلسفة! إنما حجتي على تقاضها العطف علي والميل إلي. هو عطفي عليها وميلي إليها. وإن صورتها أبداً نصب عيني. وبين جنبي. وإنه يخيل إلي أن الورد شبيه خدها والأقحوان نظير ثغرها ينبتان تحت قدميها. وإن عذب النعم يفيض من عذبات الأفنان عليها. فإن غابت فكل بقعة قفر. وكل منزل قبر.

كذاك أرى الأشياء إما حقيقة ... بدت لي وإما حلم مستيقظ حلم

بذلك أشعر ولكن هل بحت به لها؟ كلا. وهل لو بحت به استطاعت أن تفهمه وتدركه؟ كلا. إنما أطلب العنقاء. وأخاطب الهواء وأصيح بالصحراء. وأعكف على دمية خرساء. وما كان نظر المرء إلى الجمال بجاعله جميلاً ولا ضناه في الحب بمستجلب عليه حب من يهوى. ولقد طالما جنحت إلى تعظيم قوة الحب وسلطانه وحسبت أنه ليس من شأن تلك القوة اللذيذة إلا الجمع بين الجميل والجميل والظريف والظريف. والمغرم والمغرم والمشغوف والمشغوف. وإنه لا يمتع بمناعمه. ويفوز بغنائمه إلا من يحمل في حشاه وجدانه وفي وجهه عنوانه. عشقاً مضمراً. وحسناً ظاهراً. ووجداً مستوراً. وجمالاً مشهوراً. وإذ كنت لست بالقسيم الوسيم وقفت أنظر إلى مواقف الحب ومواطن الغرام من بعد ويحجم بي أني لست من رجاله وأنه لم يك لمن أوتى قبح صورتي أن يدخل في زمرة القوم الحسان وما كان للغراب أن يندمج في سلك الطواويس. ولا للحنظل أن يرى نابتاً بين ريحان الفراديس وإني لا أريد أن أشوه بوجودي ذلك النادي البهي. والمحفل الوضي. أقول كان ذلك ظني زمنا ما. حتى علمت أني في ضلال وأن بعض الظن إثم.

ثم دنوت من مواطن العشق والعشاق فإذا فيهم المقعد والزمن والضرير والمجذوم والأجذم والأبرص والدميم والمشوه والهرم والموهون وقانص اللذات وطالب الدنيا والمبذر الشحيح. والجبان والنذل والدجال واللص والأحمق والغر والغبي والجاهل وكل وغد لئيم أبعد الناس من ذوي الإحسان والحسن وجمال المنظر والمخبر. فلما وجدت كل هؤلاء ينزلون ساحة الحب ومر بخاطري أنه قد يجوز لي أن أحل ذلك الجناب. وألج ذياك الباب. مختفياً به في غمار تلك الجموع المزدحمة والوفودة المحتشدة ثم صممت فمضيت وما بلغت الباب حتى رفضت ورددت. حينئذ علمت أن رفضي وإرجاعي ليس لأني دون القوم بل لأني فوقهم. ولا أنكر أني أسفت (وإن كان أسفي هذا جديراً أن يعد عاراً وسوأة) لحرماني ورفضي عند ما رأيت أن أسفل النوع وأخس الناس الغوغاء والبغاث والحثالة والنفاية كانوا يقدمون علي ويلجون باب ساحة الحب دوني. عند ذلك خيل إلى أني جنس وحدي وإني عالم بذاتي مخالف لهذا العالم السافل. وصرت أفخر بالذي لقيت من الاهانة وأحس اللذة في الألم. وأذوق الشهد في العلقم. وعلمت أن لي مجالاً آخر. وإن حظي ومغنمي في غير تلك السبيل! ومصداق ذلك أن خير ما كتبت. وأجود ما ألفت. والشيء الذي أنا جدير أن أفخر به وأتيه هو مقالتي في موضوع قواعد الأعمال الإنسانية وهو كتاب ما قرأته قط امرأة ولن تستطيع فهمه امرأة أبداً. ولماذا يسوءني أن أروح صفر اليد من النساء وليس عندي مصايدهن. وما لي أزرع الشوك وأنتظر العشب وأبذر القتاد وأرجو التفاح. لقد محت الفلسفة من ذهني الحب وأباد الفكر الهوى. وجبهتي المكفهرة هذه المقبلة على الحكمة والحق إنما هي الصخرة الصماء قد تحطمت عليها سفينة الغرام في ملتطم أمواج الفكر وطامي عباب الرأي والذكرى ومع ذلك فإني لآسف على حرماني ملاذ الهوى ومطايب تلكم المواقف! وتذهب نفسي حسرات وأنفاسي زفرات. فدهري مأتم وعمري مناحة وقلبي فريسة وجفني لطول التهطال غمامة. وقلمي لترجيع البكاء حمامة ونهاري من اسوداد الحداد دجى وليلي من اضطرام اللوعة ضحى. وكذلك قضيت أربعين من عمري أتلهف على نعيم العشق ولا أعطاه. وأشتاق طيب وصال ولا أملاه. وأتمنى وجه حبيب ولا أراه. حتى من به الله بعد الأربعين. ولكن مالي أشكو هذه الأربعين وأتهمها بالخلو من نعمة الجمال والحب إذا كان هذا الوجه الحسن الجميل المشرق المنير يعكس أضواءه على ظلمة تلك الأربعين حتي يرى وجه ماضي وهو من الفرح الجديد والحزن القديم مبتسم في دموعه.

ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما

إني في ذكرى انفليس في لذة لا توصف. وطرب لا يكيف وكأنما يخفق حوالي نور أرجواني. وضياء وردي وكأنما يهب في الحجرة صبا الغرام ونسيم الحب. وكأنما إذا نظرت إلى صورة الحبيبة تلك التي رسمتها بيدي توامضت على الرقعة أشعة ذهبية كعهدي بها يوم كنت أنقشها. وكأنما ينبت في ثرى نفسي أزهار الأمل والسرور كعهدي بها أول ما نبتت. فاذكر العصور الأول وتكر الاويقات السالفة راجعة. وتزدحم على داري السنين الخالية وتقرع الباب وتدخل. وكأني بمتحف اللوفر ثانياً. وكأن شمس أوسترلتز لم تغرب وكأنها لا تزال تشرق في قلبي وكأن فتى المجد وابن الفخار لم يمت وكيف وإنه ليحيى بين جنبي وسويداء مهجتي وكأني في شرخ الشباب وميعة الصبا وكأن الروض قد عاود زخرفه وأخذت الأرض زخاريها وعاد في السماء قزح وكأني أبصر بالعين أذيال أثواب السنين الماضية وأكاد ألمس باليد حواشي أبراد الأزمن الخالية ولم يذهب سدى ولا مضى عبثاً كل ما أحسه قلبي وأجراه خاطري وقد أقف الآن على قبر الحرية فأنظم في ذكري الغرام نشيداً وأنضد في تجديد عهد الهوى قصيداً ويا أيتها الغانية إن كان ما أبديته لي من شواهد الحب خداعاً فأخدعيني به ما حييت ومنيني ما عشت أضاليل الأماني.

علليني بموعد ... وامطلي ما حييت به

دعيني أعش في ظل وصلك السجسج وأكتحل بسنا جبينك الوضاح وبروق ثغرك اللماح اقتليني باللثمات وأحييني بالبسمات واسحريني بالنظرات ولكن لا يزل هواك عابثاً بقلبي لاعباً بلبي هازئاً بحالي ساخراً من آمالي فالخديعة في الحب خير من الفطنة في النهى.

سياحة النزهة

من أمتع لذائذ الدنيا أن يسيح المرء للنزهة ولكني لا أجد تمام تلك اللذة إلا إذا سحت منفرداً ولا أنكر أني قد أنعم بمجالس الإخوان بين جدران البيوت فأما خارجها فحسبي بالطبيعة جليساً ورفيقاً فإن وحدتي بين أعطاف الطبيعة اجتماع وأنا بانفرادي هنالك أبعد ما أكون من الانفراد ثم لا أفهم معنى الجمع بين المشي والكلام وإني متى صرت بين الرياض والأرياف أحببت أن أنسى خواطري وأفكاري وهواجس وهمومي وأنزع شخصيتي وأخرج من إنسانيتي وأصير وسط النبات نباتاً أنا لا أريد أن أكون بين الشجر والبقول ذاك النقاد المعروف بأتناول الكرنب والكراث بذلك النقد الذي أتناول به الشعراء والكتاب وأجيل ملكة البحث والفحص بين البقر والشاء كما أجيلها في ذلك الفصل وذياك الباب وإنما خرجت من المدينة لأنسى المدينة. وما فيها من الزينة والشينة وقد أعرف من الناس من إذا ذهبوا للاصطياف بالأرياف والسواحل نقلوا معهم المدينة بجميع محتوياتها وأحوالها إلى تلك المصايف ولكني من يؤثر الوحدة متى ذهب إلى أماكن الوحدة ويحب العزلة إذا أوى إلى العزلة ولا التمس في الخلوة صديقاً أبث له ما أجد من لذة الخلوة.

ورأيي أن روح السياحة هي الحرية التامة في الفكر والشعور والحركة والعمل حسب مشيئة الإنسان من حيث لا يحذر رقيباً ولا يخاف حسيبا وإنما نلجأ إلى السياحة من منغصات المجتمع وعوائقه وعقباته ولكي نفر من الناس ولكي أجد فسحة لفكري ومجالاً لخاطري ومتنفساً لأحساسي. حيث ينطلق من عنان التأمل ما كان قبل محبوساً ويرتاش من جناح الوهم ما كان في المجتمع مقصوصاً إلا ذرنى برهة من أحاديث الخلان وأقاصيص الإخوان وأعطني سماء زرقاء وأرضاً خضراء وفجاً عريضاً وروضاً أريضاً وثلاث ساعات قبل الغداء ثم دعني وخاطري يسبح في آفاق التأمل ما شاء فلا أخالني إلا مطلقاً عنان المرح بين هاتيك الأودية والمروج أعدو وأثب كالطفل الصغير وأغرد من الطرب كالعصفور وأصعد على سلم الوهم إلى السحابة الوطفاء فأتعلق بأهدابها ثم ألقي من ثمت بنفسي في أعماق الزمن الماضي كما ينغمس الهندي الأحمر في هبوة اللجة الطموح فتقذف به إلى وطنه العزيز وتهديه إلى مسقط رأسه وعند ذلك تثير يد الذكرى دفائن الماضي وتخرج من بحاره غرقى الحادثات الخالية وكسور الآمال التي تحطمت سالفاً في زوابع الشسقاء على صخور النحس في جو قد خبت مصابيح هداه وغارت نجوم سعوده فتخرج تلك الحوادث الغرقى وكسور هاتيك الآمال واللذات والأماني من تحت أمواج الغابر وتبدو لعيني اللهيفة رافلة في أقشب حلل الجدة وأبهى رونق البهجة نعم وتستريح أذني من لجب الجدال وضجة المناظرة ويعوضها الله من سكوت المجالس تتخلله كواذب الفصاحة ومتصنعات الحكمة سكوتاً عميقاً محضاً هو في مذهبي عين الحكمة والفصاحة وليس أحد أميل مني إلى التورية والكناية وسائر صنوف البديع وإلى المحاججة والمحاورة والنقد والتحليل ولكني قد أسأمها أحياناً واللذة تحب وتسأم ولقد أقول مع القائل دعوني هينهة أسترخ! إنكم في شان وأن في شان فإن عبتم ما أنا فيه وقلتم باطل وغى وخمود القريحة ورقدة الذهن قلت لكم هكذا تحسبون وإنكم لفي ضلال وما كنت قط أحبى شعوراً مني الساعة وأيقظ وجداناً وأشد توقداً وأذكى ذكاء أوليست هذه الوردة لذيذة المجتلى من غير شرح ولا مناقشة؟ أولم يشرب إحساسي جمال هذه الزهرة من غير مساعدة برهان ولا معونة نظرية؟ إن قلبي ليطفر نحو هذه الريحانة وإن تلك الريحانة لتطفر نحو قلبي! فإن تسلني سبب ذلك فبينته لك سخرت منه وضحكت مني (وإنما السبب هو أنها تذكرني بحادث لذة مضى ربما احتقرته أنت ولكنه كان عندي مكان الروح قيمة ومقدارا) أفليس إذن من العقل أن أكتم السر في حشاي فأصونه عن مهانة سخرك منه واستهزائك؟ وأجعله لنفسي ذكرى لذيذة أقطع بها الساعات والمسافات ومن ثم لا أكون للمساير ذلك الرفيق المؤنس والصاحب الممتع فأولى بي أن أترك لنفسي فأسير منفرداً وقد يقول قائل لم لا تجمع بين مسايرة الغير ومحادثة نفسك - بين مرافقة الصديق ومناجاة الخاطر والذكرى فلذلك القائل أقول إن هذا من سوء الأدب وانتهاك حرمة العشرة وإنه لمن الرياء وضرب من الخديعة وإنما يجب على المرء أن يترك نفسه إما لمشيئة الرفقاء مطلقاً وإما لمشيئة نفسه وقد سرني من المستر كوبيت إنكاره من الفرنسيين الجمع بين الغداء وشرب الراح في الوقت بعينه وكذلك أنا لا أقدر على الجمع بين الكلام والتأمل - بين المحاورة الحثيثة والتفكير العميق ولا أقول مع الكاتب ستيرن إن لم يكن في استصحاب الرفيق إلا أني أذكر له كيف يطول الظل على انحدار الشمس لكفي بذلك علة. لي على استصحابه. هذا قول بديع من ستيرن ولكني لا أوافق على الفكرة. لأن التحدث في شأن مناظر الطبيعة يضعف من روعة تأثير تلك المناظر في الشعور ويفسد من حسن وقعها في النفس. فإذا اكفتيت من الاسهاب في شرح جمال تلك المناظر بالاختصار ومن العبارة بالإشارة جاء قولك مقتضباً أبتر جافاً مبهماً. وإن شرحت وأفضت جولت لذة المنظر تعباً. وعفوه نصباً. وكتاب الطبيعة أن تنظر في سطوره يغرك بأن تفسر للرفيق آياته. وتشرح للمساير عباراته. ومن ثم إيثاري الانفراد في النزهة حتى لا أحمل على تنغيص لذة السكينة بالكلام وتكدير منهل الفكر باعتلاج دلاء المحاورة والمناقشة. وإنما للجمع والادخار تلك الساعة. وغيرها للتفسير والرأي والمناظرة.

وإنما أريد أثناء النزهة أن أرى خواطري تطفو وترسب في ذهني كأنها نتف زغب الطائر تهفو على حاشية النسيم ولا أريد أن تنشب فيها أشواك الجدال والمباحثة. وإني لا آبي على أي امرئ أن أطوي معه عشرين فرسخاً بالمناظرة ولكني أعلم أنه لا لذة في ذلك. فإني إن ذكرت للرفيق أن ذلك الحقل طيب الرائحة جازان يكون مزكوماً أو معدوم حاسة الشم. أو أومأت إلى شيء قصى لم يبعد أن يكون قصير النظر فيستعين بمرقبه ثم قد تحس في الهواء لذة خفية أو تبصر في لون إحدى السحب بهجة غير معهودة تملأ وجدانك ثم يعيبك أن تصفها أو تبين سببها. فيصبح ليس بينك وبين الرفيق ائتلاف إحساس واتحاد خاطر. متلاصقين جثماناً متباعدين وجداناً وتحاول أن توجد تلك الألفة الاحساسية فيعييك فتساء وتختم بالسخط نزهتك. ولو أن في يدي مفاتيح خزائن اللفظ الأنيق وقد تفجرت على لساني ينابيع البلاغة والبيان لحاولت أن أوقظ تلك الخواطر التي ترقد على مذهب رداء الشفق ومعصفر ملاءة الغروب. ولكن خيالي الضعيف متى واجه عروس الطبيعة أغضى هيبة وأطرق حيرة وطوى إبراده كبعض الزهر ساعة الأصيل وكذلك أعجز كل العجز عن صفة تلك المشاهد وأنا حيالها وبين أيديها. فأما بعد ذلك بزمن - بعد الادكار والاستحضار والروية - فذاك شيء آخر.

وعلى كل حال فالصمت والسكينة للنزهة والطبيعة. وبديع الوصف وغريب التصوير للغرفة والمحفل. ولذلك كان صديقي الكاتب الممتع شارلس لام أسوأ رفيق في النزهة لأنه أحسن جليس في الغرفة ولا أنكر أن هناك موضوعاً واحداً يرتاح المرء إلى طروقه أثناء السياحة - وهو الكلام في شأن طعام العشاء وماذا نتناول من الألوان في المطعم الذي نحن قاصدوه بأقرب قرية. فإن هذه المحادثة لتستعير لذة وتستفيد حلاوة من الهواء الفضفاض من حيث أنه يشحذ الشهوة ويسن أنياب الجوع. وكل فرسخ يطوي بهذا الحديث يحسن طعم الطعام المنتظر ويطيب مذاق الألوان المتوهمة ثم ما أمتع أن يطرق الإنسان لدى مسقط ظلال الليل بلدة قديمة ذات أسوار وحصون أو يأتي قرية متاطمنة الذرى تتعثر أشعة أضوائها فيما يلفها من ملاحف الظلماء فيلقى بها عصار التسيار ويتبوأ دمثاً ليناً وثيراً. هذه يا سيدي نعم جليلة ولذات يجب أن لا تكدر بالشريك الذي لا يذوقها حق مذاقها ولا يلذها تمام اللذة. ولذلك أرى أن أصونها عن المزريات المجحفات وأن أخص بها نفسي وأتنزه فيها عن الشريك والمنازع.

وأن أشرب كأسها الروية فأشتف صبابتها وبعد ذلك إن من الله بالفراغ والقدرة وصفتها باللسان ثم بلسان الدواة وما ألذ أن نتناقش بعد شرب الشاي - ذاك الشراب الذي يسر ولا يسكر - وبعد أن نترك أوعية العقول مجالاً ومرتقى لدخانه وضبابه - أن نأخذ في حديث ماذا نأكل للعشاء - بيضاً وشواء أم أرنباً دفيناً في البصل والأرز أم ماذا؟ وقد أذكر أن سانكو صمم في مثل هذه الحالة على كوارع وهو طلب ألجأته إليه الضرورة وليس بمنتهى الحطة. ثم ما ألذ أن تسمع في خلال نجواك. واثناء ذكراك. صليل المراجل والمغارف وآلات المطبخ وهرولة الخدام ولك ما يصحب ذلك من الحركة وأصوات الاستعداد والخدمة (لنصب الخوان للسيد الضيف) هذا والله العيش وتلك الرفاهية والخفض! وأنها لساعات من حقها أن تصان في هيكل الصمت وتقدس في محراب الخيال وتدخر في وعاء الذكرى لتكون منبع طرب يغذي جداول الخواطر الضاحكة ومجاري الأفكار الهنية. وما كنت لا بد مدنساً طهارة الخيال بالمحادثة فلتكن مع أجنبي غريب. لا صديق قريب. ومع ابن سبيل. لأولى وخليل فإن الغريب ينتحل طباع المكان الذي تلقاه فيه ويأخذ صبغة الساعة التي تجمعك وإياه. وكأنما هو حلس من أحلاس النزل وبعض أثاثه وآلاته وهبه دجالاً فإنه أمتع لي وليس من المحتوم علي أن أنتحل خلقه وأتطبع بطباعه (وإن كان نفر من المشعوذين والمتشردين فذلك ألذ لي وأنا الذي طالما تمني أن يكون أحد هؤلاء وكيف ترى يكون إنكار الناس لهذا الرأي إن أنا أعلنت به وصرحت) هذا وإن منظر الأجنبي لا يذكرني شيئاً مما هربت منه من شؤوني وأحوالي. ولا يكون مقروناً في ذهني إلا بما يحيط بي من الأشياء والحوادث وجهله بي وبجميع أمري يعديني فأكاد أنسي نفسي وشخصيتي ولكن الصديق يذكرني بأمور كثيرة وينبش قبور الألم ويفسد سحر المقام والحال. ويحول بين الذهن وبين ما قد تخيله المرء لنفسه من الشخصية الوهمية بما قد يعرض أثناء الحديث من ذكر وظيفتك ومهنتك وأحوالك وشؤونك. أو بما قد يتفق من أن صديقك من القوم الذين يعرفون أخبث جوانب تاريخك وأقذر نواحي عرضك وسيرتك فيخيل إليك أن سائر سكان النزل والخدم والطباخين يعلمون ذلك أيضاً فتظل وما أنت بابن العالم وأخي الدنيا الذي تخيلت وتوهمت وإنما فلان القاطن بكذا الذي شأنه كيت وكيت. فيضيق بك ما كان انفسح حولك من دائرة الوهم ويرتد مغلولاً ما كان طم لك من شعاع الخيال. ويتضاءل ما كنت حسبت أنك أصبت من بذخ المكانة امتداد شأو الحال. أجل ما ألذ أن يصدع المرء عن نفسه أغلال المجتمع والرأي العام - وأن ينسى ذاته وشخصيته وهمومه بين عناصر الكون وأجزاء الطبيعة ويصبح ابن الساعة واللحضة خالصاً من كل قيد وربقة - لا صلة له بالعالم إلا لوناً من الحلوى أو صحفة من الفاكهة ولا دين عليه إلا ثمن مأكل اليوم ومبيت الليلة - غير مكترث لمدح ولا ذم ولا مبال بسخط ولا رضا ولا مسمى إلا بالسيد الضيف.

فأما الآثار والخرائب والمتاحف ومعارض الصور والدمى والتماثيل فإنه يؤثر في زيارتها صحبة الرفيق أو الرفقاء على الانفراد والوحدة. وذلك لأنها مشتركة الفهم عند جميع المتأدبين متحدة المواقع في كافة النفوس ففيها للكلام متسع وللمناظرات مجال. وما يشعر نحوها من الإحساس والوجدان ليس بأخرس مستحيل النقل والبيان. بل ناطق طوع الشفتين واللسان. وإن كانت بطاح سالسبرى وربى سلسكس مجدبة من شجر الانتقاد وأغراس المناظرة فما خرائب كنيلورث منها بمجدية. وعندي أن أول ما يجب السؤال عنه إذا أريد أن يخرج للتنزه مع الرفاق قصد السرور هو أين يذهب؟ فإذا كان خروج انفراد قصد التأمل والذكرى فالسؤال هو ماذا عسى المرء يصادف في طريقه فليس يراد في حالة الانفراد مكان بعينه. لأنها سياحة الذهن والذهن غني بنفسه عن ذلك المكان أو هذا. وهو بذاته إقليم ودولة في نفسه. وليس همنا أن نبلغ آخر السياحة.

وأما السياحة في البلاد الأجنبية فهذا مالا أستطيعه إلا في صحبة رفيق من أبناء جلدتي وأهل وطني. وكيف ولا بدلى أن أسمع نغمة لغتي ولسان أمتي من حين إلى آخر. وإن في طبيعة الإنكليزي لكراهة غريزية للعوائد والأراء الأجنبية يحتاج أبداً إلى أن يداويها ويمحو أثرها بضدها من ذلك العطف الذي يجلده لابن جلدته ووطنه. وكلما بعد الإنسان عن وطنه اشتدت تلك الحاجة إلى الرفيق حتى تصير ضرورة شديدة وغليلاً مشتعلاً بعد أن لم تكن إلا تعلة وسلوة. ولقد يخيل إلى أني كنت أموت اختناقاً لو قد أصبحت يوماً ما وسط صحارى نجد أو قفار حضرموت بلا رفيق من أبناء وطني ولا ينكر أحد أن منظر روما أو أتينا ليس يخلو من شيء مدهش غريب على النفس والعين لا يصح أن يضن عليه بلفظة ويمر به اللسان راقداً. كما لا ينكر أحد أن الأهرام أضخم من أن تكتفي بتأملات خاطر واحد. وأبعد أقطاراً من أن يذرع مساحتها باع ذهن منفرد. هذا وإن المرء وحيداً بين المشاهد الأجنبية ليخيل إليه أنه نوع من الخليقة مغاير لمن يحيط به من الناس أو أنه عضو قد فصل عن جسم المجتمع فيحس وحشة أيما وحشة إلا أن يصادف إنسا من رفيق يشاكله وصديق يماثله. على أني لم أجد كل هذه الوحشة لدن مس قدمى شاطئ فرنسا الضاحك لأول مرة فوجدت بلدة كاليز غاصة الأرجاء بالزينة والبجهة وكان صوت حركة الإنسانية وأنس الحياة يتحدر كمنبت عقود الجمان ومرفض أسلاك الدر في مسمعي. ولم يشذ عن أذني غناء الملامح بفرع سفينة عتيقة السن قد شاب فؤداها ومسها من أولق الموج اولق ومن لوثة البحر خبال. وإنما كنت هناك أنشق نسيم الإنسانية ولما بسطت القدم في بساط تربها الدمث العبق وثراها المفوف قد نمنمته أيدي الأنواء ورشته لله كف صناع بسطت قدماً وثابة ممراحا وهززت عطفاً ملكته نشوة السرور وتقاذفته أريحيات الطرب وما ذاك إلا لأنها أرض الحرية قد ضربت بها خيامها. ورفعت عليها أعلامها. ولم تحن فيها رقاب الأمم للظلمة والجبابرة!

إن في السياحة بالبلاد الأجنبية لاحساسا لا يجده الإنسان في غير ذلك ولكنه أجدر بأن يكون لذيذا في وقته منه بأن يكون باقي الأثر. وذلك أنه لبعده عن أحوالنا العادية ليس حرياً أن يعترض في سياق أحاديثنا ومجرى كلامنا. ولا يلتئم بديباجة حياتنا كأنه كان قطعة من حياة غير الحياة الإنسانية أو كان حلماً من الأحلام وخيالاً توقد برهة ثم خبا. وأنه لمن أشد العناء على الذهن أن يتوهم ذلك الإحساس الغريب بعد زواله وعسير على المرء أن يخلع شخصيته الحقيقية فيلبس شخصية وهمية وصعب عليه أن يوقظ نبض اللذة التي ماتت وقبرت اللهم إلا أن استطاع أن يثب من فوق أسوار الحاضر في حشا الماضي. والشخصية الخيالية الغريبة وحش لا يصاد. وظهر لا يراض والوقت الذي أمضيناه في السياحة الأجنبية مقطوع عن عمرنا. مفصول من حياتنا لا سبيل إلى وصله ولا وسيلة إلى إدماجه والمرء ما دام خارج وطنه رجل آخر خلاف الذي كان هنالك. حتى أن المسافر ليودع نفسه فيمن يودع ولله در القائل خرجت من موطني ومن نفسي فمن أراد أن ينسي الحزن والشجن فليذهب إلى غير بلده من بلاد الله يجد في عجب المناظر وغريب الأحوال سلوة وروحاً. وتغب من عينه مذكرات الهموم وباعثات الأسى ولذلك كنت أنفق حياتي خارج بلادي لو وجدت من يقرضني حياة أخرى أنفقها في وطني حتى أقضى حقوقه.

الصانع المسكين

(رسالة في قالب قصصي)

للروائي الكبير تشارلس دكنز

هذا الصانع المسكين يعيش على ضفة نهر زاخر التيار طامي العباب اسمه الزمن يصب في اقيانوس عظيم مجهول اسمه الأبد وما زال ذلك النهر منذ بدء الخليقة يجرى ويطرد وكان ربما غير مجراه وانحدر في مسايل جديدة ومسائل حديثة تاركاً مجاريه القديمة غبراء يابسة ولكنه رهن الانحدار والمسيل حتى يفني الله الزمن ثم تراه لا يقف في وجهه شيء ولا يثبت أمام سيله الجارف ناطق ولا صامت بل كان ما على الأرض منقاد طوع تياره محمول على متنه إلى ذاك الاقيانوس المجهول -.

هذا الصانع المسكين يعيش في مكان ليس فيه إلا عاملاً كادحاً وهو من أكدح العاملين وأدأب الجاهدين. عيشه اليابس الوعر. ودهره العلقم المر. ورزقه ينفذ إليه من سم الإبرة. ويدر عليه من جانبي صخرة. ومع ذلك فقد كان قانعاً بقسمته. راضياً عن عيشته. يستقبل اليوم باسط الوجه منشرحاً. وينصرف عنه شاكر القلب مرتاحاً. وكان هو وسائر أهل طبقته. أناساً يكدون من لدن يرتفع النهار. إلى أن يقبض الليل الأبصار. ولم يكن لهم دون ذلك من مطمح ولا هم يريدون.

وكانت دار الحكومة ناحية من مسكن هذا الصانع وكان لا يزال بها خطابة ولجب. وجلبة وصخب. ولم يكن للرجل بذلك علاقة اللهم إلا أن ينظر ويتعجب وكان يراهم (أعني رجال الحكومة) يقيمون التماثيل حديداً ومرمراً ونحاساً أمام مسكنه الحقير فيأخذون عليه منافذ النور والهواء بأشباح هذه الأفراس النحاسية. وأشخاص تلك الصور الحديدية وتمادي على تعجبه من هذه الأشياء وماذا يراد بها ثم ابتسم ابتسامته الساذجة ومضى في عمله.

وكانت الحكومة (وهي مؤلفة من أضخم رجال البلد وأكثرهم جلبة وضوضاء) قد تكلفت أن تحمل عنه أعباء الإدارة ومؤنة التفكير فتدبر له شؤونه وتنظم أحواله. وكان الرجل يقول نعم ما تصنع بي الحكومة. ستعنى بأمري جزاء شيء من المال أجعله لها (والحكومة أيها القارئ ليست فوق مال الرجل) وذلك أنعم لي وأنفع ومن ثم ما ترى من تلك الخطب في دار الحكومة والصياح والضوضاء وما ترى من تلك التماثيل التي يكلف الرجل المسكين أن يسجد لها من دون الله.

ويقول الرجل ويحك جبينه حيرة وعجباً أنا لا أفهم كل هذا. فعسى أن له معني يدق عن فهمي ويلطف عن إدراكي.

فتجيب الحكومة معناه إن أعظم المجد والشرف للأعظم أعمالاً وآثارا.

فقال أهو كذلك؟ وسره ما سمع. ولكنه نظر في التماثيل فلم يجد بينها صورة رجل فاضل ممن يعرف ولا صورة ذلك الرجل العظيم تاجر الأصواف الذي توفى آنفاً. ولا صورة رجل من كبار الأطباء الذين بفضلهم نجا هو وبنوه من آفة الداء ولا تمثال شجاع ممن أطلقوا العباد من رق الجبابرة وتركوهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً وأسرى ولا تمثال شاعر أو قصصي ممن أوجد للفقراء والمساكين من الخيال حياة أجمل وأعلى كلها لذائذ وعجائب على حين أنه كان يجد بين تلك التماثيل صور أناس لم يعرف عنهم كثيراً من الخير وصور آخرين ما عرف عنه إلا النكر والضير.

قال الرجل أنا لا أفهم ذلك.

ثم ذهب إلى بيته وجلس إلى النار يصطلي ويحاول نسيان ما رأى.

وكان بيته حقيراً تحفه طرقات مسودة ولكنه كان عزيزاً عليه حبيباً إليه وكانت زوجته قد كبرت قبل أوانها وخشن العمل كفيها وأيبس أناملها ولكنها كانت قرة عينه وكان اصيبيته قد انحلهم سوء الغذاء وحبس البؤس شبابهم ولكنهم كانوا زينة بصره وثلجة صدره وكان أبعد غايته وأقصى أمنيته أن يرى العلم لهم قريناً والعرفان الفا وخدينا حتى لقد كان يقول إذا كان الجهل منشأ خطأي وخطلي فليكفهم التعليم غلطي وزللي وإن تعذر على أن أقطف ثمار الكتب من الفائدة واللذة فليصبحن ذلك عليهم من السهل.

ولكن الحكومة لم تر مارآه من حاجة اغيلمته إلى التعليم فأهملت تهذيبهم وتنويرهم فأبصر الرجل شيطان الجهل قد نبغ وسط داره فاستحوذ على بنيه ورأى ابنته قد أصحبت خرقاء رخوة متثاقلة وراح غلامه يركض أفراس الشهوة في سنن الغواية ويحدو اينق الباطل في سبل الجرم والجناية وأبصر نور الفطنة في أعين أطفاله يتحول مكراً وريبة حتى جعل يتمنى أنهم كانوا بلها وحمقى.

وقال أنا لا أفهم هذه الأشياء ولكني أعلم أنه ما يراد بها خير وأما وهذه الأرض المقشعرة والسماء المكفهرة والجو المغيم والأفق المظلم أني لأنكر هذه الأعمال ولا أراها جوراً وظلماً!.

ولما سكت عنه الغضب (وكان غضبه كالبرق الخاطف لا يهيج حتى يزول) نظر إلى الآحاد أيام فراغه والى الأعياد أيام بطالته ولهوه فلم يجدها إلا أسباب ملل ودواعي سأم وإلا السكر وما يعقب من المحن والمصائب فالتفت إلى الحكام وقال لهم نحن معشر العمال والمهنة أرانا قد ركب الله في طباعنا حاجة إلى اللذة النفسية واللهو الذهني فانظروا ماذا نقع فيه من الإثم والجريمة لحرماننا لذة الأنفس ومتاع الأذهان ألا فأبيحوا اللهو الحلال واستشلونا من هذه الوهدة وأطلقونا من ذلك الضيق.

فضجت الحكومة وصاحت وهاجت وماجت عند ما نادى نفر قليلون يطلبون للرجل نعمة التعليم كيما يبصر بدائع الوجود وعجائب الفنون حتى بهت الرجل وقال حائراً مندهشاً:

أنا الذي أحدثت هذا؟ وهل كل ذلك لأني أعلنت حاجة نفسي والتمست المخرج من غمي وكربتي؟ ليت شعري ماذا يراد بنا وإلى أي طريق نحن مسوقون.

وأنه ذات يوم لمكب على عمله إذ بلغته أنباء الطاعون يفتك في العمال ويصرعهم بالآلاف فخرج يستوثق من الخبر فإذا هو صحيح وإذا الموتى والذين في سكرة الموتى مختلطون هؤلاء بأولئك قد غصت بهم تلك المساكن الضيقة التي يعيش في أحدها فياله من سم جديد أضيف إلى ما قد أفعم به ذلك الهواء المنتن الخبيث ويا لها ضربة صعقت الأبناء والآباء والأقوياء والضعفاء ونكبة اجتمع فيها العقلاء والسفهاء والأعداء والأولياء.

وماذا لديه من أسباب الهرب وسبل الفرار؟ الحمد لله لا منجى ولا مهرب ولا منفذ ولا مذهب ومكث الرجل حيث هو ومات أحبابه بعينيه وأتاه قسيس يحاول أن يخفف عنه ويرقق فؤاده في تلك المحنة التي تنسى المرء أخلاقه وتخرج الإنسان من سجيته ولكن الرجل أجاب قائلاً:

أي فائدة في كلامك لرجل كتب عليه المقام في هذا المكان الخبيث فعادت نقمة وعذاباً كل حاسة أرادها الله له باب نعمة ولذة وأصبحت كل لحظة من عمره عبأ يضاف إلى ما يفدحه من الأعباء ويهد كاهله من الاثقال أعرني نظرة إلى السماء ونفساً من خالص الهواء وأكحل عيني بمرود الضياء واسقني جرعة من سائغ الماء وأعني على النظافة وخفف عني ثقل هذه الحياة ورقق من كثافة هذا الهواء وترفق بهذه الجثث وأحملها من هذه الغرف الضيقة فلقد ألفنا صورة الموت حتى كاد يذهب من نفوسنا جلاله وهيبته.

كل ذلك والرجل منكمش في عمله ونه كذلك ذات يوم وبه من الحزن والوحشة ما به إذ وقف عليه رئيسه في ثوب حداد وكان قد فجع بزوجته وكانت جميلة وبرة كريمة ورزء كذلك ابنه ولم يكن عنده سواه.

قال الرجل أيها الرئيس أنك قد رزئت جليلاً وفارقت خليلاً فعزاء حسناً وصبراً جميلاً وقد أعطيك السلوان لو أملكه ولكن أين مني ذلك.

فشكره الرئيس ولكنه قال ويل منكم معشر العمال. منكم نبع الداء ونجم البلاء. ولو أنكم أطبتم معايشكم وعنيتم بأسباب النظافة والصحة لما بت أندب غلامي ثاكلا وأبكي زوجتي أرملاً.

فهز الرجل رأسه قائلاً إنه لن تصلح الأحوال حتى تشركنا الحكومة معها في الحكم والإدارة وأنا لا نستطيع إلى الصحة والنظافة سبيلاً حتى يهيء لنا ولاة الأمر أسباب ذلك ولا نجد الطريق إلى العلم حتى يأخذ ولاة الأمر بأيدينا ولا نهتدي إلى سبل اللهو الحلال حتى يهدينا ولاة الأمر إليها وإن مضار هذا الإهمال والتفريط وإن لم تنجم إلا بيننا ولكنها لا تنتهي عندنا بل تتعدانا إلى سائر الطبقات غيرنا حتى يفشو المصاب وتعم البلوي.

ولكن الرئيس قال ويحكم معشر العمال ما نكاد نسمع ذكركم إلا مقروناً بإحدى المصائب!.

فأجاب قائلا: ما منا تبتدئ ولا فينا تنتهي المصائب.

وقد كان في قوله هذا من الحق في نازل الوباء من البؤس والضر ما حمل الحكومة على عزيمة إشراكه في شيء من الأمر - على الأقل في الاحتياطات اللازمة لأبادة الوباء ولكنه ما زال خوفهم حتى أنحوه عن زمرتهم واستبدوا بالأمر دونه فعاد الوباء أشد طغياناً وأحصد فتكاً.